لعقود طويلة مضت، كان هناك تنبؤات مستمرة بشأن الابتكارات التكنولوجية التي من شأنها أن تغير طبيعة الحرب . حيث كان من المفترض أن تغير المدافع الرشاشة والدبابات والمدفعية الحديثة من شكل الحرب على نحو جذري، ولكن في غضون وقت قصير من عملياتها الميدانية، كانت القوات الأقل إلمامًا بالتكنولوجيا قادرة على تخفيف هذه التطورات من خلال الابتكار التكتيكي. ومن المفارقات أن من لا يملكون التكنولوجيا سجلوا انتصارات ضد أعداء يتمتعون بمستويات تكنولوجية أكثر تقدماً.
هل سيتسبب الذكاء الاصطناعي في إحداث ثورة بمستقبل الحرب؟
بيد أن الصراع في المستقبل سيحدث في ساحة معركة تشكلت بالذكاء الاصطناعي وغيرها من التقنيات الجديدة. حيث يرى بعض المراقبين الأكثر تفاؤلاً أن هذا التغيير سيكون ثوريًا، وأن الأكثر تفوقًا في مجال الذكاء الاصطناعي هو من سيحكم العالم، وأن الحرب قريبًا قد لا يشارك فيها البشر. على الرغم من أن الإيمان بالإمكانيات التحويلية للتكنولوجيا أمر مغرٍ، إلا أن الأمل في أن الروبوتات ستحل محل البشر في الحرب ليس في محله. فمنذ فجر العصر الصناعي، كانت وطيفة الميزة التكنولوجية في التبنؤ بالنصر مثلها مثل رمي العملة. لكن بدلاً من ذلك، تغلب الابتكار البشري على العيوب التقنية لتحقيق النصر لمن يستغلون ساحة المعركة بسرعة أكبر.
إذا كان استخدام القوة، والعقيدة، والقرارات التكتيكية التي صنعها البشر تتفوق على التكنولوجيا في تحديد النصر، فإن التركيز المفرط على الذكاء الاصطناعي يمكن أن يخلق نقاطًا عمياء يستغلها الخصوم في المستقبل. على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى ستكون مهمة في النزاعات المستقبلية، إلا أن أفضل رهان للنصر المستقبلي هو تطوير المبدعين التكتيكيين والتشغيليين والاستراتيجيين الذين سيستفيدون من ظروف ساحة المعركة لتحقيق النصر، بغض النظر عن التوازن التكنولوجي. لذا يمكن القول، أن الذكاء البشري والإبداع سينتصران في الحرب المقبلة، وليس التكنولوجيا.
وليس الحديث هنا عن الاستغناء عن الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن أن يكون مفيداً من خلال استخدام بيئات التدريب الافتراضية للمساعدة في تطوير الإمكانات المبتكرة التي ستحقق النصر غدًا. وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة الأخرى ستغير من خصائص الحرب، إن لم تكن ستغير من طبيعتها. وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي سيكون أداة قوية، إلا أنه من غير المحتمل أن يحكم العالم أولئك الذين يطورون أنظمة أسلحة تعتمد على الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدمًا. وذلك لعدة أسباب. أولها، يشير التغيير العسكري المتسارع الفاتر للذاكرة الحديثة إلى أن ساحات المعارك التي تستمر لمدة خمسة عشر عامًا من المرجح أن تبدو مألوفة أكثر مما يعتقد البعض. ثانيًا، كان المحللون العسكريون يتوقعون خطأً أن التغيير التكنولوجي الثوري الذي سيؤثر على مسارات الحرب قاب قوسين أو أدنى على مدى أربعة عقود على الأقل، إلا أن هذا التغيير الثوري لم يحدث ولم يؤثر على مسارات الحرب. وثالثًا، تؤكد الداراسات أن الإفراط في الاعتماد على التكنولوجيا لا يزيد بشكل كبير من احتمال النصر العسكري.
من تطوير الدبابات والمدافع الرشاشة في الحرب العالمية الأولى إلى زيادة نطاق المدفعية وقوة فتك الذخيرة، إلى الأسلحة الموجهة بدقة في عصر المعلومات، يصف الباحثون الزيادات في الفتك في ساحة المعركة بأنها تنمو بشكل كبير منذ بداية العصر الصناعي. إذ خلال تلك الفترة بأكملها، استنتج المحللون العسكريون بشكل روتيني أن فترتهم الحالية كانت على أعتاب ثورة في الشؤون العسكرية. إن مراقب النمو المتسارع في الفتك في ساحة المعركة في عام 1950 من المرجح أن يتنبأ بحدوث تحول ثوري مهم كما حدث في عام 2000 أو 2020. يبدو المنحنى متطابقًا على جميع المستويات. هذا يشير إلى أن التقدم الرئيسي يكمن في قوة الفتك منذ مطلع القرن الماضي وليس في سرعة التطور التكنولوجي، على الرغم من أننا نتحدث دائماً بأننا على أعتاب الثورة.
