لطالما اعتقد ونستون تشرشل بأنه يجب أن نطلق على الحرب العالمية الثانية تعريف” الحرب غير الضرورية”، حيث وصفها ” بأنه إذا كان هناك حرب من السهل إيقافها فإنها كانت الحرب العالمية الثانية “. ففي الثلاثينات توفرت العديد من الفرص لدول الغرب من أجل التصدي لهتلر وإيقاف زحفه العسكري، إلا أن هذه الدول قد لجأت إلى اتخاذ قرارات خاطئة كان من شأنها أن سمحت للخطر النازي بالتمدد والوصول إلى إلى أعلى مستويات الوحشية. وقد يبدو أنه من المفيد التعرف على الاستراتيجيات الخاطئة التي اتبعها قادة الدول الغربية إبان الحرب العالمية الثانية بما يوفر دروساُ مهمة لقادة اليوم.
عندما وصل هتلر إلى السلطة في عام 1933، كان العديد من الدبلوماسيين الأجانب على دراية بأيديلوجيته القومية المتطرفة، وذلك منذ أن أعلن هتبر نيته إعادة تسليح ألمانيا في عامه الأول من الحكم، والانسحاب من عصبة الأمم واتفاقية نزع السلاح.
بموجب معاهدة فرساي الموقعة عام 1919 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، فإنه قد تم منع ألمانيا من بناء جيش يتمتع بقدرات هجومية، إلا أنه سرعان ما بدأت ألمانيا لاحقاً بإعادة تطوير جيشها وما كان سراً بات أمر معلوماً للجميع، حيث أعلن هتلر في عام 1935 أن ألمانيا قامت بتطوير سلاح الجو بالإضافة إلى توسيع قدرات القوات المسلحة بشكل عام. وهو ما يشكل انتهاكاً صريحاً لبنود معاهدة فرساي. ورغم أن بريطانيا وفرنسا كانتا تتمتعان في ذاك الوقت بكل أشكال السلطة للرد من خلال اتخاذ العديد من الإجراءات الاقتصادية أو العسكرية ضد ألمانيا، حيث كان من شأن تكثيف الضغط الغربي على ألمانيا أن يمنع وقوع أي عمل عسكري. وبالتالي يمكن اعتبار هذا التأخر في التصرف بمثابة الفشل الأول لدول الغرب في منع وقوع الحرب عندما كانت المخاطر في مستوى منخفض.
في عام 1936 قام هتلر بإعادة تسليح منطقة راينلاند – وهي منطقة منزوعة السلاح بين فرنسا وألمانيا بموجب معاهدة فرساي من أجل ردع أي عدوان ألماني مستقبلي على فرنسا. ورغم سهولة تدفق آلاف الجنود الجيش الفرنسي نحو هذه المنطقة إلا أنه لم يفعل ووقف ساكناً على بعد أميال من هذه المنطقة أثناء عبور 3000 جندي نازي نحوها، رغم أن قلق القادة الألمان من أن اي هجوم فرنسي من شأنه القضاء على الرايخ الألماني تماماً، إلا أن الفرنسيين لم يفعلوا. ففي ظل وضع اقتصادي سيء وعدم استجابة الحلفاء لتقديم الدعم، فإن الحكومة الفرنسية رأت أنه من الأفضل عدم التدخل لأنه سيكون مكلفاً للغاية. وكانت هذه هي المرة الثانية التي يسمح فيها الغرب الضعيف المفكك بتمدد الخطر النازي.
في مطلع عام 1938، هدد هتلر النمسا بالغزو، وأجبرها على الانضمام للرايخ الثالث، وفي هذه الأثناء اندلعت أعمال عنف معادية للسامية في النمسا لم يسبق لها مثيل. في حين لم يكن رد الحلفاء الغربيون على ضم هتلر للنمسا قوياً. وفي هذه الأثناء كان ضم النمسا يعني أن الرايخ الثالث قد زاد عدد سكانه، واستطاع الوصول إلى الاحتياطيات النقدية والموارد الصناعية الوفيرة للنمسا، ما يعني أن هتلر أصبح أكثر قوة مما مضى.
كان العديد من القادة السياسيين في كل من بريطانيا وفرنسا يعلقون آمالهم على استرضاء هتلر لتجنب الحرب، إلا أن استراتيجية الاسترضاء هذه كانت معيبة وقاتلة. وهي الاستراتيجية التي أدانها تشرشل في هذه الأثناء حيث وصفها وكأنها أشبه بإطعام التمساح الذي الذي سيأكلك في النهاية، حيث أدرك أن هتلر لا يشبع، وأنه كل إطعام للتمساح سيجعله أكثر خطورة.
