تعد صناعة الدفاع المتنامية في تركيا هي الركن الأساسي في سياسة أردوغان الخارجية لسببين أساسيين. إذ تساعم صناعة الدفاع على توجيه الانتباه بعيدًا عن أزمة العملة التركية والسياسة الخارجية المضطربة. من ناحية السياسة الخارجية، قوضت تركيا حلفاءها التقليديين من خلال شراء نظام الصواريخ الروسي S400، والسعي وراء طموحات الطاقة في شرق البحر المتوسط، وتوسيع نطاق نفوذها في ليبيا، والتقدم في عملية نبع السلام التي دفعت أعضاء الناتو إلى فرض عقوبات على تركيا. ومن ثم، فإن صناعة الدفاع المتنامية تمنح تركيا قدرة أكبر على المناورة في سياستها الخارجية من خلال ضمان اعتماد أقل على واردات الأسلحة ومزيد من الاستقلالية.
ازدهرت صناعة الدفاع التركية في العقد الماضي. ففي عام 2010، كان لدى تركيا شركة واحدة على قائمة أفضل 100 شركة دفاعية عالمية. في الوقت الحاضر لديها سبع شركات بنسبة أكبر من نسبة إسرائيل وروسيا والسويد واليابان مجتمعة.
ونتيجة لذلك، انخفضت حصة تركيا من واردات الأسلحة من عام 2015 إلى عام 2019 بنسبة 48% مقارنة بفترة الخمس سنوات السابقة. ليس هذا فقط، بل انتقلت البلاد من استيراد 70% من عتادها العسكري إلى استيراد 30 % فقط.
في الوقت نفسه، نمت صناعة الأسلحة التركية من مليار دولار في عام 2002 إلى 11 مليار دولار في عام 2020، أكثر من 3 مليارات دولار منها جاءت من الصادرات، مما جعل تركيا رابع أكبر مصدر دفاعي عالمي. واستكمالاً لمشروعاتها الدفاعية، استثمرت الدولة 60 مليار دولار في هذه المشاريع، ونظراً للتوترات اليونانية التركية بشأن حقوق الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، أنشأت تركيا أسطولاً بحرياً يضاهي الأسطول اليوناني.
علاوة على ذلك، تعد تركيا واحدة من 22 دولة فقط تصنع طائرات مسلحة بدون طيار، مما يضيف بعدًا آخر لقوتها العسكرية الإقليمية. لدرجة أن التغطية الإعلامية الموالية للحكومة التركية تشير إلى أن رغبة أردوغان في توسيع وتطوير صناعة الأسلحة المحلية صارت مشروعًا شخصيًا.
وفي سبيله لتحقيق ذلك، أصدر أردوغان مرسومًا رئاسيًا في 10 يوليو 2018، بوضع وكالة الصناعات الدفاعية (SSB) تحت السيطرة المباشرة للرئاسة وأعاد تسميتها إلى الهيئة الرئاسية للصناعات الدفاعية. يمكن القول إن طموح أردوغان السياسي هو المحرك الأكبر وراء صناعة الدفاع المتنامية في تركيا.
قد يبدو الأمر كما لو أن صناعة الدفاع في تركيا قد تحولت إلى صناعة تصدير قوية، حيث صدرت 2.2 أسلحة بمقدار مليار دولار في عام 2018، مما يجعلها فعليًا في المرتبة 14 بين أكبر مصدري الأسلحة في العالم. ومع ذلك، مثلها مثل المشاريع العملاقة الأخرى في تركيا – قناة إسطنبول، وجسر سليم سلطان، ومطار إسطنبول الجديد، ومسجد تشامليجا – فإن صناعة الدفاع التركية تدور حول إبراز صورة القوة المحلية إذ أن هناك العديد من التحديات التي تواجه مستقبل صناعة الدفاع التركية.
على سبيل المثال، منعت الولايات المتحدة ترخيص تصدير محرك CTS-800A الذي يصنع جزئيًا في الولايات المتحدة إلى تركيا وسط توترات دبلوماسية متزايدة. وفي الوقت نفسه، تفتقر تركيا إلى القدرة التقنية الفعالة من حيث التكلفة لتطوير محركات لتشغيل تصاميمها العسكرية. مع تدخل واشنطن، تخاطر تركيا بخسارة أكثر من مليار دولار من الصادرات المحتملة بسبب هذا النقص الفني.
لنكون أكثر تحديدًا، لم يتم الوفاء بعقد تصدير بقيمة 1.5 مليار دولار بين تركيا وباكستان لثلاثين مروحية هجومية، تم توقيعه في عام 2018. من المحتمل أن ينتهي العقد، بسبب قيام الولايات المتحدة بحظر رخصة التصدير للمحرك المطلوب. وبالتالي، تتطلع باكستان الآن إلى الصين لتحديث البنية التحتية الدفاعية التي فشلت تركيا في توفيرها.
كما أدى اعتماد تركيا على المحرك الأمريكي إلى تأخيرات في إتمام عقد كبير آخر لدبابة القتال الرئيسية في تركيا، ألتاي Altay، وهي أغلى دبابة قتال في العالم بسعر 13.75 مليون دولار. وقد وقعت قطر عقدًا غير محدد بقيمة مليار دولار لشراء ما يصل إلى 100 دبابة من طراز Altay من تركيا، والتي ستشكل واحدة من أكبر صادرات الأسلحة في صناعة الدفاع في غضون عقود قليلة. ومع ذلك، تعتمد تركيا على خبرة المحركات الألمانية لإنتاج هذه الدبابات، لكن ألمانيا تحجب التكنولوجيا عن تركيا بسبب مخاوف سياسية.
