تغيرت سيناريوهات ما تبقى من المرحلة الانتقالية في السودان بشكل كبير منذ إعلان رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان –في خطبة متلفزة-في الرابع من يوليو 2022 عزم الجيش التنحي عن إدارة المرحلة بمجرد توصل القوى السياسية والثورية لاتفاق على حكومة تكنوقراطية جديدة؛ ولفت مراقبون إلى توقيت الخطبة مع تعمق الأزمة الاقتصادية في البلاد وعجز الجيش عن تكوين حكومة جديدة عوضًا عن تعاظم حركة الاحتجاجات المطالبة بالعودة إلى مجتمع مدني ([1]).
بينما لفت مراقبون إلى أن التوقيت يعني بالأساس قدرة الجيش السوداني على المناورة مع “القوى المدنية” ووضعها –بالأساس- أمام مسئولياتها بعض ضمان المؤسسة العسكرية تعزيز قدرتها التفاوضية فيما تبقى من المرحلة الانتقالية سواء عبر تراجع خطاب “الإقصاء السياسي” إلى أدنى مستوياته (لاسيما في مفاوضات الغرف المغلقة بين المكون العسكري والمدني)، والدعم السياسي المدني الذي أضحى للجيش في الشهور الأخيرة لاسيما بين صفوف ما يعرف “بالتيار الإسلامي العريض” ويؤشر إلى تآكل مطالب “المكون المدني” ووجود قاعدة أكثر وضوحًا للشراكة العسكرية المدنية في إدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية.
ما حدود دور الجيش في مرحلة ما بعد البشير؟
رغم الانتقادات التي وجهت للجيش السوداني منذ عزل الرئيس عمر البشير (أبريل 2019) فقد ظلت المؤسسة العسكرية الجهة الأكثر انضباطًا ورسوخًا في مواجهة تقلبات داخلية وإقليمية واجهت السودان طوال الأعوام الثلاثة الماضية. التي ظلت في معظمهم رهينة مجلس انتقالي مدني- عسكري وتوتر واضح إزاء مسألة المشاركة في السلطة حتى انفراد رئيس المجلس عبد الفتاح البرهان بالسلطة في أكتوبر 2021 بعد احتجاز رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك وحل الحكومة في توقيت حساس داخليًا وخارجيًا بعد معلومات عن محاولات انقلابية “قام بها عدد من ضباط موالون لنظام البشير السابق”، وبعد أيام قليلة من خروج مظاهرات حاشدة دعمًا للديمقراطية هي الأكبر من نوعها منذ مارس-أبريل 2019، وساعات من اجتماع مسئولون أمريكيون مع القادة العسكريون بالسودان وتأكيدهم أن المعونات الأمريكية لا تزال مشروطة “بالانتقال الكامل لحكومة مدنية هذا العام (2021)”([2]).
هل لا يزال “للمكون المدني” مظلة ثورية واحدة؟
شهد تكوين ما عرف بالمكون المدني (الذي تكون من تيارات متنوعة الخلفيات الأيديولوجية والتأثير السياسي على الأرض) بعد شهور قليلة من عزل عمر البشير تحولات وتآكل واضح في تماسكه وقاعدته الشعبية وخلافات تنظيمية متتالية على خلفية المواقف السياسية من العلاقة مع القوات المسلحة ورؤى إدارة المرحلة الانتقالية والتفاعل مع القوى الخارجية المعنية بالشأن السوداني، وبعد سلسلة من الاقصاءات (مثل خروج الحزب الشيوعي من صياغة أجندة إدارة المرحلة الانتقالية)، والتوازنات غير المحسوبة، والإقدام على خطوات سياسية خصمت من رصيد هذا المكون في الشارع السوداني (مثل الارتباك في عمل ما عرفت بلجنة إزالة التمكين وما اتهمت به من فساد وتربح وانتقائية).
وبناءً عليه، لا يمكن القول أنه ثمة مظلة ثورية واحدة تضم “المكون المدني” وتوجهاته المشتركة، كما اتضح منتصف أغسطس الجاري في مشاركة أكثر من 120 حزب سياسي سوداني و40 منظمة مدنية ورجال أعمال وممثلون من التيار الإسلامي والكنيسة في اجتماعات المائدة المستديرة لمبادرة “أهل السودان” التي وصفتها قوى الحراك الشعبي الاحتجاجي الحالي بمبادرة “اللجنة الأمنية” (التي أدارات البلاد في نهاية عهد البشير).
