لا يوجد سبب في ظاهر الأمر يجعل الطائرات المقاتلة السعودية تحلق فوق البحر الأبيض المتوسط. فاليونان، من جانبها، لديها القليل من الاهتمام الاستراتيجي في منطقة الخليج. إذ يأتي نفطها بشكل أساسي من العراق وروسيا. من ناحية أخرى، كان الوجود الأخير لليونانيين في الخليج أثناء حربهم ضد الفرس قبل ألفي ونصف عام.
ومع ذلك، حلقت طائرات حربية سعودية من طراز F-15 من قاعدة خليج سودا الجوية في جزيرة كريت إلى جانب الطائرات النفاثة اليونانية في مناورات مشتركة الشهر الماضي. وفي الأسبوع الماضي، عادت طائرات F-16 اليونانية للعمل مرة أخرى، هذه المرة إلى جانب طائرات F-16 من الإمارات العربية المتحدة، وكذلك إسرائيل. وقد بلغ هذا التمرين، الذي يحمل الاسم الرمزي إنيكوس (تشاريوتير)، ذروته في طلعة طيران رمزية للغاية فوق الأكروبوليس.
يصادف هذا العام الذكرى المئوية الثانية لحرب استقلال اليونان عن الإمبراطورية العثمانية، ويتجمع الرعايا الأتراك السابقون مرة أخرى ضد أسيادهم الاستعماريين السابقين. من جهتهما، لم يوقع وزيرا الدفاع والخارجية اليونانيان اتفاقية دفاع مع المملكة العربية السعودية فحسب، بل أكدا أيضًا التقارير التي تفيد بأنه تمت الموافقة على إقراض نظام صواريخ باتريوت للمملكة؛ ما يعني أن اليونان تتولي دور دفاعي عادة ما تلعبه الولايات المتحدة. من جهته، قال وزير الخارجية نيكوس ديندياس، لصحيفة عرب نيوز السعودية ” هذا التحالف الجديد حدوده السماء، مؤكداً أنها حقبة جديدة من التعاون” . لكن في الواقع إنها ليست حقبة جديدة تمامًا. حيث لم يقاتل كل من اليونانيين والعرب العثمانيين فحسب، بل أيضًا كانت اليونان الداعم الأوروبي الرئيسي للقضية الفلسطينية، واستثناها السعوديون والإماراتيون على وجه التحديد من مقاطعة النفط في السبعينيات بسبب موقفها المناهض لإسرائيل.
ومع ذلك، فإن حقيقة أن الدول الثلاث تقف الآن في نفس الجانب مع إسرائيل، وتتدرب معًا فوق شرق البحر المتوسط، هي علامة على كيفية تشكيل نظام استراتيجي جديد في المنطقة في الوقت الذي تفقد أمريكا الاهتمام به.
تم تعليق العداء المتبادل طويل الأمد بين تركيا واليونان في العقود الأخيرة بسبب عضويتهما المشتركة في الناتو. ومن ناحية أخرى، لطالما اعتبرت المملكة العربية السعودية تركيا منافسًا لقيادتها للعالم الإسلامي السني، لكن كلاهما كان تابعًا للولايات المتحدة، من حيث موقفهما الدفاعي.
لكن تغير كل شيء الآن، مع مشاركة كل من الرؤساء أوباما وترامب وبايدن في هدف إخراج الولايات المتحدة من مستنقع الشرق الأوسط العسكري وحقوق الإنسان.
فمن ناحيته، خفض بايدن إمدادات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية بسبب مشاركتها في الحرب في اليمن، مما يدل على أنه لا يمكن الاعتماد على هذا الدعم حتى ضد القوى التي يعتبرها الأمريكيون أنفسهم معادية.
أعداء السعودية في اليمن هم جماعة الحوثي المتمردة المدعومة من إيران. لذلك، يهدف نظام الدفاع الجوي باتريوت الذي ستشتريه السعودية من اليونان لحماية السعوديين من الهجمات الصاروخية سواء من الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون أو مباشرة من إيران. وهي تحل محل بطاريات باتريوت التي أمر بايدن بسحبها.
قال ثيودور كاراسيك، كبير مستشاري شركة جولف ستيت أناليسيس، وهي شركة استشارية في واشنطن، إن “هذه الاتفاقيات لا تتعلق بتركيا فقط. بل يتعلق الأمر بالبيئة الاستراتيجية المستقبلية حيث تبدأ الولايات المتحدة في التركيز بشكل أكبر على مسرح المحيط الهادئ لمواجهة الصين”.
