يقول روبرت غرين -في كتابه 33 استراتيجية للحرب- إن العنصرين الجوهريين في الحرب هما السرعة والتكيف؛ وإنه من الضروري أن تبنى صيتًا عن نفسك بأنك مجنون بعض الشيء؛ لأن انعدام اليقين أفضل من التهديد المُعلن، فإذا لم يكن أعداؤك متأكدين ما الذي سيكلفهم جراء العبث معك، فلن يرغبوا باكتشاف ذلك، وأثناء تقاعسهم عن الاكتشاف، قُم بهجومك المباغت، فتنتصر.
يسعى هذا التقرير إلى استعراض ثغرات في خطة الحرب الإسرائيلية على المستوى العسكري ومستوى القيادة، والتي انضمت إلى قائمة الأسباب التي ساهمت في إيقاع الهزيمة بالجيش الإسرائيلي على يد القوات المسلحة المصرية.
اعتمد هذا التقرير على العديد من القراءات والمعلومات الواردة في أعمال جاءت ضمن التأريخ الإسرائيلي لحرب أكتوبر، أو بعض ما ورد في تحقيقات لجنة “أجرانات” لتقصي الحقائق التي تم تشكيلها عقب انتهاء الحرب، والتـي ألقت باللائمة على قيادة جهاز الاستخبارات العسكرية المتمثلة في إيلي زعيرا ورئيس الأركان دافيد أليعازر وقائد الجبهة الجنوبية شموئيل غونين؛ في الوقت الذي أخلت فيه ساحة وزير الدفاع موشيه دايان ورئيسة الوزراء غولدا مائير.
النتائج العكسية لاتساع العمق الإسرائيلي بعد حرب 1967
بعد حرب 1967، احتلت إسرائيل مساحة تبلغ ثلاثة أضعاف مساحتها. فقبل هذا التاريخ، كانت إسرائيل تمتلك ميزة هامة وهي سرعة التحرك والانتشار الفوري والاستجابة بسبب قرب مواقع العمليات من بعضها البعض، وكذلك سرعة وصول قوات الاحتياط الى مناطق القتال المحددة على وجه السرعة، إضافة إلى سيولة التواصل بين تل أبيب والجبهة، حيث كانت مساحة التحرك تتم في نطاق 12 ميلاً فقط. لكن اتساع هذه المسافة لنحو ثلاثة أضعاف قد جعل التحرك والانتشار يمر بالعديد من المراحل الاستهلاكية، ونقاط تأكيد الحركة، الأمر الذي تسبب في تعاظم البيروقراطية العسكرية التي من شأنها أن تقوض مرونة الانتشار.
دور عنصر المفاجأة في انهيار خطة الدفاع الإسرائيلية
وضعت إسرائيل خطة لصد هجوم القوات المصرية، والتي عرفت بخطة الدفاع “دوف كوت Dovecote” أي (عش الحمائم). وقد هدفت هذه الخطة لتشكيل خط دفاع على الجبهة الجنوبية (سيناء) عبر تشكيل يتكون من لواء مشاة، وقفت خلفه فرقة مدرعة على مسافة 50 ميلًا إلى الوراء.
استند عمل هذه الخطة على أنها سوف تمتلك الوقت الكافي للإنذار من أجل تمكين الدبابات من التحرك للأمام لحماية النقاط الستة عشر على طول خط بارليف، ويساندها في ذلك سلاح الجو الذي سيتم استدعاؤه، إلى أن يتم استدعاء قوات الاحتياط لبدء الهجوم المضاد.
افترض واضعو هذه الخطة أنها ستحتاج 48 ساعة لتنفيذها. إلا أن الهجوم المصري المفاجئ قد أفقد هذه الخطة قدرتها على التعامل، فعلى الرغم من أن المعلومات التي وصلت لتل أبيب قد أكدت أن المصريين سيقومون بالهجوم في تمام السادسة مساء يوم السادس من أكتوبر، إلا أنه لم يكن وقتًا كافيًا أيضًا لجعل خطة ” دوف كوت” جاهزة للتنفيذ، حيث بدأ الهجوم المصري فعليًا الساعة الثانية ظهرًا وليس السادسة مساءً، ومع بدء التقدم غير المنظم للدبابات الإسرائيلية نحو القناة، كانت قد اصطدمت بوابل من الصواريخ المصرية المضادة للدبابات.
ومع الانتهاء من تركيب الجسور الأربعة عشر، بدأت القوات المصرية في العبور بطول القناة بخمس فرق مشاة ومئات الدبابات التي صعب على الجانب الإسرائيلي حصرها إلا بعد نحو 24 ساعة من بدء الهجوم.
