من الواضح أن مجتمع الاستخبارات الأميركية في ظل الحرب العالمية على الإرهاب، أصبح عسكريا بشكل مفرط ويركز بشكل كبير على الاستهداف، وقد يكون هناك مسوغا لذلك. وأعتقد أن هذا قد بدأ يتغير مؤخرا نتيجة تحول الاستراتيجية الأميركية وتحول استراتيجية الأمن القومي الأميركية المعلنة، واستراتيجية الدفاع الوطني، حيث من المأمول أن أن يؤدي تصاعد التنافس على النفوذ عالميا مع الصين وروسيا، إلى عودة مجتمع الاستخبارات إلى أعمال التحليل وجمع المعلومات عن طريق الأدوات البشرية مرة أخرى، بعيدا عن عمليات الاستهداف التي تحركها استخبارات الإشارة.
طوال العقدين الفائتين على وجه الخصوص، ركز مجتمع الاستخبارات على نقطة ضعف واحدة، بدلاً من مضاعفة الجهد بشكل أفقي في جهات عدة، حيث أنه وبسبب تركيز وكالة الاستخبارات الأميركية على الإرهاب العالمي وعلى الاستراتيجية التي تحاكي مقاربة الإسرائيليين، فقد دخلنا في نفس اتجاه عمليات القتل فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب، خاصة من حيث إضعاف المنظمات الإرهابية أو حتى قطع رأس هذه التنظيمات من خلال النيل من قادتها. ورغم أن الولايات المتحدة تبرز تقدماً في هذا الاتجاه، إلا أنه ومع افتراض اغتيال كافة قادة هذه التنظيمات، فإن العديد من الأشخاص الأخرين سيظل لديهم القدرة على الصعود نحو القيادة وسد الفراغ. كما أن قدرة التنظيمات الإرهابية على التخفي تتحسن مع الوقت، بدليل أن الاستخبارات الأمريكية قد استغرقت 10 سنوات من أجل استهداف بن لادن.
بالإضافة إلى ذلك، فإن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أصبحت عسكرية السمت والأداء، ما يعني أن الاستخبارات المركزية تحيد تدريجياً عن صفة عملها ومسارها الذي وجدت لأجله، فهي تقوم بدور عسكري رئيسي جنباً إلى جنب مع قيادة العمليات الخاصة المشتركة ومع جهات عسكرية أمريكية أخرى، ولوحظ أنها باتت متمرسة في عمليات المطاردة والاستهداف، بما يمكن وصفه بأنها أفضل شركة في مجال المطاردة على مستوى العالم.
هذه الاستراتيجية تحتاج إلى شىء من المراجعة، حيث من السهل مضاعفة ما تستطيع فعله وإنجازه، كقتل قيادات التنظيمات الإرهابية، أو تحقيق تقدم ملموس في أحد الجبهات، ورغم ذلك يوجد الآن أربعة أضعاف عدد التنظيمات الإرهابية مقارنة بأعدادها بعد عام 2001، كما تعاني كثيراً من مناطق الشرق الأوسط من الفوضى، ورغم ذلك لا يقوم أحد بتوجيه اللوم للاستخبارات الأمريكية على هذه النتائج.
لكن، هذه الدرجة التي وصلت إليها استراتيجية الولايات المتحدة، أصبحت شيئا يحتاج إلى المراجعة. إنه من السهل للغاية مضاعفة ما تستطيع فعل، كقتل قيادات الإرهابيين، وتحقيق تقدم ملموس على هذه الجبهات، ومن ثمة يمكنك البحث عن الأشياء والأمور التي لا تسير جيدا كما تخطط. الآن يوجد أربعة أضعاف عدد الجماعات الإرهابية الجهادية السنية مقارنة بأعدادها في ١١ سبتمبر ٢٠١١، وتعاني كثيرا من مناطق الشرق الأوسط من الفوضى.