كيف يمثل الاقتصاد “مربط الفرس” في حسم مخرجات المرحلة الانتقالية؟
ظل الاقتصاد مصدر الضغط الرئيس على إدارة المرحلة الانتقالية في السودان التي تزامنت مع تداعيات إقليمية ودولية خطيرة تنذر بمزيد من الصعوبات الاقتصادية، وضاعف من استمرار الضغوط الاقتصادية عدم قدرة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك على تطبيق أية خطط داخلية لتطوير أداء الاقتصاد السوداني وتركز كل جهده على ملف رفع اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب بالتعاون مع السلطات الفاعلة في السودان وعدد من شركائه عربيًا ودوليًا.
ورغم تراجع التضخم منذ يوليو 2021 فإنه لا يزال في يونيو 2022 عند مستوى 148.9%، بينما جمد المانحون الغربيون مسار إرفاد السودان ببلايين الدولارات كمساعدات مالية للحكومة كما علقوا خطط خفض ديون السودان الخارجية المقدرة بخمسين بليون دولار مما بدد آمال التعافي الاقتصادي.
ويواجه الان نحو 15 مليون سوداني حالة عدم أمن غذائي حاد بسبب اضطرابات واردات البلاد من الغذاء (يستورد السودان نحو 85% من احتياجاته من القمح لاسيما من روسيا وأوكرانيا). ورغم تعهد البنك الدولي في يوليو الفائت بتمرير 100 مليون دولار من مساعداته الحكومية المعلقة لبرنامج الغذاء العالمي “لتزويد مليوني سوداني بالغذاء والتحويلات النقدية”.
ويبرر هذا الوضع الاقتصادي استعداد المكون العسكري في السودان لنقل السلطة لحكومة مدنية([3]) لكن عبر تفاعلات منضبطة وتضمن مشاركة سياسية أوسع ومسار ديمقراطي أكثر وضوحًا من مساعي “المكون المدني” الحالي (للمفارقة السياسية الخطيرة هنا) اختزال تمثيل مكونات الشعب السوداني في استراتيجياته ورؤاه والقفز فوق الاشتراطات الضرورية لتكوين حكومة مستقرة وممثلة للشعب السوداني عبر مقررات دستور دائم وترسيخ المؤسسات التشريعية والتنفيذية.
ما حظوظ التيار الإسلامي العريض في “العودة من الخلف”؟
رغم الربط التقليدي بين جماعة الإخوان المسلمين في السودان وحكم عمر البشير إلا أن القراءة المتأنية ربما تكشف عن “توظيف” نظام البشير لجماعة الإخوان المسلمين في أدوار ارتضتها الجماعة برحابة صدر من قبيل لعب دور الحاضنة السياسية للنظام العسكري وقوة ردع سياسي لمختلف التيارات السياسية في السودان لتكريس إدارة عمر البشير لمفاصل الدولة دون معارضة تذكر.
وانطلاقًا من هذه الملاحظة يمكن تصور أن ما عرف “بالتيار الإسلامي العريض” (الذي تكون في يونيو العام الجاري عبر دمج ما لا يقل عن 8 أحزاب ذات خلفية إسلامية) وظهوره بشكل دعائي ملفت يؤشر إلى عدم تراجع المكون العسكري عن توظيف هذه الورقة المهمة لحسم صراعه مع “القوى الثورية” وضبط بوصلة المرحلة الانتقالية وفق ما يتصوره المكون العسكري لإعادة الاستقرار في البلاد.
وقد نجح “التيار الإسلامي العريض” في العودة السلسة للشأن السياسي السوداني عبر تبنيه خطابًا “دعويًا” بهدف “الوحدة بين الجماعات الإسلامية” وما بينه القيادي الإسلامي حسن رزق –على سبيل المثال- من أن هدف التيار “تنزيل قيم الدين على جميع أوجه الحياة في شؤون المعاش والمعاد في شمول وتكامل وفق فهم عميق لمقاصد الدين”؛ وهو خطاب إسلامي تقليدي يبدو محايدًا، ويدعم في النهاية رفض المكون العسكري ومن خلفه قطاعات سياسية معتبرة حتى من خارج “التيار الإسلامي” لفكرة فصل الدين عن الدولة؛ وبالتالي فإن إمكانات توظيف “التيار الإسلامي العريض” سواء في أية انتخابات مقبلة أو في ملفات المرحلة الانتقالية مرحليًا تعزز فرص صموده وتمدده وربما مأسسته تمامًا في المرحلة المقبلة.
