نظرية “الأزمنة ما بعد العادية”
قد تكون نظرية “الأزمنة ما بعد العادية” من أفضل ما يصف الديناميات والعمليات التي تشكل العالم من حولنا. ومن أفضل جوانب هذه النظرية أنها تقدم أداة مباشرة للتعامل أو ترشيد الاندفاعة الخطيرة نحو الإعلان عن وجود “حالات عادية جديدة New Normals” ناتجة عن الظواهر والأزمات المختلفة.
الحالة البينية
تؤكد هذه النظرية، باعتبارها نموذجًا معرفيًا يستكشف التقاطعات الفعلية والمتصورة بين مرحلتين “عاديتين”، على “الحالة البينية In-between-ness” للمرحلة الحالية، وهو ما يحفز التفكير النقدي والخلاق في الاتجاهات والقضايا الناشئة التي قد يساعد الوباء على تسارع حدوثها أو تطورها أو تحولها إلى أشكال أخرى.
ما تقدمه نظرية “الأزمنة ما بعد العادية”
وليست نظرية “الأزمنة ما بعد العادية” سوى محاولة من الدراسات المستقبلية لاستكشاف عالم أكثر تعقيدًا وتركيبًا وفي مرحلة تغير مستمر. وللمجال تاريخ ثري في تعزيز الاستكشاف التشاركي للمستقبل. وعلى الرغم من ضرورة الحد من الأنشطة التفاعلية، التي تقع في صلب أدوات الاستشراف التشاركي، لأسباب متعلقة ب”التباعد الاجتماعي”، فإن هذا الوضع يقدم لنا فرصًا حقيقية لتصميم وتطوير جيل جديد من التفاعلات التي تسعى إلى تحفيز التفكير في المستقبلات المرغوبة والبديلة واتخاذ خطوات لتحقيقها. في العام الماضي، تعاونت مع فريق من الباحثين عبر العالم لتحديد نماذج من المستقبلات التشاركية. تلقى المشروع دعمًا من مؤسسة NESTA (الوقفية الوطنية للعلوم والتكنولوجيا والفنون- بريطانيا)، ونتج عنه تقرير و”لعبة” تفاعلية لتحفيز المشاركين للإدلاء بتصوراتهم عن المستقبلات المختلفة، وهو ما يقومون به إلكترونيا دون أن يتقابلوا وجهًا لوجه.
نظرية “الأزمنة ما بعد العادية” حاليا
في الوقت الحالي؛ ونحن مطالبون بالإبقاء على مسافة بين كل شخص وآخر اجتماعيًا وجسديًا، فهناك العديد من الأدوات والمناهج التي يمكن الانتفاع بها ونحن نفكر في المستقبلات البديلة والمرغوبة التي قد تنبع من الأزمة.
يمر العالم حاليا بمرحلة لا يقين كامل حول المستقبلات الممكنة. فلا يمكن لأحد أن يكون متيقنًا من أي شيْ. ولم يكن وباء الكورونا (كوفيد- 19) سوى انهيار سريع لعالم يسيطر عليه بالفعل عدم الاستقرار. لقد كان تأثير التغير المناخي من ناحية، والذكاء الاصطناعي من ناحية أخرى مماثلاً لتأثير الوباء الواقع إلا أن تداعياتهما كانت بماثة منحى هندسي أبطأ. وستؤدي هذه التغيرات معًا إلى دفع كل مجتمع نحو مرحلة جديدة للتعامل مع الحياة على الأرض.
إن أي توقع حول مستقبل العالم جرى قبل أبريل 2020، دون أن يتضمن أي تأثير متوقع للوباء هو عديم الفائدة فيما يتعلق بمساعدتنا على استباق أي مسار مستقبلي حاليًا. ومع ذلك، ما زال عدم اليقين لائحًا في الأفق (مايو 2020)؛ وبالتالي، ينبغي إعادة تقييم كافة التوقعات باستمرار على أساس المعلومات والمعطيات الجديدة المستحدثة. إلا أن هذا لا ينفي أهمية وفائدة الدراسات المتوجهة نحو المستقبل، حيث ازدادت أهميتها أكثر من أي وقت مضى. فالتصرف حيال المستقبل بلا دليل هو بمثابة استدعاء لكوارث محققة، كما تفعل الولايات المتحدة حاليا.
يتطلب الإبحار في عالم اللا يقين الحالي مشاركة الجميع، الخبراء وصناع القرار والمواطنين العاديين الذين يشعرون بحس من المسؤولية الجماعية. وطيلة عملي كعالم في المستقبليات، دائمًا ما أكدت على أهمية منظور “المستقبلات البديلة” وبالتالي عدم التعويل على المستقبل “الأكثر احتمالاً” أو “التنبؤ الواحد”. وأعتقد أن نظرية ومنهج “الصور الأربعة العامة والبديلة للمستقبلات” الذي جرى تطويره في جامعة هاواي بمناوا هو أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ إذ أنه يتطلب من صناع القرار التفكير، على الأقل، في أربعة مسارات مستقبلية محتملة (الاستمرارية والانهيار والتغير المنضبط والتحول)، بما في ذلك احتمالية تدهور الأمور إلى حد الكارثة. وبالتالي الخروج من مفاهيم “إدارة الأمور كما هو معتاد” والتي وإن كانت ممكنة في المستقبل، فهي تتضمن العديد من الأزمات التي نراها حاليًا في التحولات التي لا نستطيع استيعابها بأدوات التفكير المعتادة.
