قبل ثمانية عشر عاماً، دخل محمود عباس، رئيس الوزراء الفلسطيني آنذاك، في صراع على السلطة مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. في تلك الفترة كانت السيطرة على قوات الأمن الفلسطينية أمرًا هاماً حتى يتم وضع خطة سلام إسرائيلية فلسطينية بوساطة أمريكية، والتي عُرفت باسم خارطة الطريق للسلام في الشرق الأوسط. كان اختلاف عرفات وعباس حول أي منهما يسيطر على هذه القوات، وقد صار عباس محبطًا للغاية بسبب عدم رغبة عرفات لأن يتنازل له عن أي جزء من السلطة. الأمر الذي أثر سلبًا على عملية السلام – الراكدة حالياً- بما أدى بدوره إلى انقسام داخل حركة فتح في الضفة الغربية.
يرأس عباس منصب رئيس السلطة الفلسطينية حالياً، وهو المنصب الذي شغله لأكثر من 15 عامًا بعد انتخابه لولاية مدتها أربع سنوات فقط في عام 2005 – وينتظر الفلسطينيون بصبر الانتخابات التي يمكن ان يكون من شأنها أن تختم مصير رئاسته. لكن لا يزال من غير الواضح حتى الآن ما إذا كان سيُسمح بإجراء الانتخابات المقرر إجراؤها في مايو ويوليو وأغسطس..في غضون ذلك، يواجه عباس تحديًا من ابن شقيق عرفات، الرجل نفسه الذي كان على خلاف معه قبل عقدين.
ناصر القدوة ليس اسماً مألوفاً في الأراضي الفلسطينية، لكن قراره الأخير بتأسيس حركة سياسية جديدة أمر لفت الأنظار. تم تأسيس الملتقى الوطني الديمقراطي الفلسطيني، الذي يعمل تحت شعار “نريد التغيير، نريد أن نحرر، نريد أن نبني”، الذي اجتذب الفلسطينيين من جميع الفئات في الدعوة إلى وضع حد للفساد المستشري والمحسوبية التي ابتليت بها تاريخيًا السلطة الفلسطينية. ويؤكد بيان تأسيس الملتقى أنه ليس فصيلًا أو حزبًا، بل هو حركة سياسية متميزة تجهز قائمة لخوض الانتخابات.
في 31 مارس، طالب ” الملتقى الوطني الديمقراطي الفلسطيني”، المناضل المسجون في سجون الاحتلال مروان البرغوثي بالترشح على القائمة المستقلة – “الحرية” – في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في 22 مايو. البرغوثي مسؤول مخضرم في حركة فتح لعب دورًا قياديًا في الانتفاضة الثانية ويقضي حاليًا خمسة أحكام بالسجن مدى الحياة في إسرائيل بتهمة التخطيط لهجمات ضد إسرائيليين. استطلاع تلو الآخر أُجري في الأراضي الفلسطينية، أظهرت النتائج أن البرغوثي هو صاحب الشخصية الجذابة باستمرار، إنه – إذا خاض الانتخابات الرئاسية للسلطة الفلسطينية – سيفوز.
وأثارت عملية الاندماج حفيظة عباس الذي يحكم بمرسوم دستوري وبدون إشراف برلماني منذ عام 2007 ويخشى أن تهيمن هذه القائمة الانتخابية على الحركة. إذ يريد الرئيس البالغ من العمر 85 عامًا تجنب تكرار الخسارة المؤلمة عام 2006 أمام حماس. وهو يعتقد أنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا كانت حركة فتح متحدة وقوية.
قائمة “الحرية” التي يرأسها القدوة و فدوى البرغوثي، المحامية وزوجة مروان البرغوثي، ليست القائمة المنفصلة الوحيدة عن حركة فتح التي تنافس قائمة عباس الانتخابية التقليدية. حيث سيتعين عليه مواجهة قائمة “المستقبل” التي يرعاها محمد دحلان، المسؤول الأمني السابق لحركة فتح في غزة . ويلقي عباس باللوم على دحلان في فشله في وقف سيطرة حماس على قطاع غزة عام 2007 وطرده من الحركة في 2011 بعد اتهامات بالاختلاس. ومنذ ذلك الحين، كان كلا الرجلين يتهمان بعضهما البعض بتهم مرتبطة بالفساد.