ويمكن القول إن مواجهة عكسية تستحق التوقف أمامها حدثت في هذه الحرب على مستوى أدوات القتال، ففي حين أن الجيش الإسرائيلي وضع اعتماده الأكبر في إدارة العمليات على الدبابة كسلاح رئيسي، حيث شكلت الدبابات الأمريكية M48 والدبابة M60 عماد القوة الإسرائيلية الضاربة. كان الجيش المصري قد دفع بالعنصر البشري المجرد “الجندي ” المسلح فقط بصواريخ الآر بي جيه المحمولة وصواريخ ساغر لتحييد الدبابات في المرحلة الأولى من الهجوم كأداة قتال رئيسية، وهو الأمر الذي لم تتوقعه إسرائيل.
يمكن وصف هذا التكتيك بأنه كان مفهومًا جديدًا على الحرب الحديثة، أي الفرد في مقابل الدبابة أو الطائرة؛ حيث ساعدت مرونة الحركة وكثافة الإطلاق على تسهيل إدارة عمليات القتال لصالح القوات المصرية، وتساقطت مئات الدبابات الإسرائيلية بفعل هذا التكتيك الذي اعتمد على الجندي وأسلحته المحمولة. وهو ما دفع إسرائيل لاحقًا لإخضاع دباباتها للفحص، وبالفعل تم اختبار كافة نقاط الضعف التي تسببت في كثافة سقوط الدبابات الإسرائيلية عبر زيادة مستويات التدريع الخاصة بهذه الطرز من الدبابات لتستطيع تجاوز اشتباكات مشابهة لاحقاً.
الجسور السوفيتية غير صالحة للاستخدام الإسرائيلي
كان من ضمن الاقتراحات التي تم عرضها في مقر القيادة الإسرائيلية بتل أبيب العمل على استخدام الجسور المصرية أثناء البدء في الهجوم المضاد يوم الثامن من أكتوبر، مع أهمية تدمير عدد منها، باعتبار أن القوات الإسرائيلية لا تحتاج العبور نحو كل النقاط التي عبرت منها القوات المصرية.
وبالفعل كانت رسالة من قائد سلاح الجو الإسرائيلي قد وصلت إلى مقر القيادة تؤكد تدمير 7 جسور مصرية، الأمر الذي تسبب حينها في حالة من الارتياح، حيث كان الإسرائيليون في حاجة ماسة لتحسس أي انتصار مهما كان ضئيلًا، إلا الجنرالات الإسرائيليين فوجئوا بأن الجسور السوفيتية التي استخدمها المصريون قد صُممت لحمل الدبابات السوفيتية الخفيفة، وليس الدبابات الأمريكية الثقيلة التي استخدمها الإسرائيليون، وبناء على هذه المعلومة تحتم تغيير نقاط في خطة الهجوم المضاد.
الإسرائيليون يحاربون العقيدة “المصرية” لا “السوفيتية”
نظرًا لاعتماد القوات المسلحة المصرية بشكل موسع على الدعم السوفيتي العسكري لسنوات طويلة قبل حرب أكتوبر 1973، فقد ظنت القيادة الإسرائيلية أنها على علم بخطط المصريين وتكتيكاتهم العسكرية التي يستخدمونها والتي سيستخدمونها، وبناء على ذلك فقد تم وضع الكثير من تحركات القوات الإسرائيلية على أساس أنها تواجه السوفييت وليس المصريين.
وعلى سبيل المثال، افتقر القادة الإسرائيليون إلى فكرة واضحة عن مواقع المصريين، نظرًا لنقص وحدات الاستطلاع المقابلة للجبهة المصرية، الأمر الذي دفع هؤلاء القادة للافتراض أنهم يواجهون السوفييت وليس المصريين، حيث استندت الخطة على التخمين حول الأماكن التـي ستمركز فيها المصريون، حسب ” العقيدة السوفيتية”، حيث تمثل الاعتقاد بناء على ذلك بأن المصريين قد بلغوا خطًا على مسافة سبعة إلى ثمانية أميال شرقي القناة، بدلًا من ثلاثة إلى أربعة أميال، وهو الأمر الذي لم يحدث بطبيعة الحال، حيث كثفت القيادة المصرية الدفع بقوات المشاة المُسلحة بأسلحة مضادة للدبابات في نطاقات أضيق مما تصور الإسرائيليون، ومع اتساع طول الجبهة التي افترضها الجانب الإسرائيلي تحتم عليه توزيع قواته على مساحات أفقية أوسع، الأمر الذي وفر فرصة لقوات المشاة المصرية للقيام بمهام سريعة دون مواجهة التحام عنيف بالقوات الإسرائيلية.