يمكن القول إن لحظة اللا يقين الحالية يمر بها العالم والمتمثلة في تداعيات وباء الكورونا تمثل “وحيد قرن رمادي” وهو مجاز يشير إلى تلك الأحداث التي تنبأ بها عدد كبير من الخبراء إلا أننا فشلنا في التصرف حيالها عند وقوعها، وذلك لعدة أسباب أهمها غموض الحدث وانعدام الدقة حياله، فإلى الآن ما زالت الأبحاث تجرى حول الوباء فضلاً عن علاجه. وإذا نمى إلى علم المرء أن هناك صاعقة ستصيبه، إلا أنه يجهل توقيتها والضرر الذي ستلحقه به، فغالبًا لا يتصرف حيالها. والثاني هو حجم الظاهرة، فنحن أمام ظاهرة عالمية ولها تداعيات عميقة. وكلما ساء السيناريو الناتج عن هذه الحوادث، فغالبا ما يميل الناس إلى التقاعس وعدم القيام بشيْ لمواجهتها. وهو ما يطلق عليه تأثير كاسندرا، فالناس أميل إلى عدم مواجهة الأخبار السيئة. وأخيرًا الخبرات السابقة. وفيما يتعلق بوباء الكورونا تتمثل الخبرات السابقة في وباء سارس، وقد كان أكثر فتكًا إلا أنه كان أقل من حيث العدوى، على العكس من أنفلونزا الخنازير التي كانت أقل فتكًا إلا أنه واسعة العدوى. ونتيجة لهذه الأسباب مجتمعة كانت الأغلبية مجمعة على أن الأوبئة ليست على خريطة المخاطر التي ينبغي التعامل معها بجدية.
للاستشراف دور هام في التعامل مع هذه اللحظة. إلا أنه من الضروري التنبه إلى أنه ليس “توقعًا” بما سيجري بل أداة فعالة وممنهجة واستكشافية للتفكير في المستقبل. ويمكننا التفكير فيه كمن يحدد لنفسه هدفًا في نهاية عام ما ومن ثم يتدبر في كيفية الوصول إليه وفي الأحداث الطارئة التي تطرق عليه بابه وما إلى ذلك من عوامل عديدة تتجاوز التمني. وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، فالاستشراف على جانب كبير من النفع؛ مع الأخذ في الاعتبار هشاشة المشهد الجيوسياسي. ومنبع هذه الأهمية، من ناحية، هو وجود العديد من الفاعلين المشاركين في صياغة المستقبل، ولكل منهم خيارات عديدة يسعى للعمل عليها. ويساعدنا الاستشراف على التفكير في تلك الخيارات المتعددة وأن نحدد الاحتمالات المختلفة لمسارات المستقبل والأهم لما يمكن القيام به وما الضروي منعه من الحدوث.
أمام الدول العربية العديد من التحديات التي تتعامل معها، إلا أن الكثير من هذه الدول ما زالت تعارك أزمات الماضي لا تحديات الغد. على سبيل المثال، سيضرب التغير المناخي البلاد العربية بشكل أسوأ من غيرها، إلا أن الدول ما زالت مستمرة في ضخ الانبعاثات الكربونية بكل سعادة، ووصل الكثير منها لمستوى ما تخرجه الدول الأوروبية من انبعاثات، دون أن تتخذ أية إجراءات لمجابهة تداعيات الاحتباس الحراري الذي سيضربها، بل بدأ فعليًا في ضربها. بالإضافة إلى هذا، ستغير التكنولوجيا من الطريقة التي يعمل ويتواصل ويبكر بها الناس. وتتمتع الدول العربية فعلاً بوجود إمكانيات للابتكار في هذا الصدد، خاصة لو فكرنا في مسألتي الطاقة والتكنولوجيا (ولنفكر فقط في الإمكانيات الهائلة للطاقة الشمسية في المطقة؛ فأصبحت مصر على سبيل المثال تستخرج 3.1% من احتياجاتها من تلك الطاقة، وهي نسبة ما زالت متواضعة) إلا أن العديد من الدول العربية ما زالت قابعة في سياسات التصنيع المرتبطة بالخمسينات أو الاعتماد على القطاع السياحي كقائد للاقتصاد كما كان في سبيعينات القرن العشرين. هناك إمكانية حقيقية في استغلال هذه الأوقات التي تتكاثر فيها الغضوط لتحقيق قفزة للإمام من أجل مستقبل أفضل. بيد أن هذا لن يتحقق إلا ممن خلال الخطط الطموح والشجاعة والقيادة.
