في 17 فبراير2022 ، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قراره سحب القوات الفرنسية التي تشكل جزءًا من عملية “برخان” من مالي، لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، وتركز بشكل أساسي على مالي وبوركينا فاسو والنيجر. كما ستنسحب فرقة العمل الخاصة الأوروبية، تاكوبا أيضًا، مع إعادة تركيز كلتا المجموعتين على أنشطتهما في النيجر المجاورة. يأتي ذلك في أعقاب تصعيد كبير في التوترات بين باريس وباماكو في الأشهر الأخيرة، والتي تضمنت تبادل إهانات بلغت ذروتها بطرد السفير الفرنسي.
مع ذلك، فإن خروج فرنسا من مالي يمثل فشلًا فرنسيًا كبيرًا. إن ما بدأ في عام 2013 باسم عملية “سيرفال،” وهي عملية معروفة بشكل واضح وشعبية وناجحة تهدف إلى تطهير منطقة الساحل الإفريقي من الجهاديين، تحولت إلى صراع طويل الأمد لا تملك فرنسا القدرة على الفوز به بأي شكل.
على الرغم من الوجود العسكري الفرنسي المستمر منذ عام 2013، امتد الصراع من مالي إلى النيجر وبوركينا فاسو. في الوقت نفسه، يبدو أن الجيوش الإقليمية ليست أفضل استعدادًا لمواجهة التهديد الجهادي بشكل فعال. في الواقع، ارتفعت مستويات العنف في البلدان الثلاثة منذ عام 2017، لتصل إلى أكثر من 2500 حادث في عام 2021 وما يقرب من 6000 حالة وفاة.
لماذا فشلت فرنسا؟
بشكل عام، تتلخص الإجابة في مجموعة من السمات الهيكلية غير القابلة للتغيير رغم التدخل الفرنسي، وسوء فهم ديناميكيات الصراع المحلي، والأخطاء السياسية الجسيمة، والأخطاء العملياتية.
تشمل السمات الهيكلية التي تقع خارج السيطرة الفرنسية عدم شرعية الحكومات الإقليمية (وهي مشكلة يميل الوجود الفرنسي إلى تفاقمها) وعنف قواتها الأمنية. علاوة على ذلك، فإن الفهم الفرنسي للجماعات الجهادية على أنها إرهابية في المقام الأول بدلاً من فهمها كحركات تمرد اجتماعي سبّب غموضًا في فهم الصراعات الإقليمية.
ارتكبت فرنسا أيضًا عددًا من الأخطاء السياسية، بما في ذلك وضع عقبات أمام جهود المفاوضات وتفضيل أوسع للاستقرار العابر على الحكم الخاضع للمساءلة. وقد تفاقمت هذه الأخطاء بسبب الأخطاء العملياتية، ولا سيما من خلال التعاون مع الجماعات المسلحة التي تقوض سلطة الدولة المحلية وتزيد من حدة التوترات العرقية.
عملية “برخان” لا تسائل الحكام
على الرغم من الخطاب الذي شدد على أهمية بناء دولة مدنية، تركز الجهد الفرنسي في منطقة الساحل كليًا حول استراتيجية تتمحور حول الجيش مع السياسة في مجال الدول الشريكة المحلية. إلا أن هذه الدول لم تكن لديها المصلحة ولا الموارد لإجراء التحولات اللازمة لمعالجة الدوافع الكامنة وراء التمرد والصراع.
أسباب ذلك هيكلية إلى حد كبير. فعلى الرغم من التفاوتات الواضحة في القوة والتاريخ الطويل لما بعد الاستعمار في التدخل في الشؤون الداخلية لمستعمراتها السابقة، فإن فرنسا ليس لديها قدرة كبيرة على إلزام الحكومات المحلية بسياسات يمكن أن تساعد في استعادة شرعيتها؛ وفي حين أن المشكلات تتعلق جزئيًا بالسياسيين المحليين الفاسدين، إلا أنها تتعلق أيضًا بالموارد المحدودة المتاحة للحكومة للاستثمار الأقاليم على المستوى الوطني.
