سوف يراقب قادة الصين الحملة الرئاسية المثيرة للجدل التي تجري في الولايات المتحدة ويتساءلون ماذا تعني بالنسبة لهم. بعد أربع سنوات من الصراع مع دونالد ترامب، يتعين على الصينيين أن يعدوا الأشهر والأسابيع والأيام والدقائق التي تفصلهم عن انتخابات نوفمبر القادم، على أمل أن يتولي رئيس ديمقراطي أكثر مرونة مقاليد الأمور في البيت الأبيض، أليس كذلك؟
هذا بالتأكيد ما يؤمن به ترامب. حيث غرد في وقت سابق قائلاً: “إن الصينيين يتوقون بشدة إلى فوز جو بايدن بالسباق الرئاسي حتى يتمكنوا من الاستمرار في سرقة الولايات المتحدة، كما فعلوا لعقود من الزمان، إلى أن ظهرت أنا!”.
هذا ليس صحيحاً بالضرورة ومن منظور بكين، فبرغم أن رئيسًأ من الحزب الديمقراطي قد يستعيد شكلاً أكثر قابلية للتنبؤ من أشكال الدبلوماسية الأميركية، فإن هذا قد لا يخدم المصالح الصينية على أفضل وجه. والواقع أن أربع سنوات أخرى يصبح فيها ترامب رئيساً للولايات المتحدة قد تقدم للصين فرصاً مذهلة لتوسيع نفوذها حول شرق آسيا والعالم.
بطبيعة الحال، لا نستطيع أن نعرف على وجه اليقين ما هي النتيجة التي يفضلها كبار القادة في الصين، أو ما إذا كانوا حتى يتفقون فيما بينهم. لا ينبغي لأي مرشح أمريكي أن يتوقع تأييداً من جريدة “صحيفة الشعب اليومية”. مع ذلك، لا يزال هناك عدة شواهد يمكن الارتكان إليها.
في تعليق غير عادي إلى حد كبير، قال المفاوض التجاري الصيني السابق لونج يونجتو في مؤتمر شنجن في أواخر العام الماضي: “نريد إعادة انتخاب ترامب؛ وسيسعدنا أن نرى ذلك يحدث. إن تغريدات الرئيس تجعله مكشوف لنا، وبالتالي سيكون الخيار الأفضل كخصم في اللمفاوضات”.
في مايو، غرد هيو كيجين، المحرر الشهير وعضو الحزب الشيوعي ــ الذي يدير صحيفة جلوبال تايمز على تويتر موجهًا تغريدته لترامب بأن الصينيين” يتمنون إعادة انتخابكم لأنه من الممكن أن تجعلوا أميركا دولة غير مركزية وبالتالي مكروهة للعالم. أنت تساعد على تعزيز الوحدة في الصين. وأضاف هيو أن مستخدمي الإنترنت الصينيين يدعونك جيانجوو، أي المساعد في بناء الصين.” لعل لونج و هيو لا يتحدثان باسم قادة بكين، ولكن ما من شخصية رسمية أو شخصية في وسائل الإعلام في الصين تخاطر بالإدلاء بمثل هذه التصريحات علناً إذا كانت وجهات نظرهم محظورة في دائرة السلطة الداخلية.
ماذا جرى؟ يعتقد العديد من الأميركيين -خطأ- أن ترامب هو أول رئيس يتصدى للصين. ففي نهاية المطاف، فرضت إدارته تعريفات جمركية على صادرات الصين، وعاقبت بعض أهم شركاتها ومسؤوليها، وضغطت على بكين لحملها على ممارسة التجارة بنزاهة – أما الصينيين فيريدون المزيد؟ مما لا شك فيه أن بكين كانت لتتجنب مشاجرة تجارية مكلفة مع أكبر عملائها. ولكن قد لا يصيب ترامب نفس القدر من الرعب في قلوب القيادات العليا في بكين كما قد تتوقعون.
قال لي مينشين بي، وهو متخصص في السياسة الصينية في كلية كليرمونت ماكينا: “ترامب لديه بعض المشاعر الداخلية التي لا تحبها الصين، ولكن لديه مشاعر داخلية لا تهتم بها الصين حقا”. “إنه لا ينظر حقاً إلى الصين باعتبارها خصماً إيديولوجياً. ومن الممكن إقناع ترامب إذا كان السعر مناسبا.”
بالنسبة للصين قد يكون هذا حلا مؤجلا. ورغم أن ترامب قد اتخذ إجراءات في بعض الأحيان حيال القضايا السياسية وقضايا حقوق الإنسان التي وجدتها بكين حساسة للغاية، إلا أنه قد وقع في الآونة الأخيرة تشريع يفرض عقوبات على إساءة الحكومة الصينية معاملة الأقلية اليوغور ـ إلا أنه شخصياً أظهر في كثير من الأحيان وكأنه غير مهتم، بل ومتجاهل الأمر.
