قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في لندن أواخر عام 2019 “اليوم، يمكن لتركيا أن تبدأ عملية لحماية أمنها القومي دون الحصول على إذن من أي شخص”. لقد كان تصريحًا للاستهلاك، ينتمي إلى الأسلوب الاستعراضي لأردوغان، وينم عن مزيج من ادعاء المظلومية، والطموح في الوقت نفسه . إلا أن الرئيس التركي لم يكن يُطلق تصريحات استعراضية هذه المره.
لقد كانت لحظة نشطة وحاسمة بشكل غير عادي في السياسة الخارجية التركية، حتى بالمعايير التي حددها حزب العدالة والتنمية الحاكم (AKP) طيلة ما يقرب من 18 عامًا في السلطة. ولكن على عكس مبدأ “صفر مشاكل” في الماضي، والذي اعتمد على قوة تركيا كدولة تجارية وعلاقاتها الجيدة مع جميع اللاعبين في الشرق الأوسط، عمدت أنقرة بشكل متزايد إلى عسكرة نهجها تجاه المنطقة بالإضافة إلى عدوانيتها التي اعتمدتها في السياسات طويلة الأجل في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط.
في كل تحرك من هذه التحركات، أثار الأتراك غضب مجموعة من الاتحاد الأوروبي وأعضاء حلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة والولايات المتحدة، لكن رد كل منهم لم يكن أكثر من التعبير عن القلق، مما وفر تصوراً أن أردوغان يتبع نهجاً صحيحاً بشأن تشكيل السياسة الخارجية لتركيا . لم تعد أنقرة راضية عن كونها مجرد حليفة للتحالف عبر الأطلنطي أو عضو طموح في أوروبا بل قوة في حد ذاتها. هذا إنجاز – لكنه إنجاز جزئي فقط. على الرغم من كل القوة والمبالغة العسكرية التي اكتسبتها أنقرة، فهي غير مقيدة بإستراتيجية متماسكة، وهو ما يمكن أن يمثل تداعٍ لتركيا.
لم تحصل السياسة الخارجية التركية في أي مكان على اهتمام واسع بنفس القدر الذي حصلت عليه في ليبيا. في نوفمبر الماضي، اتفقت الحكومة التركية والحكومة الليبية “المعترف بها دولياً” على ترسيم حدود سلطاتهما البحرية. كانت مذكرة التفاهم توسعية وليس لها أساس في الواقع أو القانون الدولي – على غرار رسم خطوط تعسفية على خريطة تقسم البحر الأبيض المتوسط.
في الشهر التالي، طلبت حكومة الوفاق الوطني في طرابلس مساعدة عسكرية تركية لمواجهة الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر. سرعان ما وصلت القوات التركية، إلى جانب الآلاف من مقاتلي الميليشيات السورية الذين وُعدوا بالمال والجنسية التركية للانضمام إلى القتال.
من الواضح ما العلاقة بين القادة في طرابلس، ولكن من غير الواضح تمامًا سبب قيام أردوغان – الذي يعاني من مشاكل اقتصادية وتحديات مصاحبة لوباء فيروس كورونا – بمغامرة عسكرية على بعد 1200 ميل من أنقرة. ما الفائدة التركية التي يمكن أن تخدمها؟ وبغض النظر عن عقود إعادة البناء المربحة المحتملة للشركات التركية، فإن مزيجًا من السياسة التركية وثلاث مصالح جيوسياسية ذات صلة هي ما وراء استعداد تركيا للخوض في الحرب الأهلية في ليبيا.
أولاً، سعى أردوغان منذ فترة طويلة إلى تسليط الضوء على هذا المبدأ الذي يقود السياسة الخارجية التركية خلال عهد حزب العدالة والتنمية. مثل دعوة أنقرة من أجل الحقوق الفلسطينية، وإصراره على أن الرئيس السوري بشار الأسد يجب أن يرحل، ومعارضته لإسقاط حُكم الإخوان المسلمين في مصر عام 2013،و دعم الحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في ليبيا . كل ذلك يأتي متسقًا مع فكرة أن أردوغان سعى إلى تثبيت موقف أنقرة. بصرف النظر عن الجهات الفاعلة الدولية في جهودها لدعم القواعد والمعايير. بالطبع تأتي هذه السياسات في إطار خدمة المصالح الذاتية، وهو هدف جيد لقاعدة الحزب الحاكم ويسمح للصحافة التركية المنبطحة بالثناء على زعيمها. كل هذه الأمور مهمة لأردوغان الذي يتطلع إلى انتخابات 2023 مع اقتصاد ضعيف باستمرار.
ثانيًا، تحركات أنقرة في ليبيا هي في الواقع حركة مضادة للعلاقات المزدهرة بين اليونان ومصر وقبرص وإسرائيل. رسمياً، لا يوجد مظهر أمني لما يُقصد به أن يكون اتحادًا لاستغلال الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، ولكن بالنظر إلى العلاقات المتوترة بين هذه البلدان – في أحسن الأحوال – مع تركيا، من الصعب ألا نرى في هذه العلاقات ما يسميه خبراء العلاقات الدولية بـ “التبعية”. بالإضافة إلى ذلك، عندما نظر الأتراك في تركيبة هذه العلاقات المتصاعدة، التي تحظى بدعم أمريكي، والطبيعة المتشابكة للمناطق الاقتصادية الخالصة اليونانية والمصرية والقبرصية والإسرائيلية، أمكنها ان تستنتج بشكل معقول أن حريتها في الملاحة في المنطقة يمكن أن تختنق.