إن ارتباط فرنسا الوثيق بالرئيس المالي الراحل إبراهيم بوبكر كيتا يقوض شرعية القادة العملاء لفرنسا؛ حيث لعبت المشاعر المعادية للفرنسيين التي ولدت من اعتماد كيتا الواضح وغير الفعال على فرنسا دورًا مهمًا في المظاهرات الجماهيرية التي أدت إلى انقلاب عسكري في أغسطس 2020 ضد الرئيس؛ كما كانت مبررًا لانقلاب لاحق في مايو 2021 أطاح بالقيادة المدنية الانتقالية في مالي بسبب قربها المزعوم من باريس. إلى جانب تدفق المساعدات الأمنية الدولية الهائلة، تمكن قادة الجيش أيضًا من تفاقم الغضب الشعبي، بما في ذلك ضد فرنسا ، للاستيلاء على السلطة.
وجهات نظر مبسطة حول التهديد الجهادي
منذ البداية، كان صانعو السياسة الفرنسيون يفتقرون إلى رؤية واضحة للتهديد الذي يهدد الاستقرار الإقليمي، لكن كان لديهم خطاب يؤكد على وجود “الإرهاب” والمنظمات الجهادية باعتبارها فروعًا للقاعدة أو داعش، وهو ما يؤكد فشلهم في فهم تعقيد بيئة الصراع في الساحل.
تعمل الجماعات الجهادية كنقطة محورية لحركات التمرد الريفية المناهضة للدولة. لكن نجاحهم في التجنيد والسيطرة على الأراضي لا ينبع فقط من التخويف أو الإرهاب أو الانجذاب الأيديولوجي، ولكن أيضًا من خلال وعود بالحماية من قوات أمن الدولة المسيئة. وهذا بدوره ما أشعل الصراعات المحلية حول الأراضي وحقوق الرعي والسلطات العرفية الأساسية.
تساعد هذه الأزمات على توليد صراع عرقي؛ حيث تنظم الجماعات المحلية أنفشها وتلجأ إلى العنف ردًا على عنف كل من الجماعات الجهادية والحراس. ينجح الجهاديون في هذه البيئات فقط إلى الحد الذي يمكنهم من بناء تحالفات مع مجتمعات وقيادات مختلفة.
رفضت فرنسا تأييد المفاوضات بين دول المنطقة – وخاصة بين مالي – والجماعات الجهادية. في حين أن الآمال في استثمار البعض في مثل هذه المفاوضات قد يكون من المبالغ فيها؛ إلا أنها على المستوى المحلي ضرورية في وقف تصعيد العنف. بالإضافة إلى أن إن أية استراتيجية تهدف إلى تفكيك الائتلافات السياسية التي تدعم الجماعات الجهادية تتطلب محادثات على جميع المستويات.
أخطاء عملياتية: اختيار شركاء سيئين
علاوة على ذلك، وبغض النظر عن الالتزامات الفرنسية الأوسع نطاقاً للدول التي يُنظر إليها محليًا على أنها غير شرعية، فقد ارتكب الجيش الفرنسي على الأقل خطأين عملياتيين محددين أضعفا أسسه السياسية.
يعود الأول إلى بداية التدخل الفرنسي في مالي، مع عملية سيرفال في عام 2013. عندما أكملت القوات الفرنسية سيطرتها على شمال مالي، طردت الجماعات الجهادية من المناطق الحضرية الرئيسية وفككت سيطرتها على الأراضي، تم تجديد الشراكة مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد. كانت جماعة الطوارق الانفصالية هذه هي البادئ الرئيسي لتمرد 2012 الذي أدى إلى سيطرة الجهاديين على جزء كبير من شمال مالي.
نظرًا لأن الحركة الوطنية لتحرير أزواد كانت في كثير من الأحيان على علاقة متوترة مع الجهاديين، فقد اعتبرها ممثلو الجيش والمخابرات الفرنسيون حليفًا محتملًا؛ لا سيما بالنظر إلى معرفتهم المحلية، على الرغم من معارضة الدبلوماسيين الفرنسيين. كان هؤلاء المسؤولون يأملون في أن يتمكنوا من مساعدة الحركة الوطنية لتحرير أزواد في قمع الجهاديين واستعادة سبعة رهائن فرنسيين أُسروا في السنوات السابقة من قبل الجهاديين الإقليميين.