وبالمثل، فإن طائرة Akinci التركية بدون طيار – التي ستلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على القدرة التشغيلية للقوات الجوية – تعتمد على المحركات التوربينية الأوكرانية AI-450. لكن أوكرانيا مترددة هي الأخرى في تبادل التكنولوجيا العسكرية مع تركيا، بسبب المخاوف العامة بشأن حقوق الملكية الفكرية والتكنولوجية. لذلك، تعرضت العقود التي أبرمتها تركيا بمليارات الدولارات للخطر وهي شهادة على أعلى مستوى من التناقض الذي يشكل سياسة التبعية الخارجية التي تحاول تركيا الهروب منها.
على الرغم من أن تركيا تريد استخدام صناعة الأسلحة المحلية المتنامية للتخلص من الحلفاء التقليديين، إلا أن الصناعة لا تزال تعتمد بشكل كبير على هذه الشراكات، وليس فقط عندما يتعلق الأمر بإنتاج المحركات. أدى إطلاق “عملية نبع السلام” التركية، عندما غزت تركيا المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سوريا، إلى فرض سلسلة من الدول الأوروبية حظرًا على القطاعات الأولية والمتكاملة رأسياً المتعلقة بالصناعة الدفاعية التركية. حيث كلف الحظر الذي دام شهرين الصناعة التركية حوالي 1 مليار دولار في الإنتاج، وهو سعر مرتفع لصناعة يبلغ دخلها 11 مليار دولار فقط.
يعتمد جزء كبير من صناعة الدفاع في تركيا على التكنولوجيا العسكرية الغربية – تتضمن هذه الصناعات ما يتجاوز المحركات – وهي حقيقة تتردد أنقرة في الاعتراف بها. على هذا النحو، فإن أكبر سفينة حربية تركية – السفينة الهجومية البرمائية TCG Anadolu التي يبلغ وزنها 27000 طن – تعتمد على السفينة الأسبانية خوان كارلو الأول. كما أن هناك بعض الصناعات الدفاعية البحرية التي تعتمد في تصنيعها تركيا على بلاد أخرى، كزورق الهجوم السريع، الذي صُمم في ألمانيا.
تعتمد محاولة تركيا لبناء طائرة مقاتلة محلية الصنع على شركة بريطانية قلصت جهود التعاون بدورها، وتدعم دبابة قتال Altay من الناحية التكنولوجية شركة كورية جنوبية. وبالتالي، فإن البحث والتطوير في تركيا ببساطة ليس معقدًا بما يكفي لمشاريعها المرموقة الرئيسية.
بالنظر إلى أن حقوق الملكية الفكرية نقطة خلاف رئيسية في صناعة الأسلحة، في المستقبل المنظور، ستظل تركيا على الأرجح معتمدة على المساعدات التكنولوجية الأجنبية باهظة الثمن. وسوف تتفاقم تكلفة هذه التبعية بسبب أزمة انخفاض قيمة العملة التركية.
بالإضافة إلى ذلك، منذ الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، دبّر أردوغان حملة تطهير واسعة النطاق لحركة جولن أدت إلى هجرة العقول الوطنية. كما تزايدت المحسوبية ومناخ الخوف السياسي، وفي العام الماضي وحده، هاجر 330 ألف شخص من تركيا. وفي الوقت الذي تتأثر فيه جميع القطاعات، إلا أن هجرة العقول على الصعيد الوطني لها تأثير كبير على صناعة الدفاع.
ففي عام 2018، تم إرساء بعض الأعمال على عدد قليل من 270 من كبار المتعهدين الذين يعملون في صناعات الدفاع أما الباقي فقد غادروا تركيا بحثًا عن فرص أفضل في الخارج. كانت اثنتان من الوجهات الرئيسية للهجرة هما ألمانيا والولايات المتحدة – وكلاهما أظهر إحجامًا عن مشاركة التكنولوجيا العسكرية مع تركيا، مع عواقب تقدر بمليارات الدولارات. وهناك سبب للاعتقاد بأن هذه الظاهرة ستزداد عندما يستشهد العمال بمناخ الخوف السياسي الحالي كسبب للهجرة.
في حين نمت صناعة الدفاع التركية بشكل كبير، قد لا يستمر هذا المسار بسبب مشاكل كون المحركات التي تستخدم في معدات قتالية هي في الأساس محركات أجنبية، وهجرة العقول ذات الكفاءة، والافتقار العام للمعرفة المتطورة.
علاوة على ذلك، يجب التأكيد على أن المتلقي الرئيسي للتكنولوجيا العسكرية التركية هو تركيا. مع تشبع الأسواق المحلية قريبًا، وعدم وجود حل قصير الأجل في الأفق لهذه القضايا الهيكلية التقنية، ما يعني أن صناعة الدفاع التركية قد لا تتمكن من مواصلة نموها.
ومع ذلك، فإن إنشاء صناعة دفاعية محلية كان مكسبًا سياسيًا محليًا كبيرًا لأردوغان، ولهذا السبب وحده، فمن المرجح أن تستمر هذه الصناعة في التطور. قد لا يكون ذلك أمرًا مجديًا على المستوى الاقتصادي، لكنه يظل أولوية سياسية. حيث يمكن لأردوغان الآن أن يعرض صورة القوة العسكرية التركية المتنامية، المليئة بالرموز العثمانية، للشعب التركي. وفي حين أن نمو الصناعة قد سلط الضوء على الاعتماد الخارجي، فإن دلالات كون تركيا بلد حاضنة للصناعات الدفاعية تمنح أردوغان مساحة من الحركة محلياً لمتابعة سياسة خارجية حازمة تتناسب مع سياسة قوة عسكرية كبرى.