في النهاية، يبدو أن محاولات التدخل التي تقوم بها الاستخبارات الأمريكية تتحول إلى مأزق دائماً، وبالتالي فإن هذه الاستراتيجية الخاسرة يجب أن تكون محل مساءلة.
إن القضاء على قاسم سليماني في ٣ يناير ٢٠٢٠ كان محاولة من جانب الولايات المتحدة لرفع تكلفة أي عمل عدائي يقوم به الحرس الثوري الإيراني ووكلائه ضد أي جنود أميركيين في الشرق الأوسط. وبالتالي كانت العملية مهمة من أجل الحد من تصعيد الحرب. حيث كان سليماني في بغداد لمقابلة أبو مهدي المهندس من أجل ترتيب التخطيط لشن هجمات على القواعد الأمريكية في العراق، وبالتالي فإن القضاء على سليماني قد أدى إلى تأخير هذه الخطط بل ووأد بعضها.
لم يكن سليماني يمثل خطراً على الولايات المتحدة مثلما كان يمثل في الفترة التي سبقت مقتله، فإذا عدنا إلى عام ٢٠٠١، قاد سليماني فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني الذي قاتل حركة طالبان في معركة هرات في أفغانستان، وهي المعركة التي قاتل فيها سليماني قوات “الرانجرز” و”دلتا فورس” الأميركية. كما بمهام شبيهة بين عامي ٢٠١٤ و٢٠١٦، حينما قاتل سليماني والقوات الأميركية ضد داعش في العراق.
لكن، عندما حاول سليماني قبل مقتله، تكرار ما فعله سابقا في العراق عندما قاد فرق الموت الخاصة به لقتل الجنود الأميركيين عن طريق العبوات الناسفة بين عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٩، حيث كان سيعتمد هذه المرة على الهجمات الصاروخية ضد القواعد الأميركية في العراق. فإن قرار القضاء عليه قد تم اتخاذه، ما ترتب عليه تحول الحرب بين الحرس الثوري الإيراني والولايات المتحدة الأمريكية من كونها حرب ساخنة إلى حرب باردة.
أنه من الصعوبة بمكان الفصل بين أداء الاستخبارات وعملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن القومي بشكل عام. حيث يتضح أن أداء الولايات المتحدة الأمريكية كان مخيباً للأداء، خصوصاً في الشرق الأوسط. حيث فضلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في تقييم وتحديد المصالح الأمريكية والتهديدات التي تواجه هذه المصالح على وجه الدقة.
ويمكن التدليل على هذا الإخفاق هو الحروب الأمريكية التى طالت عن اللازم، وكذا سوء إدارة العمليات العسكرية التي انخرطت فيها الولايات المتحدة منذ عام 2001. وبالتالي يمكن القول أن الاستخبارات الأمريكية متفوقة من الناحية التكتيكية، لكنها تفتقد استراتيجية استخباراتية.
كواحدة من أطول حروبها في الخارج، فإن الاستخبارات الامريكية في العراق باتت بارعة في صناعة المصادر المباشرة، وتقنيات التجسس والمراقبة والملاحقة، كما لديها هناك فرق من المحللين المهرة في تدقيق المعلومات وتحليلها وتنميتها وكتابة الاقتراحات والتوصيات الدقيقة، حيث نجحت في اختراق تنظيم القاعدة خصوصاً صفوف التنظيم الأولى، كما نجحت في تصفية 73 قائدا مؤسسا لتنظيم داعش، كما استطاعت إضعاف هذا التنظيم عسكريًا وماليًا واعلاميا، وايضا نجحت في صناعة قوات محلية ومناطقية موثوق بها، بالإضافة إلى تمكنها من تأسيس علاقات عميقة مع العشائر والأحزاب الفاعلة في العراق.
بالعودة إلى عام 2003، وعند تقييم قرار الأمريكي للعراق، فإنه يمكن القول أنه لم يكن خطاً استخباراتياً، وإنما جاء بسبب أن الإرادة السياسية الأمريكية رغبت فيه.