ثالثاً، ليبيا مكان حيث يمكن لتركيا أن تتحدى خصميها الإقليميين وهما مصر والإمارات العربية المتحدة. إن القضايا التي تفرق بين تركيا ومصر معروفة جيداً. الدولتان على طرفي نقيض من القضايا الرئيسية التي تعصف بالشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا وغزة وقطر. كما أن تركيا من أكبر المؤيدين لجماعة الإخوان المسلمين، حيث تسمح لأعضائها المصريين بإنشاء تجارة رائجة في إسطنبول ونشر حملات دعائية ضد الحكومة المصرية في جميع أنحاء العالم. ومن جهة أخرى، يبدى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأردوغان ازدراء لبعضهما البعض .
كما أن ليبيا هي الفناء الخلفي لمصر، ولأن الإسلاميين جزء من الحكومة في طرابلس، فقد قدمت مصر الدعم لحفتر. وبدورها تتشارك الإمارات نفس الموقف من الإخوان المسلمين مع مصر.
على الرغم من النجاح الذي حققه الأتراك حتى الآن في ليبيا، فمن الصعب الكشف عن مدى ملاءمة جعل طرابلس حليفة لأنقرة في استراتيجية السياسة الخارجية والأمنية الشاملة. إنه بيان لبراعة تركيا ، ولكنه ليس مرتبطًا بهدف أكبر واضح بخلاف التحريض والانتقام.
إن ما يجعل مغامرة تركيا في ليبيا غريبة هو مدى انحرافها عن مجموعة أوسع وأكثر أهمية من السياسة الخارجية التركية ومخاوف الأمن القومي التي قد تبدو منطقية في سوريا والعراق. حيث أهداف تركيا واضحة هناك مثل – تدمير حزب العمال الكردستاني وضمان ألا تؤدي الحرب الأهلية السورية إلى دولة كردية على طول الحدود الجنوبية لتركيا بما يمكن أن تهدد البلاد. وبالمثل في بحر إيجة وشرق البحر المتوسط ، كان الأتراك عدوانيين بلا داعٍ.
بدون استراتيجية في ليبيا، قد يجد الأتراك أنفسهم مكشوفين ومرهقين. ليس من الواضح ما الذي يجعل أردوغان يعتقد أنه قادر على ضبط السياسة الليبية بطريقة تنهي تفتيت البلاد والعنف الحاصل فيها. حتى لو كان حفتر يلوح بالراية البيضاء، فإن الأتراك يعدون أنفسهم ليكونوا أجنحة لدولة فاشلة.
للمصريين مصلحة في ليبيا، مما يجعل من الصعب عليهم استيعاب وجود تركي قوي في الجوار. وبينما قد لا يتمتع الجيش المصري بنفس النوع من الكفاءة التقنية مثل نظيره التركي، يمكن للمصريين أن ينقلوا الكثير من القوة من حيث الأعداد الهائلة التي يمكن تحملها في ليبيا. قد يكون تحذير السيسي في أواخر يونيو بشأن الخطوط الحمراء المصرية في ليبيا خدعة، ولكن ليس هناك شك في أنه، مع الإماراتيين، سيكون على استعداد للعمل مع أطراف ليبية لتعطيل الأتراك وحلفائهم في ليبيا. وإذا لم يعمل مع حفتر، سيجد آخرين.
كانت تركيا تثير ضجيجًا مؤخرًا بالحديث عن استراتيجية أمنية جديدة تسمى “الوطن الأزرق”، والتي انبثقت عن رؤية معادية للغرب والقومية بشراسة، لكنها تتفق مع رؤية روسيا المستقبلية من ناحية تحضير ضباط بحرية على مستوى عالٍ. من المفترض أن هذا المزيج السام والمربك هو المبدأ التوجيهي لموقف تركيا الأكثر عدوانية في المنطقة، خاصة في البحر الأبيض المتوسط وليبيا. إنه مثير للاهتمام – وذلك لأنه يوفر نظرة ثاقبة على تفكير القيادة السياسية والعسكرية التركية العليا فقط. كاستراتيجية وطنية، فهي في الغالب تفاعلية ومرتبطة بمزيج من المظالم والرومانسية حول القوة التركية. هذا لا يعني أن القادة الأتراك غير قادرين على التفكير الاستراتيجي – لكن الأمر وما فيه أن استراتيجية الوطن الازرق ليست كذلك.
لذا، لا ينبغي أن يكون مفاجئًا لأي شخص في أنقرة أن التحالفات الإقليمية قد توطدت ضد تركيا وأن الجيش التركي يشارك في مهمة مفتوحة في ليبيا. إن امتلاك القوة أمر مهم، لكن ما تفعله الدولة بها هو الأهم.