في الساعة الثانية بعد الظهر، قبل 44 عامًا – في 6 أكتوبر 1973 – كسرت صفارات الإنذار التي تصم الآذان حجاب الصمت الذي أحاط إسرائيل في أقدس يوم في السنة اليهودية، يوم كيبور. بدا هذا اليوم نذيرًا مروّعًا للأيام الأليمة المقبلة.
كان هذا بمثابة بداية حرب عام 1973 بين مصر وسوريا من جانب وإسرائيل من جانب آخر، المعروفة للإسرائيليين باسم حرب يوم الغفران، ولدى العرب باسم حرب أكتوبر. من بين العديد من الهزات الارتدادية لهذا الاشتباك المصيري، كان أصعب هزة على إسرائيل استيعابها هو الخداع الاستراتيجي والتكتيكي الناجح لسوريا ومصر، وفشل دوائر الاستخبارات الإسرائيلية في توفير التحذير اللازم، على الرغم من وجود مؤشرات استخباراتية كافية.
يعود هذا الفشل المهني إلى حد كبير إلى ما أصبح يُعرف بعد ذلك بـ “المفهوم The Concept” – وهو تصور مسبق لدى دوائر الاستخبارات الإسرائيلية، يقضي بأن الدول العربية لن تشن حربًا ضد إسرائيل لا يمكنها الفوز بها. لكن ثبت خطأ هذا التصور المسبق، بل أن التشبث به حتى اللحظة الأخيرة كان خطأ فادح.
بعد الحرب، أنشأت إسرائيل لجنة تحقيق حكومية خاصة – لجنة أجرانات – لتحديد المسؤولية الشخصية لأولئك المسؤولين عن الإخفاقات، واقتراح تغييرات هيكلية في دوائر الاستخبارات الإسرائيلية. أدت توصيات اللجنة إلى استقالة قسرية لرئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي، ديفيد أليعازر، وفي النهاية إلى استقالة طوعية لرئيسة الوزراء جولدا مائير ووزير الدفاع موشيه ديان. كما أضافت اللجنة مسؤوليات تحليلية إضافية إلى حقيبتي الموساد ووزارة الخارجية.
لم يكن الفشل الإسرائيلي في التعرف على المؤشرات الاستخباراتية الرئيسية والرد عليها هو المرة الأولى، ولا المرة الأخيرة التي ثبت فيها أن سوء الفهم كان قاتلاً. ومع ذلك، على الرغم من العديد من الدروس المستفادة – والتي أدت إلى تغييرات هيكلية جوهرية، في كل من إسرائيل ودوائر الاستخبارات في جميع أنحاء العالم – لا يزال خطر الاعتماد على الافتراضات الأساسية قائمًا دونما اعتراض. فقط من خلال فهم طبيعة الإدراك والقيود الكامنة والعثرات التي تنطوي عليها معالجة المعلومات الغامضة، يمكننا التخفيف من المخاطر الكامنة في الافتراضات والأفكار المسبقة.
النصر والهزيمة معكوسين
يشير ” المفهوم” إلى تقييم اللجنة الإسرائيلية بأن احتمالية نشوب حرب بين الدول العربية وإسرائيل كانت منخفضة. كما وصف زميلنا، بروس ريدل، مطولاً في مقال أخير حول الإخفاقات الاستخباراتية التي أدت إلى حرب 1973، فقد أدى عدم قدرة إسرائيل على دمج المؤشرات التي لا تتناسب مع نموذجها إلى الاعتقاد الخاطئ بأن العرب لا يمكنهم ربح حرب في ظل الاستعداد العسكري الحالي، وبالتالي، لن يشرعوا في حرب.
ترافق هذا الافتراض مع شعور كبير ومبالغ فيه بالثقة المفرطة التي أحدثها الانتصار العسكري الإسرائيلي المفاجئ في حرب الأيام الستة عام 1967. إذ أن الانتصار، في ظل التصور الإسرائيلي، كان يُنظر إليه من منظور عسكري بحت. وعليه، فإن الإسرائيليين يرون أن التعريف العربي للنصر هو استعادة الأراضي التي خسروها عام 1967 بالوسائل العسكرية.