وفي عام 1938، أسفر مؤتمر ميونيخ عن هدنة، كما وافق الفرنسيين والبريطانيين على طلب هتلر بالحصول على جزء من تشيكوسلوفاكيا، ورغم أن الفرنسيين والبريطانيين كان من المفترض أن يدافعوا عن الديمقراطية، إلا أنهم باعوا هذه الأمة الوليدة الناشئة لهتلر حيث وثقوا في وعوده، رغم عدم دعوة التشيكوسلوفاكيين حتى إلى مؤتمر ميونيخ. وقد ترتب على الخيانة الغربية كارثة أخرى، حيث فقدت مواردها الطبيعية ومناطقها الصناعية لصالح ألمانيا، ما جعلها عاجزة تماماً عن التصدي لمزيد من التوسع الألماني. كما ترتب على هذا السلوك الفرنسي والبريطاني أن جعل باقي الدول الغربية تقتنع بعدم وجود إرادة كافية لوقف تمدد هتلر.
إثر عودته من مؤتمر ميونيخ، أعلن رئيس الوزراء البريطاني “نيفيل تشمبرلن” أنه قد ” حصل على السلام لعصرنا هذا” . إلا أن هذا السلام كان قصير العمر، فبعد شهور قليلة من هذا الإعلان قام هتلر بفرض سيطرته على ما تبقى من تشيكوسلوفاكيا، ثم طالب بضم أراضي ليتوانيا وبولندا، حيث استسلم الليتوانيين بينما استمر البولنديين في المقاومة، ما دفع هتلر إلى اتخاذ قرار بتدمير بولندا. وفي اليوم التالي لغزوه بولندا فإن هتلر أخبر قادته “ أعداؤنا ليسوا رجالاً، وليسوا قادة، إنهم ديدان صغيرة، لقد رأيتهم في ميونيخ“. وبالتالي أتت استراتيجية الاسترضاء التي اتبعها الفرنسيين والبريطانيين بنتيجة عكسية، حيث أكدت التقاعس الغربي فيما أصبح هتلر أكثر ضراوة.
عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، كان لدى دول الحلفاء فرصة جيدة لهزيمة هتلر، فبينما كان هتلر يقوم بعملية تدمير بولندا، كان هناك أكثر من 100 فرقة بريطانية وفرنسية متواجدة على الحدود الفرنسية الألمانية مقابل قوة ألمانية أصغر بكثير. وفي هذه الأثناء تراجع البريطانيون عن شن هجمات جوية خوفاً من أن تقوم ألمانيا بالانتقام بالمثل. إلا أن الأحداث أثبتت لاحقاً بعد الحرب أن الألمان لم يكن لديهم القدرة على توجيه هذه الضربات الجوية في هذا التوقيت. حيث عبر القادة الألمان عن دهشتهم من أن الحلفاء لم يتخذوا قرارا بشن هجوم جماعي، الأمر الذي وإن تم حينها فإن ألمانيا لم تكن لتصمد إلا لمدة أسبوع أو أسبوعين فقط.
في العاشر من مايو 1940، كان الوقت قد نفد لدى الحلفاء، حيث قام نحو 3 مليون جندي ألماني بتدمير فرنسا والدول الواطئة. لم يكن الحلفاء مستعدين لاستراتيجيات إدارة الحرب الحديثة المتنقلة، وأعاقهم سوء التنسيق فيما بينهم، وفي غضون أسابيع هُزمت فرنسا، ووقع نحو مليوني جندي فرنسي في الأسر، حيث ستعاني أوروبا الغربية من الاحتلال النازي طيلة السنوات الأربع المقبلة، ورغم أن القارة سيتم تحريرها في النهاية، إلا أن كثير من الموت والدمار سيكون قد وقع.
هكذا، أضاع قادة الدول الغربية قبل الحرب والحلفاء إبان الحرب العديد من الفرص لإيقاف هتلر. أولاً: لم تتخذ الحكومات الغربية اجراءات حاسمة ضد النازيين، حيث ظلوا منقسمين في وجه تهديد متزايد. ثانياً: أن معارضتهم لهتلر في بعض الأحيان وتصديهم له اعتمد على أنصاف الحلول وأنصاف التدابير وعدم الدقة. حيث أثبتت هذه الاستراتيجيات مدى كارثيتها. ورغم أن لا يوجد ما يغفر لألمانيا ما قامت به، إلا أن افتراض وجود قيادة قوية للدول الغربية في هذه الأثناء كان من شأنه إحتواء الشر النازي قبل أن يتمدد ويتسبب في هذه المآسي الفظيعة.