القوة الدافعة في هذه العلاقات الجديدة هي الإمارات العربية المتحدة، التي عارضت بقوة دعم تركيا للإسلام السياسي ودعت إلى تحالفات جديدة من الدول ذات التفكير المماثل لتقليل الاعتماد على “المظلة الأمنية” الأمريكية. ومع ذلك، فقد فشلت مشاريعها المبكرة في هذا المجال. لقد سحبت قواتها من اليمن قبل عامين، حيث كان من المفترض أن يكون تدخلها تدخلاً سريعًا جعلها متورطة في صراع طويل الأمد ثلاثي الاتجاهات. كما انه تقدم الدعم للرئيس المصري عبدالفتاح السياسي الذي عمل على النيل من جماعة الإخوان المسلمين. بالإضافة إلى تقديم الدعم لحفتر الي أطلق على نفسه لقب المشير. وبدورها أرسلت تركيا قوات وطائرات بدون طيار لمنع حفتر من الاستيلاء على العاصمة طرابلس.
وجدت الإمارات في إسرائيل ما تأمل أن يكون شريك أكثر موثوقية، التي قامت بتطبيع العلاقات معها في سبتمبر الماضي؛ ومع اليونان الدولة العضو في الناتو؛ وقبرص، وهي ليست عضو في الناتو بل في الاتحاد الأوروبي. وتشترك المملكة العربية السعودية، التي صارت رؤيتها متشابكة بشكل وثيق مع وجهة نظر الإمارات للعالم في عهد الأمير محمد بن سلمان.
في الوقت نفسه، تعمل الإمارات على تنمية العلاقات مع الشرق، حيث تقدم نفسها كوسيط بين باكستان، التي يُنظر إليها دائمًا على أنها حليف وثيق للسعودية، والهند، التي تربطها بدبي علاقة تجارية تمتد لقرن من الزمان.
وقال كاراسيك: “هاتان الدولتان الخليجيتان تتكيفان مع البيئة الجديدة من خلال تنويع التحالفات”. وتابع: “هذه الظاهرة ليست جديدة ولكن الجديد هو امتداد النفوذ السعودي والإماراتي في البحر الأبيض المتوسط، والذي يتناسب بنفس القدر مع اتساعهما في جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا من حيث النفوذ”.
ولعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن دول الاتحاد الأوروبي مثل اليونان وقبرص تنتقل للعب دور أمني مع دول الخليج، تمامًا كما يتقلص جزء كبير من دول التحالف الغربي من سجلها في مجال حقوق الإنسان.
من ناحيته، انتقد حزب “سيريزا” اليساري اليوناني المعارض الآن صفقة باتريوت، قائلاً إنها “تجاوزت الممارسات التقليدية إلى حد بعيد”. على الرغم من أن الحزب نفسه قد وقّع صفقات أسلحة مع المملكة العربية السعودية عندما كان في السلطة.
أصدر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهو مركز أبحاث يركز على الاتحاد الأوروبي، تحذيرًا في ورقة الشهر الماضي من أن القارة تخاطر بالتورط فيما اعتبرته صراعًا بين الإمارات العربية المتحدة وتركيا من أجل “إعادة تعريف الشرق الأوسط و شمال أفريقيا”. وقال إنه بدلاً من الانحياز إلى جانب واحد، يتعين على الدول الأوروبية أن تسعى إلى “عزل نفسها” عن الخلاف.
ثمة دلائل على أن تركيا والمملكة العربية السعودية يرون خطر القتال داخل العالم السني حتى في الوقت الذي يتحديان فيه إيران من جهة والضغط الغربي على حقوق الإنسان من جهة أخرى. ويمكن أن يكون موازنة نفور بايدن الواضح من المملكة العربية السعودية من خلال ازدراء مخطط له منذ فترة طويلة لتركيا دليلاً على ذلك، حيث أعلن أن المذابح العثمانية للأرمن قبل قرن من الزمان ترقى إلى حد الإبادة الجماعية.
قد يكون الأوان قد فات. غالبًا ما تتخذ الشراكات العسكرية، بمجرد الاتفاق عليها، حياة خاصة بها. وقالت سينزيا بيانكو، أحد مؤلفي ورقة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، لصحيفة ذا تايمز: “على الرغم من هذه المحاولات للتخفيف من حدة التصعيد، لا يزال يُنظر إلى تركيا بانعدام ثقة وعلى أنها لاعبة إشكالية. أما بالنسبة للرياض، فقد صارت العلاقات مع اليونان واللاعبين الأوروبيين الآخرين أكثر أهمية، في ضوء العلاقات الأكثر برودة مع الولايات المتحدة.