أدى ذلك إلى قيام الحكومة المالية بتقديم شكوى بشكل متكرر وعلني حول ارتباط فرنسا بـ “الإرهابيين”. بالنسبة للسلطات المالية، فإن الحركة الوطنية لتحرير أزواد الانفصالية وتفرعاتها اللاحقة هي منظمات “إرهابية” مثلها مثل حلفائها الجهاديين السابقين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الرفض الفرنسي للسماح لقوات الحكومة المالية بدخول بلدة كيدال الشمالية – ظاهريًا بسبب الخطر بوقوع أعمال انتقامية عنيفة ضد السكان المحليين – وصعوبات باماكو اللاحقة في بسط سيطرة الحكومة هناك، قد أجج الغضب القومي المالي ضد فرنسا.
اتخذ ارتباط الجيش الفرنسي بالجماعات المسلحة غير الحكومية منعطفًا يحتمل أن يكون أكثر خطورة في عامي 2017 و2018، مع ازدياد قوة التمرد الجهادي في وسط مالي والمنطقة المتاخمة للنيجر وبوركينا فاسو. فقد بدأت عملية برخان التعاون بشكل مباشر مع الطوارق المرتبطين بالحكومة، وميليشيات الدوشاك. وقد أتاح ذلك تحقيق نجاحات كبيرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى في كل من مالي والنيجر.
الإخفاقات السياسية تديم حالة عدم الاستقرار
على الصعيد الإقليمي، أثارت الدبلوماسية الفرنسية غير المتسقة غضب الماليين، حيث أعرب وزير الخارجية، عبد الله ديوب، عن ذلك مؤخرًا بشكوى من أن “فرنسا تشيد بالانقلابات عندما تكون في مصلحتها، وتدينها عندما لا تكون في مصلحتها.” والحق أنه في الوقت الذي كان يصرح فيه المسؤولون الفرنسيون، بمن فيهم ماكرون ووزير الخارجية جان لودريان، مرارًا وتكرارًا إلى عدم شرعية المجلس العسكري المالي، فقد ظلوا يدعمون تمامًا الانتقال السياسي غير الدستوري في تشاد.
يعكس هذا في الواقع اتساقًا أوسع وتاريخيًا في نهج فرنسا الإقليمي، والذي يميل إلى تفضيل الاستقرار على الديمقراطية. على سبيل المثال، كان استقرار تشاد محوريًا في السياسة الأمنية الفرنسية في إفريقيا في حقبة ما بعد الاستعمار، مما أدى إلى العديد من التدخلات العسكرية الرئيسة. فيما يعود الوجود الحالي للقوات، الذي أصبح الآن جزءًا من عملية برخان، إلى تدخل عسكري عام 1986 بهدف حماية دكتاتورية حسين حبري من التوسع الليبي.
في الآونة الأخيرة، أصبح نظام الرئيس السابق إدريس ديبي لاعبًا رئيسيًا في استراتيجية فرنسا الإقليمية؛ حيث عملت القوات التشادية من الحرس الرئاسي كقوات مساعدة فعالة ضد الجماعات الجهادية، حتى وهي تشكل العمود الفقري لنظام قمعي في الداخل.
خلقت وفاة ديبي في أبريل 2021 في معركة ضد جماعة متمردة مقرها ليبيا، مجموعة من الأزمات أعقبها نقل غير دستوري للسلطة إلى أحد أبنائه، محمد إدريس ديبي إتنو قائد المليشيا العرقية. وقد حظيت الفترة الانتقالية، التي طال أمدها، بدعم فرنسي قوي ودعم مالي.
بصرف النظر عن تاريخ المساعدة في خلق نوع من عدم الاستقرار الذي كانت تهدف فرنسا إلى منعه، فإن المشكلة الرئيسة في الاعتماد على الطغاة مثل ديبي هي أنها تصور الفرنسيين كمنافقين، مما يؤجج الاستياء الإقليمي من فرنسا.
ارتفاع المشاعر المعادية لفرنسا
ساهم كل ما سبق في زيادة المشاعر السياسية المعادية للفرنسيين في جميع أنحاء المنطقة، وهذا ليس نتاجًا لحملات التضليل الروسية أو نظريات المؤامرة الجامحة أو خطاب السياسيين الانتهازيين وغيرهم من الشخصيات العامة، لكن تكمن جذوره الأعمق في الدعم الفرنسي للأنظمة السياسية التي تتراجع شرعيتها، فضلاً عن ما يقرب من 150 عامًا من التاريخ الاستعماري وما بعد الاستعمار لفرنسا كقوة إقليمية مهيمنة.