في كتاب جديد، ادعى مستشار ترامب السابق للأمن القومي جون بولتون أن ترامب قال للرئيس الصيني شي جين بينج على العشاء في أوساكا إن معسكرات الاعتقال التي كانت تبنى في بكين للسيطرة على مجتمع الأويغور هو الأمر الصحيح الذي ينبغي القيام به. كما اعترف ترامب مؤخرا بتأخير فرض العقوبات على المسؤولين المشاركين في المعسكرات من أجل تيسير المفاوضات حول صفقته التجارية المرغوبة مع الصين.
وقد أظهر ترامب تناقضا مماثلا تجاه حملة بكين المكثفة ضد المحتجين من أجل الديمقراطية في هونج كونج. ووعد الرئيس بفرض عقوبات صارمة ضد تحرك بكين الأخير ـ فرض قانون الأمن القومي على هونج كونج بهدف القضاء على ما تبقى من مقاومة ـ وأدلى وزير خارجيته مايك بومبيو بتصريحات عدوانية وتهديدات بشأن هذه الخطوة. ولكن التزام ترامب بقضية هونج كونج كان يبدو فاتراً في كثير من الأحيان. ففي العام الماضي، وبينما كان الملايين يتظاهرون في المدينة، تجنب دعمهم، حتى أنه عند نقطة ما تحدث على طريقة الحزب الشيوعي عندما وصف الاحتجاجات بأنها “أعمال شغب” وقضية صينية بحتة. فقد قال في أغسطس الماضي: “هذا أمر بين هونج كونج وبين الصين، لأن هونج كونج جزء من الصين”.
حتى عندما وصل الأمر إلى الشأن التجاري، أثبت ترامب أنه ضعيف. فقد أقنعه المفاوضون الصينيون ببراعة بتأجيل مناقشة القضايا الأكثر أهمية بالنسبة لبرامج الأعمال التجارية الأميركية التي تدعم المنافسين الصينيين بشكل كبير، هاك مثالاً ــ من “المرحلة الثانية” من المحادثات، التي لم تتحقق بعد. لكن بدلاً من ذلك، قرر ترامب عقد صفقة أضيق نطاقاً من “المرحلة الأولى”، تم التوقيع عليها في يناير، وكانت تتمحور في الأساس حول مشتريات صينية كبيرة من المنتجات الزراعية الأميركية، ولكنها لم تتضمن سوى القليل لتغيير ممارسات بكين التمييزية.
ولم يفعل ترامب سوى أقل من ذلك لاحتواء نفوذ الصين المتزايد على الساحة العالمية. حيث كانت نتيجة ازدراء إدارته للمؤسسات الدولية التنازل عن نفوذها لصالح الصين ــ وخاصة مع إعلانه مؤخراً عن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية ورغم أن بومبيو انتقد مراراً البرنامج الدبلوماسي الذي اقترحه الرئيس الصيني، أو مبادرة بناء أحزمة الطرق، باعتباره فخًا خطيراً للوقوع في شرك الدول الفقيرة الفاشلة، فإن الإدارة لم تكلف نفسها عناء تقديم بديل.
لقد اعترض ترامب بشكل أكثر عدوانية على ادعاء بكين المثير للجدل حول بحر الصين الجنوبي بالكامل تقريبا من خلال زيادة وتيرة البعثات البحرية التي ترسل عبر المياه المتنازع عليها لدعم حرية الملاحة، ولكنه لم يتبع ذلك بأي دبلوماسية متسقة في جنوب شرق آسيا، وهو نفسه تجاهل القضية بشكل عام.
من جهة أخرى، قال جريجوري بولينج، مدير مبادرة آسيا للشفافية البحرية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن: “إن قيادة الصين واثقة إلى حد كبير من أنها، على الرغم من أنها لم تفز بعد ببحر الصين الجنوبي، فقد فازت بكل تأكيد. وسيتطلب منع ذلك بذل جهد دولي جماعي بقيادة الولايات المتحدة، ولكن يمكنكم أن تكونوا على يقين تام من أن ذلك لن يحدث في ظل إدارة ترامب”.
وهنا يكمن السبب الرئيسي الذي قد يدفع بكين إلى عدم ممانعتها تولي ترامب لمقاليد الأمور في البيت الأبيض لولاية أخرى: ذلك أن أسلوبه في السياسة الخارجية الأحادية الجانب، والتي تتسم بالشخصية، والتي تركز على الدولار والسنت ، كانت سبباً في إضعاف النظام التقليدي للتحالفات الأميركية إلى حد كبير.
ففي حين حاول الرئيس باراك أوباما أن “يستدير” نحو آسيا، لم يهتم ترامب إلا قليلا بالمنطقة، وخاصة بعيداً عن التجارة ومغازلته العابرة مع كيم جونج أون في كوريا الشمالية. لا شك أن بكين لاحظت أن ترامب عمل على توتر العلاقات مع أقرب حلفاء أميركا في المنطقة ــ كوريا الجنوبية واليابان ــ بسبب المشاحنات المستمرة التافهة حول التجارة وتكاليف القواعد العسكرية الأميركية في هذين البلدين.