فشل نظام القيادة المعروف بالسيطرة الاختيارية
ساهم انتصار الإسرائيليين في حرب حزيران يونيو 1967 في تنامي الشعور بالقوة والتأكيد الدائم على أن الجيش الإسرائيلي لا يُهزم، وقد تسبب هذا الشعور في وضع نُظم قيادة تميز بالغرور بعض الشيء والركون إلى تجارب قيادية ليس من المؤكد مدى فعاليتها، وكان من ضمن هذه التجارب نظام “السيطرة الاختيارية” وهو نظام صُمم لإتاحة الاستقلالية الأقصى إلى القادة الصغار، مع منح القيادات العليا خيار التدخل بأية لحظة.
وعلى الرغم من ارتفاع كفاءة القادة الصغار في 1973 عما كان الوضع عليه في 1967، إلا إن عدة أمور أثرت على كفاءة القيادة الإسرائيلية، ومنها: غياب الثقة بين القيادات وتضارب آرائهم وصعوبة عمليات الاتصال بما جعل عمل نظام القيادة والسيطرة صعبًا ومربكًا في كثير من الأحيان، وانتهى الأمر بضرورة انتظار القرارات بخصوص العمليات مهما كانت بساطتها من تل أبيب، الأمر الذي ترتب عليه خلل في التوجيه وإصدار القرارات الخاطئة، حيث أصبحت العمليات العسكرية رهن التنافس في إثبات صحة وجهة النظر.
بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت حمى تصاعد الخلافات بين القادة الإسرائيليين هي المميزة للفترة السابقة للحرب، فرغم أن الجنرال شارون مثلاً كان قد لعب دوراً مهماً بالنسبة للجيش الإسرائيلي إبان سنين حرب الاستنزاف بوصفه قائداً للمنطقة الجنوبية، إلا أن تصاعد الخلافات بينه وبين رئيس الأركان “ديفيد أليعازر” ما ترتب عليه إبعاد الجنرال شارون عن قيادة المنطقة الجنوبية في يوليو عام 1973 واستبداله بالجنرال بشموئيل غونين.
ورغم عودة شارون إلى الجبهة عند اندلاع الحرب إلا أن الخلافات بينه وبين القيادة كانت لا تزال مستمرة وأهمها مخالفة قرار من القيادة بإيقاف تقدم للكتيبة التي يقودها الجنرال شارون بما ألحق خسار فادحة بالقوة الإسرائيلية، وهو الخلاف الذي تم استعراضه لاحقاً في تقارير لجنة أجرانات؛ حيث كان قائد المنطقة الجنوبية، العائد إلى الخدمة بارليف، قد أرسل لرئيس الأركان طلبين في 9 أكتوبر و13 نوفمبر 1973 لإقصاء الجنرال شارون بسبب سلوكه وخرقه للأوامر بما تسبب في وقوع خسائر بالقوات. وكلها أمور أثرت على كفاءة الأداء على مستوى القيادة وبالتالي ارتباك إدارة الميدان في أوقات حاسمة.
خط بارليف… قطعة من الجبن السويسري
“خط بارليف، يبدو كقطعة جبن سويسري، به من الفتحات أكثر ما به من الجُبن”
هكذا تم توصيف البنية الفنية والعسكرية لخط بارليف، الذي ساهم في توفير الشعور بالأمان لدى الجنود الإسرائيليين، حيث بات هناك تصور بشأن حتمية فشل أي هجوم مصري أمام عظمة وإمكانيات هذا الخط.
في واقع الأمر، لم تحظ فكرة إنشاء خط بارليف بموافقة واسعة دخل القيادة الإسرائيلية، حيث تم تداول نظريتي قتال داخل الجيش الإسرائيلي في هذه الأثناء، وهما الدفاع الثابت والدفاع المتحرك.
كان شارون واحدًا من أهم الجنرالات الذين رفضوا فكرة الاعتماد على الدفاع الثابت وبالتالي فإنه لم يكن موافقاً على مقترح بناء خط بارليف حيث أكد على أن أفضل استراتيجية للدفاع عن سيناء يجب أن يتم بواسطة مزيج من الدوريات الأمامية والقبضات المدرعة الخلفية، وأن اللجوء الى خط بارليف إنما يعمل على تحويل القوات الإسرائيلية إلى قوات ثابتة وليست متحركة، وهو الأمر الذي سيعيق الحركة بشأن صد أي هجوم مصري.
ثبت أيضاَ أن معاقل خط بارليف التي افترض أن تكون عيون القيادة الاسرائيلية في سيناء كانت متباعدة عن بعضها كثيرًا، الأمر الذي جعل محطات المراقبة تُخفق في رصد وتقييم الهجوم المصري.
في تل أبيب… الارتباك سيد الموقف
يقول نابليون بونابرت: ” جنرال واحد سيئ، أفضل من جنرالين جيدين“
تسبب الهجوم المصري المفاجئ في إحداث حالة واسعة من الارتباك والتخبط خلال الأيام الأولى للحرب، سواء داخل مقر القيادة الإسرائيلية بتل أبيب، أو داخل مقرات قادة الجبهات في الميدان.