يؤدي هذا إلى نتيجة مدهشة، وهي أنه على مدار القرن الماضي، كانت قدرة التفوق التكنولوجي على التنبؤ بالنصر يعادل حظ رمي العملة. لكن أظهرت تحليلات أجريت على 16 حرب وقعت بين عامي 1956 و 1992 أن الطرف الذي كان متفوق تكنولوجياً قد سجل 8 انتصارات فقط. حيث يجادل المحللون بأن الزيادات الهائلة في قوة الفتك المرتبطة بالرشاشات والقوات الجوية والدبابات وغيرها من التطورات التكنولوجية في القرن العشرين قد غيرت بالفعل طريقة قتال الجيوش الحديثة.
ومع ذلك، يرجع التغيير في المقام الأول إلى التكتيكات التي تم تطويرها في ساحة المعركة لتقليل تعرض القوات الصديقة لتلك التطورات في أنظمة الأسلحة. ببساطة، عندما أدى التقدم في المدفعية والقوات الجوية إلى جعل القوات المجمعة بمثابة عملية انتحارية فعليًا، لم تصبح الحرب مجرد تبادل لقوات الكتلة المتبخرة. وبدلاً من ذلك، قام القادة بتفريق قواتهم وابتدعوا أساليب مبتكرة مكنت من تحقيق الأهداف العسكرية مع تقليل التعرض للأسلحة الفتاكة بشكل متزايد. على الرغم من أن منحنى التعلم في ساحة المعركة حاد ومكلف، فإن أولئك الذين يبدعون تكتيكيًا ينتصرون كثيرًا مثل أولئك الذين يمتلكون تكنولوجيا ساحة المعركة الأكثر تقدمًا.
رغم ذلك.. كيف يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي؟
تساعد التكنولوجيا في كسب الحروب، ولدى الذكاء الاصطناعي إمكانات عسكرية مهمة. ومع ذلك، إذا تم التغلب على التقدم التكنولوجي في الفتك من خلال الابتكار التكتيكي في كثير من الأحيان، فإن التفوق التكنولوجي سيصبح بمثابة (من الجيد أن تمتلكه)، وليس (أنت في حاجة لامتلاكه). لتجنب أسوأ “ضغوط الاختيار القاسية في زمن الحرب” التي تنتظر عدم الاستعداد، يجب إعطاء الأولوية للابتكار في استخدام القوة مثل الابتكار في أنظمة الأسلحة. وللقيام بذلك، هناك حاجة إلى شيئين: الأول، زيادة الاستثمار في قدرات وكفاءة التدريب الافتراضية، وثانيًا، الحد من وتيرة العمليات لتمكين التركيز بشكل أكبر على الاستعداد للقتال في المستقبل. وفي حالة الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، فإن هذا يعني تقليل حصة الولايات المتحدة من التزامات القوة في سوريا والعراق وأفغانستان بشكل كبير حتى يتمكن الأفراد الأمريكيون من التركيز على التدريب للحرب القادمة – على الأرجح ضد قوة كبرى مثل الصين أو روسيا – بدلاً من خوض الحروب السابقة.
وبالتالي، يجب الاهتمام ببيئات القتال الافتراضية للاستعداد للحروب، وهنا يمكن أن يكون تطبيق الذكاء الاصطناعي أكثر إفادة من استخدامه في ساحة المعركة الحقيقية. ففي حالة الولايات تستخدم القوات الجوية التدريب الافتراضي منذ سنوات، واليوم تتمتع العديد من الوحدات بإمكانية الوصول المحلي إلى التدريب عن بعد. حيث يوفر مركز عمليات البعثة الموزعة في قاعدة Kirtland الجوية الأمريكية نماذج من عدد من منصات إدارة المعارك في ساحات تدريب افتراضية ويقدم سيناريوهات تدريب متكاملة ومعقدة. حيث تدمج تمارين العلم الافتراضي بشكل روتيني القوات المشتركة في البيئات الافتراضية، وتثبت جهود مثل Pilot Training Next و “gamification” من جهود التدريب القدرة على دمج الوحدات المنفصلة جغرافيًا في بيئات التدريب المبتكرة دون وجود العقبات اللوجستية لعمليات التدريب الحية.
تواصل سمات الحرب تطورها، ولا شك في أن الذكاء الاصطناعي سيسهم بشكل كبير في عناصر هذا التطور في المستقبل المنظور. ومع ذلك، هناك مخاطر في المبالغة في تقدير معدل التغير التكنولوجي ودور التكنولوجيا المتقدمة في النصر المستقبلي. إذ على الرغم من العديد من التطورات التكنولوجية المثيرة، يشير التاريخ والبيانات المتاحة إلى أننا على الأرجح في مرحلة تطورية بدلاً من أن نكون في فترة ثورية. علاوة على ذلك، على الأقل منذ بداية العصر الحديث، لم تكن المبالغة التكنولوجية ضرورية ولا كافية للنصر.
يجب على أي قوات مسلحة أن تتذكر الحقائق الثابتة حول الحرب. ذلك أن الفروق الدقيقة في استخدام القوة هي مفتاح أي معركة، والتركيز المفرط على مخاطر التكنولوجيا يسمح بانكشاف نقاط الضعف التي سوف يستغلها الأعداء في المستقبل. على الرغم من أننا يجب في نفس الوقت السعي من أجل الحصول على أحدث التقنيات، إلا أنه لا يجب أن يكون هذا السعى على حساب استثمارات توظيف القوة.