هذا يناسب بكين للغاية. فبينما تتراجع واشنطن خطوة إلى الوراء، تحاول الصين اتخاذ خطوة إلى الأمام. لقد أصبحت بكين أكثر حزما خلال فترة رئاسة ترامب. تستغل الآلة الدعائية الصينية استجابة ترامب الضعيفة لجائحة فيروس كورونا للسخرية من الرئيس والديمقراطية الأميركية، وإثارة الشكوك حول الزعامة العالمية للولايات المتحدة، وتقديم الصين كقوة عالمية أكثر مسؤولية.
كتب عن ترامب في يونيو على تويتر: “ليس لديك أي فكرة عن كيفية السيطرة على الوباء. اذا كانت اميركا الغاضبة شخصا واقعيًا، فكم هو شرير هذا الشخص. وقال ببساطة: “إن واشنطن حمقاء إلى حد ما. ومؤخراً قال ليو شيايومنج، سفير الصين لدى المملكة المتحدة: “إن حكومة الصين، بمهاراتها المتفوقة في النيل من الفيروس، عملت على تعزيز الثقة الدولية في التغلب على الفيروس.
ومن وجهة نظر الصين، فإن ترامب ليس أكثر صرامة بقدر ما هو مختلف. حاول الرؤساء السابقون الضغط على الصين في إطار قواعد النظام العالمي الحالي؛ ويفضل ترامب أن يتصرف خارج هذا النظام.
على سبيل المثال، لجأ أسلافه إلى منظمة التجارة العالمية للطعن في ممارسات الصين التجارية غير العادلة، فقدموا 21 شكوى في الفترة بين عام 2004 وأوائل عام 2017 وكان سجل محاولاتهم حافلاً بالنجاح. ولم تقدم إدارة ترامب، التي تحط صراحة من قدر منظمة التجارة العالمية، سوى شكوتين، كانت إحداهما ردًا على انتقام الصين من التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب.
وفي حين سعى الرؤساء السابقين إلى الفوز بقوى أخرى، وخاصة في أوروبا وشرق آسيا، مع مصالح مماثلة في إرغام الصين على اللعب وفقاً للقواعد، فقد عمل البيت الأبيض على تنحية قسم كبير من الاتحاد الأوروبي من خلال التهديد بفرض تعريفات جمركية ضخمة، وانتقاد حلف شمال الأطلنطي، وشن هجمات شخصية على بعض من أكثر زعماء الغرب نفوذاً. وفي الوقت نفسه انسحب من الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، وهي اتفاقية تهدف إلى ترسيخ العلاقات الأميركية مع حلفائها.
وبهذا المعنى فإن وجود رئيس يتمتع بسياسة خارجية أميركية أكثر “طبيعية”، حيث تعمل واشنطن بشكل وثيق مع أصدقائها وتدافع عن المعايير والمؤسسات الدولية، ليس في مصلحة الصين. والواقع أن المرشح الديمقراطي جو بايدن تعهد بالفعل بتشكيل تحالف من البلدان لعزل الصين ومواجهتها. قال بايدن: “عندما ننضم إلى الدول الديمقراطية الزميلة فإن قوتنا تتضاعف. لا تستطيع الصين أن تتحمل تجاهل أكثر من نصف الاقتصاد العالمي. هذا هو مادة الكوابيس الصينية، وليس ترامب.
وأياً كان من سيفوز في نوفمبر القادم فإن السياسة في التعامل مع الصين ليس من المرجح أن تتقلص. لقد تم التوصل إلى شبه الإجماع في واشنطن، على أن الصين تشكل تهديداً استراتيجياً للولايات المتحدة. وقد لا تكون هناك وسيلة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء إلى الأيام الذهبية من التقارب الأمريكي الهادئ.
قال بولينج من مبادرة آسيا للشفافية البحرية: “لم يتبق سوى عدد أقل بكثير من الحمائم، حتى المحسوبين على اليسار منهم. إن الديمقراطي الذي سيأتي إلى البيت الأبيض الآن لن يصبح ديمقراطياً على شاكلة أوباما عندما يتعلق الأمر بالصين. ولم يعد ذلك ممكنا على الصعيد السياسي.”
تكهن مينشين بي من كليرمونت ماكينا بأن البعض في بكين ربما لا زالوا يفضلون فوز بايدن، وذلك على أمل وقف التوترات لأن الديمقراطيون يركزون، على الأقل في البداية، على أولوياتهم المحلية. ولكن الصينيين أيضاً قد يندمون على ذلك. وقال بي: “يعتقد مؤيدو ترامب أن الولايات المتحدة وحدها قادرة على توجيه ضربة قاتلة إلى الصين. وأن من المرجح أن يتواصل الديمقراطيون مع حلفائهم لتشكيل جبهة أكثر اتحاداً ضد الصين. وإذا نجح الديمقراطيون في ذلك فإن الصين سوف تكون في وضع أشد صعوبة على الأمد البعيد.”