كان المثال الأكثر وضوحًا على هذه العلاقة في السنوات الأخيرة هو قرار ماكرون “دعوة” قادة مجموعة الساحل الخمس – موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد – إلى مدينة باو الفرنسية في أوائل عام 2020. وقد جاءت الدعوة نظرًا للغضب المتزايد بين صانعي السياسة الفرنسيين بشأن الخطاب المناهض لفرنسا الذي انغمس فيه بعض السياسيين في منطقة الساحل، بمن فيهم الوزراء البارزون.
اعتبر العديد من المعلقين في منطقة الساحل دعوة ماكرون نوعًا من استدعاء الاستعمار الجديد للعملاء. وأصر ماكرون في الاجتماع على تصريحات علنية “واضحة وملتزمة” بدعم القادة الأفارقة لعملية برخان، على الرغم من أنه تمكن من الحصول عليها، إلا أن الكثيرين استاءوا من نهجه، واشتكى رئيس بوركينا فاسو آنذاك، روش مارك كريستيان كابوري، من أن نبرة ماكرون “تسببت في المشكلات.”
في المقابل، هدد هذا الارتفاع في المشاعر المعادية لفرنسا الأسس السياسية للوجود العسكري الفرنسي؛ حيث حشد المجلس العسكري في مالي الشعور المناهض للفرنسيين كطريقة لإضفاء الشرعية على حكمه محليًا نظرًا لأنه يواجه ضغوطًا إقليمية – وفرنسية – من أجل الانتقال السريع إلى الحكم المدني.
لجأ رئيس الوزراء المالي شوجويل مايجا باستمرار إلى الخطاب القاسي المناهض لفرنسا في الأشهر الأخيرة. واتهم فرنسا أخيرًا باللجوء إلى “الإرهاب السياسي والإعلامي والدبلوماسي ضد مالي”. ورد المسؤولون الفرنسيون على “الاستفزازات” في مالي بالإشارة إلى المجلس العسكري باعتباره غير شرعي.
من وجهة النظر الفرنسية، ربما يكون الجانب الأكثر إثارة للقلق في هذا التدهور الحاد في العلاقات هو الانعطاف المالي الواضح تجاه روسيا والاتفاق المزعوم مع مجموعة المرتزقة مجموعة فاجنر، في حين صورت باماكو تواصلها مع روسيا على أنه قرار سيادي لتنويع شراكاتها، فإن هذه الخطوة تلعب دورًا في الشعور المحلي المناهض لفرنسا وتعمل على ممارسة الضغط السياسي على حليفها الفرنسي المرهق.
استراتيجية جديدة؟
لسوء حظ باريس وباماكو، يبدو أن العلاقات قد وصلت إلى نقطة اللاعودة بين السلطات الحالية؛ حيث تتعارض رغبة المجلس العسكري الواضحة في البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة بشكل أساسي مع الضغط الفرنسي والإقليمي الأوسع من أجل انتقال سريع إلى نظام سياسي مدني ودستوري.
ومع ذلك، فإن الوتيرة البطيئة لانسحاب فرنسا المزمع – على مدى أربعة إلى ستة أشهر – قد تترك الباب مفتوحًا أمام احتمال وجود فرنسي باقٍ إذا غيّر المجلس العسكري سياساته أو سلّم السلطة. السؤال الرئيس الآن هو ما إذا كان التحول في استراتيجية فرنسا إلى الاحتواء الإقليمي يمكن أن ينجح، وهذا يعتمد على زيادة التعاون مع دول غرب إفريقيا الساحلية مثل ساحل العاج وتوجو وبنين لتعزيز قدراتها على مقاومة التهديد الجهادي المتزايد على حدودها الشمالية.
بغض النظر عن حجم ونطاق الوجود العسكري الفرنسي المستقبلي في هذه الدول، فإن نجاح أو فشل الإستراتيجية الفرنسية يعتمد على تلك الدول التي تستثمر موارد كبيرة في الأطراف الشمالية المهمشة. كما يتطلب جهودًا واضحة من قبل الحكومات المحلية لإنهاء وصم المجتمعات المسلمة الأخرى وكبح الانتهاكات المحتملة لقوات الأمن.