تضمنت حسابات الرئيس المصري أنور السادات حول خوض الحرب أهدافًا أكثر طموحًا وتطورًا يمكن تحقيقها من خلال نصر رمزي. فكان الهجوم المفاجئ الناجح، حيث يمكن الاحتفاظ بالأراضي لبضعة أيام فقط، كافيًا للقوى العظمى للتدخل وإجبار الأطراف على الجلوس حول طاولة المفاوضات. كان المصريون على استعداد لتحمل الخسائر في ساحة المعركة من أجل الفوز على طاولة المفاوضات، وبالتالي إعادة تحديد معايير النصر. وهكذا، على الرغم من العديد من المؤشرات الهامة والموثوقة، فإن التصور المسبق لإسرائيل صمد أمام المعلومات الاستخباراتية المتناقضة.
سوابق استخباراتية
التاريخ مليء بمجموعة من الحالات المماثلة حيث فشل نموذج الاستخبارات السائد في التنبؤ بالأحداث الحاسمة. على سبيل المثال لا الحصر: الهجوم الياباني على بيرل هاربور (1941)، والثورة الإيرانية (1979)، والغزو السوفيتي لأفغانستان (1979)، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وهجمات 11 سبتمبر الأخيرة ، وما يسمى الربيع العربي.
كما عانت إسرائيل من إخفاقات استخباراتية متكررة. وهذا يشمل سوء الفهم الواضح لكل من حزب الله وحماس؛ حيث استهانت إسرائيل بشكل كبير بالتنظيمين في المراحل الأولى من تطورهما، كذلك، أخطأت إسرائيل تمامًا في تقدير المشهد السياسي خلال حرب لبنان عام 1982؛ حيث كان الهدف الإسرائيلي هو قلب ميزان القوى في لبنان، وبالتالي تدمير منظمة التحرير الفلسطينية، وإضعاف نفوذ سوريا في البلاد، وفي النهاية إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط – وهو هدف مضلل وطموح للغاية.
في حين أن هناك اختلافات واضحة بين هذه الحالات، وفي كل حالة قد تكون هناك عوامل إضافية معقدة، فمن الواضح أنها جميعًا تشترك في الاعتماد المفرط على الأفكار المسبقة. كانت هناك مؤشرات استخباراتية كافية لمنع عنصر المفاجأة، ومع ذلك، في جميع الحالات المذكورة، كان اعتماد المحللين الثابت على تصوراتهم المسبقة، على الرغم من المعلومات المتناقضة، مسؤولاً بشكل مباشر عن الفشل.
ومع ذلك، فإن التصور المسبق ليس كلمة كريهة. فالاستخبارات تحاول توضيح المجهول. وفي الوقت نفسه، لا يمكن تفسير الواقع بدون تفسير غير موضوعي بدائي. وفي سبيل ذلك، يبدأ أي جهاز ببناء تقييم استخباراتي بإدراك مسبق، وهو في جوهره تقييم تراكمي، يعتمد على مدخلات وافتراضات استخباراتية ملموسة.
تعتبر الافتراضات عنصرًا ضروريًا في عملية الاستخبارات (كما هو الحال في الحياة اليومية)، لأنها تملأ فجوات المعلومات المفقودة اللازمة لاتخاذ القرارات. وتظهر هذه الفجوات عند محاولة التأكد من نوايا القادة، أو عند محاولة التنبؤ بنتيجة الظروف المعقدة.
أبجديات المفاهيم الخاطئة: التحليلية، البيروقراطية، والإدراكية
كان إخفاق إسرائيل في تحديد نوايا مصر بشكل صحيح في عام 1973 بمثابة دوامة من الأحكام الخاطئة – نتيجة للتحيزات الثقافية والتنظيمية والمعرفية. وعلى الرغم من أن هذه التحيزات تساعد في تبسيط المعقد وتوضيح الغموض، إلا أنها ضارة لمحللي الاستخبارات. توضح المزالق الخمس التالية بعض الصعوبات التي تنطوي عليها العملية التحليلية، وتتطلب اهتمامًا خاصًا:
- الافتراضات المخفية: في بعض الأحيان، لا يوجد وعي بوجود هذا الافتراض. يمكن تضمينه بعمق في تصور الفرد، أو في العقلية التنظيمية، بحيث يتم التعامل معه على أنها حقيقة، ولا يتم التشكيك فيها.