هل تستمر سياسة “المبادرات”؟
أطلقت منذ استيلاء القوات المسلحة على السلطة (أكتوبر 2021) عدة جهود ومبادرات بهدف تيسير حدوث إجماع جديد بين القوى السياسية من جهة وبين هذه القوى والجيش من جهة أخرى. وسعت هذه المبادرات، التي قدمها أكاديميون ورجال أعمال ومجتمع مدني، إلى جسر الفجوة بين القوى السياسية وإقامة منصة موحدة جديدة لإدارة المرحلة الانتقالية في السودان دون خسائر جسيمة أو انقسامات حادة، بينما استمرت مبادرات أخرى في مسارات هادئة وعبر قنوات خلفية مع الجيش وقوات الأمن السودانية لتفهم أولوياتها واستكشاف خيارات هذه المؤسسات في “خريطة طريق جديدة” لما تبقى من المرحلة الانتقالية([4]).
ويكشف تتابع المبادرات عن وجود قنوات مستديمة للتفاوض السياسي “غير الرسمي” يسهم يومًا بعد يوم في اتضاح ملامح خريطة ما تبقى من المرحلة الانتقالية وعلى نحو قد يقود في النهاية إلى اختزال هذه الفترة وصولًا لحسم جميع القضايا الخلافية عبر انتخابات عامة كضمانة لاستقرار السودان على المدى البعيد، وهو خيار تتخوف منه مكونات ثورية –لاسيما المرتبطة بعلاقات مع أطراف خارجية مثل إثيوبيا- في المرحلة الراهنة وتسعى لتحقيق مكاسب (من قبيل المقترح الأمريكي السابق المتمثل في تكوين مجلس تشريعي مصغر لضبط مسار المرحلة الانتقالية وتفادي خيار الانتخابات العامة الشاملة والنزيهة).
وهكذا يتوقع استمرار “المبادرات” الدافعة في هذا المسار، كما تمثل مؤخرًا (نهاية يوليو) في صدور مبادرة “أهل السودان”.
ما فرص نجاح “مبادرة أهل السودان”؟
أطلق الزعيم الصوفي الطيب بدر مطلع أغسطس الجاري مبادرة عرفت بمبادرة أهل السودان حظيت فور إطلاقها بالتفاف ملحوظ من قبل قوى سياسية ودينية محسوبة على نظام الرئيس المعزول عمر البشير، واكتسبت مع الوقت أرضية جديدة خارج هذه “الكتلة” مع تفاعل أكبر قرب منتصف أغسطس الجاري في فعاليات “مائدة مستديرة” دعت لها المبادرة لمناقشة ما وصفته “بتأسيس شراكة بالتراضي بين الجيش والقوى السياسية والاجتماعية خلال الفترة المقبلة”، رغم رفض قوى ثورية في مقدمتها قوى الحرية والتغيير والحزب الشيوعي ولجان المقاومة للمبادرة على خلفية اتهامها بأنها باب خلفي لعودة الإخوان المسلمين وقوى الإسلام السياسي([5])، في شراكة نفعية متبادلة مع “الجيش السوداني”.
ورغم ما تمثله مبادرة أهل السودان من اختراق سياسي واضح للأزمة الحالية كونها انطلقت من خلفية “صوفية” ذات حضور بارز في مختلف مكونات المجتمع السوداني وبشرت بمصالحة وطنية وحكومة مدنية فإن استجابة قطاع من القوى الثورية تمثل استخفاف كامل بالمبادرة باعتبارها مبادرة “صوفيكيزانية” في إشارة لما تعتبره هذه القوى تحالفًا صوفيًا مع جماعة الإخوان المسلمين، وتغفل هذه الاستجابة حقيقة استمرار تمتع تيار الإسلام السياسي (الذي أعاد التمترس خلف لافتة “التيار الإسلامي العريض”) بقاعدة شعبية تمثل كتلة تصويتية لا يستهان بها في أية انتخابات نزيهة مقبلة، ويجعلها في واقع الأمر طرفًا أصيلًا في مستقبل السودان بغض النظر عن التصورات المتبادلة.
