منذ الحرب الباردة، تدهور استخدام أمريكا للعمليات النفسية واستبدلتها بالتركيز على القوة الخشنة. هذا في الوقت الذي حققت فيه روسيا أعظم نجاحاتها من خلال الحرب النفسية. أثار هذا التباين شكوكًا تحوم حول إمكانية لحاق الجيش الأمريكي بركب الجيش الروسي في هذه النقطة، وبشأن تحديث أجهزته النفسية ضد روسيا للقرن الحادي والعشرين، وإحياء تقليده القوي في الماضي المتمثل في كسب القلوب والعقول.
ينبع تركيز موسكو على العمليات النفسية إلى حد كبير من تصوراتها للدور الذي لعبته القوة الناعمة لأمريكا في تفكيك الاتحاد السوفيتي. إنهم على حق: فالحرب النفسية، التي يتم تنفيذها غالبًا من خلال انتشار الثقافة الأمريكية عبر الحدود الشيوعية، حرضت على المعارضة في أوروبا الشرقية. خلال تلك الحقبة، أدركت وكالة المخابرات المركزية أن أفضل طريقة لمكافحة النفوذ السوفيتي كانت من خلال انتشار المعلومات والثقافة، التي تعمل على مواجهة الأهداف الشيوعية. يفهم معظمنا الذين عاشوا في أوروبا الشرقية التأثير الهائل الذي تتمتع به موسيقى “الجاز” و”الروك أند رول” الأمريكية وأفلام هوليوود والفن الحديث على آرائنا العالمية وسقوط الستار الحديدي.
يتذكر فلاديمير بوتين ذلك. فبعد فترة وجيزة من وصوله إلى السلطة، قدمت حكومته أول مبدأ لأمن المعلومات. وبعد ذلك بوقت قصير، شن هجومًا إعلاميًّا بهدف الحصول على “سيطرة انعكاسية” على المجتمع الأمريكي. “التحكم الانعكاسي” مفهوم سوفييتي قديم، وهو غريب بالنسبة لمعظم الأمريكيين: ويعني باختصار التدخل في صنع القرار في بلد آخر حتى تضطر الحكومة إلى اتخاذ إجراءات لصالح روسيا. يتواصل هذا من خلال “التلاعب النفسي الهائل بالسكان لزعزعة استقرار الدولة والمجتمع،” على حد تعبير وزارة الدفاع الروسية، التي كان ظهور وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة لها أداة ذات فاعلية لا تقدر بثمن.
خطط الكرملين خطة انتقامية تستهدف استغلال الاستقطاب الأمريكي على أسس سياسية وعرقية، بهدف شل السياسة الأمريكية وعمليات صنع القرار. وبذلك، تأمل روسيا أن يقضي صناع القرار الأمريكيون الوقت والطاقة والموارد بطرق تفيد الكرملين.
من خلال إنشاء “قوات عمليات المعلومات” في عام 2017، وتخصيص المزيد من الموارد لوكالة أبحاث الإنترنت، أنشأت روسيا آلة قوية لحرب المعلومات. وهي أن تستغل وسائل الإعلام الحكومية الروسية والمتصيدون والوكلاء عبر الإنترنت الخلافات حول القضايا الاجتماعية مثل الإجهاض والسيطرة على الأسلحة والمجموعات العرقية وتمييز الشرطة للتحريض على الفوضى الاجتماعية في الولايات المتحدة. وبحسب وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو: “يجب أن تكون الدعاية ذكية وكفؤة وفعالة” في محاولاتها لبث الفتنة والانقسام.
لقد حان الوقت كي ترد واشنطن الصاع صاعين. بصراف النظر عن العواقب، فإن أفضل طريقة لتحييد جهود روسيا هي التغلب عليها في لعبة العمليات النفسية، وفرض “سيطرة انعكاسية” عليها، وإجبار الكرملين على التصرف بما يتماشى مع المصالح الأمريكية. بالطبع، قد لا يتوافق تبني التكتيكات الروسية المتلاعبة مع معظم الأمريكيين. ولكن على عكس حملات التضليل والتقسيم الروسية، يحتاج خبراء المعلومات لدينا فقط إلى تعزيز القيم العالمية لليبرالية وسيادة القانون والديمقراطية.
وبشكل ملائم، فإن نقطة ضعف الكرملين هي رغبة الشعب الروسي في مجتمع أكثر انفتاحًا. حيث أظهر استطلاع حديث للرأي أن ما يقرب من نصف الشباب الروسي لا يوافقون على فلاديمير بوتين. تمتلك روسيا أكبر عدد من مستخدمي الإنترنت في أوروبا، ويتجاهل العديد من مستخدميها الشباب البث إعلام الدولة، وبدلاً من ذلك يعتمدون على منصات التواصل الاجتماعي للحصول على معلوماتهم. بينما يسعى الشباب الروس إلى مزيد من الحريات، يزداد خوف بوتين من ثورة ملونة من شأنها أن تجرده من سلطته.
كما أن بوتين يقر، ولو بشكل غير مباشر، بضعفه أمام العمليات النفسية الأمريكية. إذ تكشف القراءة الدقيقة لنسخة 2016 من عقيدة أمن المعلومات لروسيا عن شعور بالضعف أمام “المعلومات والإجراءات النفسية” ضد سكانها. إذ جاء في التقرير: “هناك ضغط إعلامي متزايد على الروس، بشكل أساسي على الشباب الروسي، بهدف تقويض القيم الروحية والأخلاقية التقليدية الروسية.” يعلن تحديث هذا العام لاستراتيجية الأمن القومي لروسيا أن “السيادة الثقافية”و “القيم الروحية والأخلاقية التقليدية” للبلاد تتعرض “لهجوم نشط من الولايات المتحدة وحلفائها”.
يجب على الولايات المتحدة تحديث قدراتها الخاصة في العمليات النفسية لهذه الحملة الجديدة. إذ لن تنفع المنشورات التي تماثل منشورات الحرب الباردة وإذاعة أوروبا الحرة بعد الآن. يجب على وكالات الأمن القومي استبدال التكتيكات القديمة في التلفزيون والراديو بوسائل التواصل الاجتماعي والبدائل الذكية عبر الإنترنت. يجب أن تتعاون وحدات علم النفس الأمريكية بشكل وثيق مع عمليات المعلومات والوحدات الإلكترونية.
مع استمرار بوتين في الدفاع عن القيم التقليدية في روسيا، قد تستثمر الولايات المتحدة في مجموعة من المؤثرين الناطقين بالروسية على وسائل التواصل الاجتماعي (مثلما استغلت وكالة المخابرات المركزية رسومات الفنان الحداثي “جاكسون بولوك” خلال الحرب الباردة) لتعزيز القيم الليبرالية والحريات للشباب الروس. يجب على الولايات المتحدة أيضًا توفير منصات على الإنترنت للفنانين الروس الشباب الذين أسكتهم الكرملين.
بدلاً من الاستمرار في السماح لروسيا باستغلال منافسة الحرب النفسية غير المتكافئة، تحتاج الولايات المتحدة إلى جعل بوتين يفهم أنه إذا استمر نظامه في نشر عدم الاستقرار والانقسام، فيمكن لأمريكا أن تلعب ضده تلك اللعبة.