كان قد تم استدعاء العديد من الجنرالات المتقاعدين أو بمعنى آخر للحفرة، وهي مجمع قيادي يقع تحت الأرض في مبنى الأركان العامة بتل أبيب، لعلهم يستطيعون القيام بما من شأنه تحويل دفة الأمور لصالح القوات الإسرائيلية، إلا أن هذا الاستدعاء الموسع قد ارتد سلبًا على سلاسة عمل القيادة واتخاذ القرارات، حيث شعر كل جنرال من هؤلاء الجنرالات المتقاعدين أنه من الضروري أن يقوم بإبداء رأيه باستمرار خشية ألا يظهر في الصورة، حتى لو لم تستدع الحاجة.
كانت قيادة الأركان قد تقدمت بخطة في يوم 7 أكتوبر بخصوص ترتيبات الهجوم المضاد، والتي اشتملت على ثلاث خيارات؛ الأول يقتضي بإطلاق هجوم مضاد محدود من قبل فرقة واحدة، والثاني جاء عبر موشى ديان وهو الانسحاب، أما الثالث فهو القيام بهجوم مضاد بفرقتين على جبهة سيناء وجبهة الجولان.
حظي المقترح الثالث بشأن القيام بهجومين مضادين في سيناء والجولان يوم 8 أكتوبر بموافقة الحكومة، وهو ما عُد خروج واضح عن عقيدة الجيش الإسرائيلي، الذي اعتقد دومًا باستحالة تنظيم هجومين رئيسيين ضد خصمين في آن واحد، وكان ذلك الخروج عن العقيدة مرتبطًا بحالة الارتباك الواضحة في صفوف القيادة والرغبة الملحة في تحقيق أي انتصار مهما كان ضئيلًا.
تسبب الاستعجال في تحقيق أي انتصار في تعرض قوات الهجوم المضاد إلى خسائر جسيمة، خصوصًا أفواج الدبابات، حيث أطلق موشى ديان نظرية “العصفورة” والتي تعني أن القوات المصرية ستتشتت كالعصافير عند سماعها لدوي انفجارات متوالية ودائمة، وهو ما يمكن بواسطته تفسير السبب الذي جعل القيادة الإسرائيلية تدفع بفرقة دبابات واحدة غير منظمة دون استطلاع مسبق في ظل غياب الدعم الجوي والمدفعي.
إلا أن القوات الإسرائيلية قد بدأت في استيعاب الموقف وتنظيم إدارة العمليات، حيث كان الجنرال شارون قد وضع خطته لغرض احتواء الهجوم المصري، وعينه على الدفر سوار التي له خبرة بجغرافيتها حيث كان قد درب قواته على محاكاة هجوم مشابه للعبور من قطاع الدفر سوار وذلك عندما كان قائداً للمنطقة الجنوبية.
وبالفعل تم الدفع بثلاث ألوية نحو 3 قطاعات مختلفة (القطاع الأوسط- القطاع بين الطريق الأوسط والدفر سوار- قطاع شمال الإسماعيلية)، بتاريخ التاسع من أكتوبر، وهو الهجوم الذي ترتب عليه اختراق الطريق الأوسط شمال شرق بحيرة التمساح، وإيقاف تقدم القوات المصرية تجاه ممر الجدي ورأس سدر.
ويمكن القول إن هذا التحول قد رسم شكل المعارك حتى انتهاء الحرب من حيث تكثيف الهجمات المصرية من أجل دفع القوات الإسرائيلية للخلف، إلا أن القوات الإسرائيلية كانت قد استطاعت تثبيت موطأ قدم يصعب حلحلته. وببدء الجسر الجوي الأمريكي يوم 14 أكتوبر كان تحولاً أخر قد بدأ يؤثر في إدارة المعارك بما يعنيه هذا التحول من ظهور فجوة بين قدرات التسليح المصرية والإسرائيلية وتوفير خط إمداد غير منتهي من الأسلحة الأمريكية لإسرائيل بما تعنيه هذه الاستدامة من ضمان صمود الجيش الإسرائيلي مهما طال زمن الحرب مقابل استنزاف للقوات المصرية في ظل عدم وجود إسناد ودعم مقابل بإمدادات الأسلحة.
خاتمة
قاعدة | اعرف كيف تنهى المسائل، فالنهايات غير المكتملة أو الفوضوية يظل يتردد صداها لسنوات. يقوم فن إنهاء المسائل أو استراتيجية الخروج على معرفة متى تتوقف. حيث إن ذروة الحكمة الاستراتيجية هي أن تتجنب جميع النزاعات التي لا مخارج واقعية لها.