من ناحية أخرى، أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية ومقره رام الله أن قوائم القدوة ودحلان يمكن أن تشكل مشاكل كبيرة لحركة فتح، لا سيما في قطاع غزة. لكن النضال الناشئ ليس سوى أحدث دليل على اختلال وظيفي أوسع داخل الحركة.
من ناحيته، قال خالد الجندي، الزميل الأول في معهد الشرق الأوسط، إن “قرار القدوة بتشكيل قائمة مستقلة هو علامة على الاستياء الشديد داخل الحركة من قيادة عباس وبقبضته الاستبدادية المشوبة بجنون العظمة على السلطة”.
وُلد القدوة عام 1953 في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة. درس طب الأسنان في القاهرة وأصبح ناشطًا سياسيًا كرئيس للاتحاد العام للطلاب الفلسطينيين في مصر – والذي كان بمثابة منصة انطلاق للعديد من السياسيين الفلسطينيين الذين استمروا في شغل مناصب مهمة في منظمة التحرير الفلسطينية أو حركة فتح.
خلال فترة عمله في الاتحاد، أصبح القدوة عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم البرلمان الفلسطيني في المنفى. ثم انضم لاحقًا إلى المجلس المركزي الفلسطيني – الهيئة الوسيطة بين المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
يرتبط القدوة بحركة فتح منذ أواخر الستينيات وترقى في صفوفها بسلاسة من دون إثارة أي خلافات كبيرة مع قادة فتح الآخرين. ثم اُنتخب لعضوية المجلس الثوري لحركة فتح، التي توصف بأنها برلمان الحزب، في عام 1989 وأصبح عضوًا في أعلى هيئة لصنع القرار في الحركة، وهي اللجنة المركزية – في عام 2009، حيث ظل حتى طرده في مارس 2021.
حافظ القدوة على علاقات شخصية وثيقة مع عمه ياسر عرفات حتى وفاته في عام 2004، حيث أسس القدوة مؤسسة ياسر عرفات وتولى إدارتها. ونتيجة لهذه العلاقة الوثيقة مهّد عرفات الطريق لعمل القدوة الدبلوماسي: في عام 1986، عين ابن أخيه مساعدًا للمندوب الدائم لمنظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة.
أصبح اسم القدوة مرادفًا لوجود فلسطين في الأمم المتحدة من عام 1991 حتى عام 2005، حيث عمل كمبعوث دائم واكتسب سمعة كرجل عميق الإيمان بقوة القانون الدولي لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. وكمبعوث فلسطيني، ترأس وفد فلسطين إلى محكمة العدل الدولية، حيث رفع قضية ضد الجدار العازل الإسرائيلي. ثم أصدرت المحكمة في عام 2004 فتوى أعلنت فيها عدم شرعية الجدار.
شغل القدوة منصب وزير الخارجية الفلسطيني لبضعة أشهر بين عامي 2005 و 2006. وقد لاحظ من راقبوه وهو يعمل في الأوساط الدبلوماسية دوره الرائع في اللجان المكلفة بإيجاد حلول لمختلف الأزمات السياسية في منطقة الشرق الأوسط. ومنذ عام 2007، شغل الرجل عدة مناصب دبلوماسية رفيعة المستوى، بما في ذلك منصب نائب المبعوث الخاص المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية بشأن سوريا، حيث كان في ذلك الوقت يعمل كمساعد للأمين العام كوفي عنان في ممارسة مهامه. كما شغل منصب نائب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في أفغانستان في بعثة الأمم المتحدة لمساعدة أفغانستان. لكنه يصب كامل تركيزه الآن على الجبهة الداخلية الفلسطينية.
لم تجرِ السلطة الفلسطينية انتخابات رئاسية أو تشريعية منذ 2005 و 2006، على التوالي ، وحوالي 40٪ من الفلسطينيين لا يثقون في أن انتخابات جديدة يمكن أن تُجرى في الربيع والصيف. لكن هذا لم يمنع البعض من دعم حركة القدوة الجديدة، والتي تعتمد بشكل كبير على دعم العاملين في المنظمات غير الحكومية الفلسطينية، والكتاب، وأعضاء حركة فتح الساخطين، والحركات اليسارية الصغيرة الأخرى وكذلك المستقلين.