- السعي لتحقيق الاستقرار من خلال الفرضيات: الانحياز التأكيدي هو ظاهرة سلوكية مشهورة ومدروسة بدقة؛ حيث تُفسر المعلومات بطريقة تؤكد وتعزز المعتقدات السابقة. كما أنه من الأسهل والأكثر واقعية الالتزام بتقييم جيد التصميم مسبقًا بدلاً من تغييره. عند مواجهة معلومات جديدة متناقضة، فإن النهج الافتراضي هو البحث عن تفسير بديل لا يسعى إلى إعادة التقييم. ذلك أنه غالبًا ما يتم استيعاب المعلومات الجديدة في الصورة الحالية أو تفسيرها بالأسباب.
- التنبؤ الخطي: التنبؤات المبنية على نمط التوقعات لما جاء سابقًا هي الأبسط من الناحية المعرفية والمنهجية؛ إذ لا تزال أدوات التنبؤ بحدث يغير قواعد اللعبة ويدمرها أقل وضوحًا.
- الصورة المعكوسة: غالبًا ما يعرض المحللون معاييرهم المفاهيمية أو الثقافية على خصمهم، وهي عقلية تقيد تصور ما إذا كانت أهداف الخصوم تعتبر محتملة أم لا. يتم تصفية الإدراك من خلال السياق الذي يحدث فيه.
- التفكير الجماعي: لا سيما في المنظمات الهرمية، حيث يكون الانضباط مطلوبًا، قد يميل التصرف الطبيعي نحو التفكير الجماعي، حيث تضغط المعايير المؤسسية على الأعضاء للبقاء في الصف، ويسود الإجماع.
استراتيجيات أكثر وعياً
يتسم عالم اليوم بتعقيد متزايد، مما يعزز من صعوبة التنبؤ بالأحداث المستقبلية ونتائجها بشكل صحيح. تتعدد العوامل الرئيسية التي تساهم في هذا التعقيد؛ من بينها الطبيعة المتسارعة للأحداث العالمية، والعدد المتزايد من المشاركين المعنيين في أية عملية معينة؛ ومضاعفة التفاعلات بينهم. لذلك، أصبح الاعتماد على الافتراضات أمر لا غنى عنه: المفارقة هي أنه بينما تزداد الحاجة إلى الاعتماد على القوالب الراسخة والأفكار المسبقة، تزداد المساحة المحتملة للخطأ وتكلفة مثل هذه الأخطاء. بالنظر إلى هذه المعضلة، تسمح الاستراتيجيات التالية للمشاركين في عملية صنع القرار باتباع نهج أكثر وعيًا بالافتراضات والتصورات المسبقة.
- قم بإنشاء جلسة تفكير منفصلة، كخطوة مميزة في عملية التحليل
يجب أن يعقد المحللون جلسة يكون هدفها الوحيد هو التعبير عن جميع الافتراضات الأساسية والأكثر عمقًا للعقلية وتحديدها وتحديها. يكون هذا مفيدًا للغاية في بداية عملية التخطيط، وبشكل دوري، بعد تغيير واضح في الظروف. يجب أن تشمل هذه الجلسة مشاركين خارجيين تم استبعادهم من عملية التخطيط نفسها، ويفضل أن يكون لديهم مجال خبرة مختلف. في حالة حرب عام 1973، إذا تم عقد مثل هذه الجلسة، فمن المحتمل أن يقوم الإسرائيليون بفحص التعريف المصري للنصر بشكل أكبر، مما يؤدي إلى تقييم مستحدث. - اعرض فكرة بديلة
بينما يستخدم المحللون فكرة خاصة بالموقف، يجب عليهم الحفاظ على فكرة بديلة في مؤخرة الاهتمامات. تكمن الصعوبة هنا في أن هذا البديل لا يمكن أن يكون مجرد نموذج معاكس أو بديل. يجب أن يكون نموذج معد إعدادًا صالحًا ومتماسكًا ومفصلاً وذا قيمة، على الرغم من عدم احتمالية حدوثه، ومنصفًا فيما يتعلق بعواقبه.
يأخذ أحد الأفكار الدور الريادي، بينما يتم فحص البديل بعناية إذا كانت المؤشرات تشير إلى هذا الاتجاه. تتمثل إحدى الصعوبات الكامنة في هذا النهج في “تحيز المجموعة”، أو حلقة التغذية العكسية بين المجموعة وأجهزة الاستخبارات: من خلال التركيز بشكل واسع على تصور مسبق واحد، سيتم توجيه جمع المعلومات الاستخبارية نحو إيجاد أدلة داعمة لهذا الافتراض.