ويعول فريق عبد الفتاح البرهان بقوة على نجاح المبادرة لتحقيق عدة أهداف بينها وضع قاعدة لمصالحة وطنية تسهم في مزيد من الاستقرار السياسي المأمول، والضغط على سقف توقعات “القوى الثورية” الذي تجاوز حدود المنطق في المراحل الأخيرة، وفي النهاية-على نحو غير مباشر-ضمان استمرار حضور القوات المسلحة وشبه النظامية في المشهد السياسي السوداني، وهي أهداف تعزز فرص نجاح المبادرة مستقبلًا في كسب مزيد من التأييد في صفوف تيارات سياسية تقليدية وغير تقليدية.
ما هي حدود الأدوار الإقليمية والدولية المرتقبة؟
كان ملفتًا أن مواقف أغلب الدول العربية المعنية بالشأن السوداني إزاء “أحداث أكتوبر 2021” دارت حول بيانات مقتضبة داعية إلى الهدوء في السودان؛ بينما أدانته الأمم المتحدة ودول غربية عدة على نحو يمكن وصفه بالإجراء “الروتيني”، أما الحكومة الأمريكية فإنها وجهت مواطنيها في السودان إلى التزام البقاء في منازلهم، بينما بادر الاتحاد الأفريقي بتعليق عضوية السودان “على الفور” (بإيعاز واضح من أديس أبابا التي فوجئت بخطوة البرهان)، ولم تصدر إسرائيل أي بيان رسمي حول الأحداث حينها التي وصفت بالانقلاب([6]).
تؤشر هذه المواقف الإقليمية والدولية إلى إدراك خطورة الوضع في السودان والثقة “الضرورية”، عوضًا عن الواقعية، في استمرار مقاليد الأمور في يد الجيش السوداني تفاديًا لأية سيناريوهات فوضوية في السودان، وهي مؤشرات لم تتغير مع اقتراب مرور عام على انقلاب أكتوبر 2021.
كما أن حضور عدد من سفراء الدول وممثلو البعثات الأجنبية ورئيس بعثة الاتحاد الأفريقي بالخرطوم محمد بلعيش فعاليات “المائدة المستديرة” التي دعت لها مبادرة أهل السودان منتصف أغسطس الجاري يشير إلى انفتاح إقليمي ودولي نسبي على أية حلول في مسار التهدئة والتوافق في السودان.
هوامش
[1] Susan Stigant, In Sudan, a Narrow Opportunity to Get the Democratic Transition Back on Track, United States Institute of Peace, July 7, 2022 https://www.usip.org/publications/2022/07/sudan-narrow-opportunity-get-democratic-transition-back-track
[2] Miriam Berger and Sammy Westfall, Sudan’s military has taken over. Here’s what to know about who’s in charge, The Washington Post, October 26, 2021 https://www.washingtonpost.com/world/2021/10/25/sudan-coup-military-takeover-why-who/
[3] Alan Boswell, A Breakthrough in Sudan’s Impasse? International Crisis Group, Augu-st 12, 2022 https://www.crisisgroup.org/africa/horn-africa/sudan/breakthrough-sudans-impasse
[4] Susan Stigant, In Sudan, a Narrow Opportunity to Get the Democratic Transition Back on Track, United States Institute of Peace, July 7, 2022 https://www.usip.org/publications/2022/07/sudan-narrow-opportunity-get-democratic-transition-back-track
[5] مؤتمر سوداني يدعو لشراكة بين الجيش والمدنيين في الفترة الانتقالية، جريدة الشرق الأوسط، 14 أغسطس 2022 https://aawsat.com/home/article/3814461/
[6] Miriam Berger and Sammy Westfall, Sudan’s military has taken over. Here’s what to know about who’s in charge, The Washington Post, October 26, 2021 https://www.washingtonpost.com/world/2021/10/25/sudan-coup-military-takeover-why-who/