في الأسابيع الأخيرة، عقد الملتقى الوطني الديمقراطي الفلسطيني منتديات سياسية منتظمة على الإنترنت عبر برنامج زووم لمناقشة برنامجه السياسي بحضور ما يصل إلى 300 فلسطيني – بمن فيهم أنا – حيث يعتقد القدوة أن الحركة الجديدة هي نتيجة ثانوية لرؤيتهم الجماعية.
هذه هي رؤية الملتقى الوطني الديمقراطي الفلسطيني. لقد ساهمت بشكل كبير في النقاش الذي عُقد حينها، لكنها ليست رؤيتي الشخصية، غير أن القدوة صرّح لمجلة فورين بوليسي: “كان يمكن لأي شخص أن يعترض على أي شيء، وقد أجرينا مناقشات مطولة داخل الجمعية واللجنة التي عُهد إليها بكتابة نص البيان.”
برنامج الملتقى الوطني الديمقراطي الفلسطيني هو نقيض ما تبنته السلطة الفسطينية الحالية . إذ يطالب “الملتقى” بإصلاح النظام السياسي الفلسطيني، وهو ما يأمله من خلال محاربة الفساد، وإعادة بناء الجهاز الأمني والإداري للسلطة الفلسطينية، والالتزام بسيادة القانون، والدخول في انتخابات دورية. بالإضافة إلى الهدف بعيد المدى أي تحرير فلسطين في ظل حل الدولتين على حدود 1967. وهنا، يسعى الملتقى الوطني الديمقراطي – الذي يعارض المشروع الاستيطاني الإسرائيلي – إلى العودة إلى نفس خطة السلام التفاوضية على المعايير التي قبلها المجتمع الدولي خلال الثلاثين عامًا الماضية.
وبخلاف الاحتلال، قال القدوة إن الملتقى الوطني الديمقراطي الفلسطيني سيركز على تحسين جميع جوانب الحياة الفلسطينية، من الرعاية الصحية إلى التعليم والبيئة. كما أن الحركة تدعم توسيع حريات التعبير والمعارضة للأفراد والمؤسسات الإعلامية. وتتمثل إحدى أولوياتها الرئيسية أيضًا في تعزيز المساواة بين الجنسين، وضمان حصول المرأة على فرص عادلة للتعليم والعمل.
يعتقد القدوة أن هناك حاجة إلى إصلاح شامل للنظام السياسي الفلسطيني، خاصة وأن الفلسطينيين قد سأموا من عقود من محادثات السلام غير المجدية التي لم تؤد إلا إلى ترسيخ سيطرة إسرائيل على أراضيهم. وهو يعزز الجهود الشعبية للدفاع عن القرى الفلسطينية التي تتعرض أراضيها لخطر المصادرة الإسرائيلية كوسيلة للمضي قدمًا – ويؤيد حظر عمل الفلسطينيين في المستوطنات الإسرائيلية. في الوقت الحالي، لا توجد سياسة رسمية للسلطة الفلسطينية بشأن هذه القضية الأخيرة: حيث غضت السلطة الفلسطينية الطرف إلى حد كبير عن عشرات الآلاف من الفلسطينيين العاملين في المستوطنات لأنها لا تستطيع توفير فرص عمل بديلة.
وتابع القدوة إن هذا النهج سيوائم السياسة الوطنية الفلسطينية بشكل وثيق مع اتفاقيات جنيف، مما يسهل متابعة القضايا ضد إسرائيل بموجب القانون الدولي وحشد الدعم من الدول الأخرى. إذ قال القدوة في مؤتمر صحفي افتراضي يوم 22 مارس:أنه بدون تحدي الاستعمار الاستيطاني، لن يكون هناك استقلال وطني.
ليس من المؤكد بعد ما إذا كان هذا التحدي سيترجم بالفعل إلى دعم في صندوق الاقتراع، لكن استطلاعًا حديثًا يظهر أنه إذا أُجريت الانتخابات اليوم، فإن قائمة فتح الموحدة ستفوز بنسبة 43 في المائة من الأصوات. أما القائمة التي يرأسها دحلان فستفوز بنسبة 10 في المائة، بينما سيصوت 7 في المائة من الفلسطينيين للقائمة المستقلة بقيادة القدوة. وسيسحب الرجلان الأصوات من قائمة فتح الرسمية، مما يمنح الحركة 30 في المائة من الأصوات. والآن بعد أن دعم البرغوثي قائمة القدوة، يتوقع الاستطلاع أن يرتفع التأييد لقائمة “الحرية” إلى 11 في المائة، مما يخفض حصة حركة فتح في التصويت إلى 28 في المائة فقط.