إن الطريقة التي تتغير بها القيم والأعراف الاجتماعية تمثل أحد جوانب الاستشراف التي نعرف عنها القليل. وغالبًا هو أن نتصور أن المجتمع يتغير خلال فترة وجيزة الطريقة التي يفكر فيها حول التعليم والبيئة والصحة والاقتصاد وغير ذلك من قضايا. وبحسب ما رصدته حتى الآن، فإن الشباب العربي، يفكر بطرق عديدة مختلفة عن تلك التي اعتاد آباؤه أن يفكروا بها. بالطبع هناك استمرارية، فما زالت هناك شعور بالهوية، والكثير منهم ما زال محتفظًا بتصوراته عن أمور اجتماعية مثل الزواج. إلا أن الشباب يتمتع بمميزات أكثر في العديد من القضايا الأوسع مثل المعرفة والتواصل وحتى بالفنون والرياضة. وبالتالي أتصور أن الأجيال العربية الشابة مختلفة، ويمكن أن يكون لها دور فاعل.
من المؤكد أن الأزمات المترابطة الحالية قد زادت من الحاجة إلى التفكير المستقبلي والدراسات المستقبلية. أولاً، يتطلب تعقد وتشابك العديد من الاتجاهات الكبرى ذات الأهمية والخطورة (أي التغير المناخي، والاستقطاب الاجتماعي والعنصرية والفساد وتراجع كفاءة الحكومات) التفكير المنظم وتحليل التداعيات على المدى البعيد. ويزيد الوضع الحالي من الحاجدة الملحة لتنويعة واسعة من الخيارات السياسية القائمة على الدليل؛ إذ أن طريقة إدارة الأمور كما هو معتاد لم تعد استراتيجية كافية للتعامل مع العالم المستقبلي الذي سيكون مختلفًا في معطياته وآلياته عن الأزمنة والأوضاع المعتادة. ثالثًا، مع تزايد سرعة التغيرات، فهناك حاجة متزايدة إلى المشاركة الواسعة في صناعة القرارات. فمن الواضح أن طرق الإدارة من أعلى لأسفل هي الأقل نجاحًا. وتتطلب التنمية المستقبلية مواطنين أكثر علمًا وتثقفًا لمجابهة التحديات الأكثر تعقيدًا وإرباكًا.
من خلال الخبرات المتوفرة لتفعيل أدوات الدراسات المستقبلية، ربما يكون من الأفضل للتعامل مع الأوضاع اللايقينية والمعقدة الحالية استخدام أداتين للاستشراف. الأولى هي السيناريوهات التي ينبغي بناؤها من خلال مشاركة مجموعة واسعة من الخبراء من مختلف جوانب المجتمع. ومن المعروف أن بناء السيناريوهات عملية تطلب جهدًأ ووقتًا طويلاً؛ لذا يمكن الحد من هذا القصور عبر استخدام تقنية دلفي- الوقت الحقيقي التي تعتمد على استقراء آراء الخبراء من خلال استبيانات متتابعة. يمكن أن يعبر أحد السيناريوهات (السيناريو المرجعي) عن تطور الوضع القائم والاتجاهات السياسية والاجتماعية، فيما تعبر السيناريو الآخر التغيرات والتحولات غير المتوقعة في مسارات الظاهرة موضع البحث. أما الأداة الثانية فهي “السيناريو الإيجابي” الذي يعبر عن جهود عملية وخارطة طريق لتحقيق تصورات مرغوبة عن المستقبل. وهو ما يتطلب ضرورة المشاركة من كافة القطاعات المعنية بتحقيق هذا السيناريو. ولا تعني المشاركة مجرد المساهمة بالمعلومات بل أيضًا حشد الدعم والمشاركة من قطاعات اجتماعية تتجاوز الخبراء وذوي السلطة.
يمكن تخيل الفرص التي قد تقدمها “السيناريوهات” وغيرها من أدوات الاستشراف في فهم تحولات ومستقبل منطقة الشرق الأوسط. تعج المنطقة بالعديد من القضايا المعقدة والمركبة سواء الخاصة بها أو التي تعبر عن انعكاسات عن قضايا عالمية. ومن الواضح أن السياسات التقليدية المتبعة في التعامل مع المنطقة قد أخفقت في خلق وضع “فائز- فائز” في كافة أزمات المنطقة أو أن تحقق الرفاهية لمواطنيها. إلى جانب أهمية الاسشتراف في محاولة فهم المسارات المركبة لقضايا المنطقة، فيمكن لأدواته المختلفة أن توفق بين وجهات النظر، ومن ثم المصالح المتصارعة، لمختلف الأطراف سواء الإقليمية والدولية. ومن ثم تحويل ساحات الصراع إلى مساحات من التفاهم وربما التعاون لتحقيق المصالح المشتركة.