إن جهود تجميع المعلومات التي تدعم النهج البديلة أضعف، وبالتالي يجري التعامل مع النهج المختلف بجدية أقل. لذلك، يجب توجيه جهود تجميع المعلومات الكافية نحو هذه الفكرة البديلة، خشية أن تدعم جهود التجميع تحيزًا إضافيًا.
يمكن رؤية مثال على الاستخدام الناجح للتصور المسبق البديل في حالة رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيليةالجنرال أهارون ياريف: قبل حرب 1967، كان ياريف يعتقد أنه منذ أن تورطت مصر في الحرب الأهلية في اليمن، فإن الرئيس ناصر لن يكون لديه النطاق الواسع لمعلومات التي تمكنه من شن حرب ضد إسرائيل – كان الحشد العسكري المصري يهدف فقط إلى ردع إسرائيل. لكن قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب، تغير هذا التقييم، باستخدام المعلومات التكتيكية حول انتشار القوات الجوية المصرية كمبرر لشن هجوم استباقي، وبالتالي بدء حرب عام 1967. بسبب نموذج بديل احتفظ به، إلى جانب جرعة بناءة من الشك المستمر، أثّر ياريف على مسار الحرب ونتائجها. - أعد فحص الافتراضات الرئيسية في مقابل الواقع المتغير باستمرار
في حين أن هذا يبدو بديهيًا، إلا أنه غالبًا ما يتم تجاهله؛ بسبب ضيق الوقت. إن تخصيص جلسة منفصلة لطرح السؤال الوحيد حول كيفية تغيير هذه المعلومات للافتراضات الأساسية والتصور المسبق يمكن أن يكون مفيدًا للغاية. إن فصل هذه الجلسة عن الجلسات الأخرى في العملية الاستخباراتية يزيد الوعي ويواجه النزعة التي تسعى لتبني تفسيرات مريحة. - ابحث بنشاط عن الأفكار الخاطئة في وقت لاحق
وليس فقط بعد الإخفاقات الدراماتيكية مثل حرب 1973 أو هجمات 11 سبتمبر. أفضل الممارسات تفرض تنفيذ عملية استخلاص المعلومات، حيث تتم مراجعة الأفكار المسبقة وتقييم ما إذا كانت مفيدة أو ضارة أم لا، وسبب ضررها او نفعها. هذه الممارسة مهمة لأنها تدعم الذاكرة المؤسسية، مما يضمن أن المنظمة مستعدة للتعامل مع الأفكار الخاطئة في المستقبل. كما أنه يخلق الوعي الذاتي الفردي الضروري، حيث يتعلم المحللون التعامل مع قيودهم النفسية. - اجعل الإطار المؤسسي الذي تقوم عليه هذه الاستراتيجيات متعددًا ومفتوحًا
حيث يمكن للزملاء مقارعة رؤسائهم أثناء عملية التفكير حيث يتم تشجيعهم على التحدث. يجب أن يكون إنشاء مثل هذه الثقافة هو الأولوية القصوى، ويجب أن تكون المنظمة على استعداد لدفع ثمن رعايتها وتعليمها وممارستها.
لا يوجد علاج سهل للمشكلة القديمة المتمثلة في أن تضل الطريق بسبب الأفكار الخاطئة، تمامًا كما لا توجد طريقة لتجنب اتخاذ قرارات مضللة. لذا علينا أن نعرف أن التدابير المقترحة هنا ليست حلاً سحريًا، ومع ذلك، يمكن أن تجعل عملية صعبة وغامضة أقل خطورة إلى حد كبير. لا يتحقق التحليل الموضوعي من خلال تجنب الأفكار المسبقة تمامًا – بل من خلال إعادة فحص المكونات الأساسية لطريقة التفكير، من الألف إلى الياء. يجب أن تكون الافتراضات والاستنتاجات الأساسيين صريحين قدر الإمكان، حتى يتمكن أعضاء مجتمع الاستخبارات من تحديها، مما يضمن الموضوعية والصلاحية.
كاتبا المقال درور ميكمان الخبير السابق بمعهد بروكينجز ويائيل مزراحي- أرنود المساعد الخاص للأبحاث ببرنامج ديفيد روكيفيللر بمجلس العلاقات الخارجية بالولايات المتحدة