جاءت محاولة القدوة للترشح في قائمة مستقلة بثمن باهظ. إذ أن ما بدأ كتهديد تضاعف بعد طرده من اللجنة المركزية لحركة فتح. كما تم تجريده من مهامه كرئيس لمؤسسة ياسر عرفات – بما يتعارض مع اللوائح الداخلية لكلا المؤسستين، كما يقول مراقبون.
وقال الجندي: “السرعة التي انتقم بها عباس من القدوة تظهر عدم قدرته على قبول أي شكل من أشكال المعارضة أو التحدي من داخل الحركة. إذ أن الصدع الذي يحدث داخل فتح، إلى جانب جمود عباس، يمكن أن يعرقل بسهولة – أو على الأقل يؤجل – الانتخابات المخطط لها ويهدد بتمزيق الحركة”.
في يناير، بدأت الشائعات في الظهور بأن القدوة سيؤسس برنامجاً مستقلاً، لكن عباس بدوره هدد بـ “إطلاق النار” على أي شخص من داخل الحركة يبتعد عن الخط الرسمي لها. وكرر تهديده مباشرة للقدوة بعد استدعائه لمقره الرئاسي في فبراير، لكن القدوة لم يتراجع. وأعقب ذلك سلسلة من الأعمال الانتقامية: إذ طرد عباس القدوة من اللجنة المركزية لحركة فتح، وأوقف كل التمويل من السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية لمؤسسة ياسر عرفات، بل وسحب عناصر الأمن من القدوة والسيارة الحكومية التي يستخدمها في الأعمال الرسمية.
من جانبه، طعن القدوة في هذه الإجراءات، الذي يعتقد أنها غير قانونية وتتعارض مع اللوائح الداخلية للجنة المركزية لحركة فتح. وقال القدوة لمجلة فورين بوليسي: “لم تطردني فتح من قبل. إنني أنتمي إلى هذه الحركة، وأنا فخور بذلك، وسأستمر في التمسك بهويتي في فتح وعضويتي فيها على الرغم مما حدث”.
أما القشة التي قصمت ظهر البعير كانت طرده من المؤسسة التي يرأسها تكريما لعمه ووالد الحركة الوطنية الفلسطينية – وهي خطوة وصفها البعض بأنها غير شرعية.
قال هاني المصري، الخبير السياسي المعروف وعضو مجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات، “للمؤسسة مجلس أمناء مسؤول عن اختيار مجلس الإدارة ورئيسه”. وندد المصري، وهو أيضا جزء من قائمة “الحرية” الانتخابية، بقرار استبعاد القدوة كإجراء انتقامي.
وتابع: “ما يحدث هو جزء من العقوبات التعسفية بسبب الخلافات السياسية والمنافسة في الفترة التي سبقت الانتخابات، ويدعو إلى التساؤل عن مدى احترام حرية ونزاهة الانتخابات ونتائجها.
مع عودة عباس من ألمانيا لإجراء ما وصفه مكتبه بالفحص الطبي “الروتيني”، يبقى أن نرى ما إذا كان هذا الصراع على السلطة داخل فتح سيدفعه إلى إلغاء الانتخابات المقبلة – كما فعل في الماضي. خطوة سياسية ستكلفه الكثير إلى درجة أنه قد يضطر إلى الاعتماد على إسرائيل للتدخل. ومن جانبها، أغلقت السلطات الإسرائيلية حدثًا ترويجيًا تتعلق بالانتخابات في القدس الشرقية واعتقلت بعض أعضاء حماس في الضفة الغربية الذين فكروا في الترشح.
يعتقد القدوة أن الانتخابات يجب أن تجري مهما حدث. وحذّر: “يمكن أن تكون الانتخابات أداة للتغيير. التغيير يمكن أن يحدث إما من خلال نزول الناس إلى الشوارع أو بشكل ديمقراطي من خلال صناديق الاقتراع”.