لعلّ أول ما يلفت نظر أي قارئ للتاريخ الاقتصادي المصري الحديث هو التقلّب الشديد في معدلات نموه كأول وأبرز مظاهر عدم استقراره؛ الأمر الذي تتداخل في تكوينه العديد من الاعتبارات مما لسنا في محل تناوله، لكنها تتشابك وتتضافر جميعًا عند نقطة مفصلية واحدة، هي “ضحالة التصنيع”، فمن تلك الضحالة تبرز إشكالات الهيمنة الخدمية وتفشّي الممارسات الريعية وغيرها، كذا، وكنتيجة منطقية؛ العجز المُزمن في ميزانيّ التجارة والمدفوعات، ذلك العجز الذي كان ولا يزال من الثبات والجوهرية، حد وصفه خالد إكرام، مدير مكتب البنك الدولي في مصر لربع قرن (1975-2000م)، بأنه كان المُحدد الأول للنمو الاقتصادي المصري طوال النصف قرن التالي على ثورة يوليو!
ويعكس هذا الوضع حالة التبعية التي يعانيها الاقتصاد المصري بما تعنيه من عجزه عن التجديد الذاتي، والتي تأتي للمفارقة في ظل ضعف اندماج مصر في السوق الدولية ومحدودية مشاركتها في الاقتصاد العالمي؛ ما يؤيد فكرة اعتماد “التجديد الداخلي” ذاته على الاستيراد من الخارج؛ والذي يقود حتمًا لعجز تجاري مُزمن لاقتصاد يدفع العملة الصعبة للخارج لمجرد الحفاظ على مستوى تشغيله الداخلي، وليس لتوليد المزيد منها، أو على الأقل تغطّية ما يدفعه منها بصادرات للخارج.
يطرح هذا الاستحقاق التاريخي المؤجل على أجندة أعمال الاقتصاد المصري، وهو التصنيع المستقل، الذي يظل بالتأكيد طموحًا كبيرًا لا يمكننا استهدافه في الأجل المنظور، كما يتطلّب برنامجًا تنمويًا شاملاً أكثر جذرية، فيما الغزاة، أو بالأحرى الدائنون، على أبواب المدينة، ما يعني ضرورة وضع برنامج عاجل يستهدف مرحليًا تعميق التصنيع، كخطوة أولى، تعالج أولاً، في الأجل المنظور، مشكلة العجز التجاري والضغط على موارد النقد الأجنبي وسعر صرف العملة المحلية من جهة، كما تمثل مقدمة منطقية وضرورية لبرنامج تصنيع أكثر عمقًا وشمولاً في الأجل المتوسط.
الفلترة الثلاثية لتعميق صناعي عاجل: من الأجل القصير إلى الأجل المتوسط
تتعدّد المناهج والمعايير في تقييم اتجاهات الاستيراد والتصدير، ورغم التحفظ جزئيًا على المبالغة في الاعتماد على المعايير الفنية “الوحدية” ضيقة الأفق بعيدًا عن الأُطر الكلية الأكثر شمولاً، بما تتضمّنه من أولويات وطنية وأبعاد إستراتيجية، فإنها إن طُبّقت في إطار من الوعي بتلك الأولويات والأبعاد؛ تظل مناهجًا مفيدة في ترشيد التجارة الخارجية للبلد؛ بشكل يضمن جودة تكاملها مع احتياجات الاقتصاد المحلي وضرورات تطوّره طويل الأجل، لهذا فما نقترحه هنا، في ظل التأزم الخاص الذي يعانيه الاقتصاد المصري، هو فلترة ثلاثية متتابعة بثلاثة معايير ومناهج مختلفة، تتراتب وتتكامل على التوالي، كما يلي:
أولاً: مؤشر المرونة الاستبدالية للواردات
وهو الفلتر الأكثر أوّلية وأساسية، الذي يبدأ باستبعاد الواردات الأقل ضرورة والأكثر قابلية للإنتاج المحلي بتكلفة مُقارنة مقبولة، كأهم معيارين للقابلية للاستبدال، بل ونقترح تطوير مؤشر كامل للمرونة الاستبدالية اعتمادًا على كافة الاعتبارات ذات الصلة، وإجراء مراجعة شاملة على أساسه، لكافة فئات الواردات المصرية سلعيًا وقطاعيًا، بل وتقدير مؤشر عام مُجمّع لمُجمل كتلة الواردات لإجراء المقارنات عبر السنوات، ومراقبة الانحراف عن المستويات المُستهدفة للمؤشر، الذي يُفترض السعي لخفضه تدريجيًا عبر السنوات كمعيار على تحسّن جودة الواردات من وجهة الكفاءة الاقتصادية، أي رشادة السلوك الاستيرادي للاقتصاد، من جهة المساهمة النوعية لها فيه من جهة، وقدرته على استخدام أقصى طاقاته كمّيًا وأفضل إمكاناته كيّفيًا من جهة أخرى.
وبالطبع، فما نتوقّعه حاليًا هو أن يكون المؤشر مرتفعًا؛ بما يتسّق مع الميراث التاريخي لمصر عبر نصف قرن من الإفراط في الاعتماد على الخارج، المتوازي مع انخفاض مستوى تنوّع القطاع الصناعي وضحالته محليًا؛ ومن ثم اتساع مساحة التطوير والاستبدال الممكنة في مكوّناته الإنتاجية والاستهلاكية؛ ما يعني أيضًا إمكانات التحسين السريع بخفض المؤشر، بتقليص الواردات عالية المرونة الاستيرادية؛ ومن ثم خفض متوسط المؤشر الإجمالي للواردات المصرية.
ثانيًا: تحليل السوات SWOT Analysis
ويُعرف بتحليل نقاط القوة والضعف والفرص والتحديات، ويقوم كما يبيّن اسمه على تحليل نقاط التفوّق والقصور في القدرة التنافسية السلعية للدولة، وعلى مستوى كل قطاع وصناعة على حدة، ونقترح استخدامه كفلتر تعزيزي للفلتر السابق؛ لأولوية البدء بتصّفية فائض الواردات الأعلى قابلية للاستبدال الذي يرهق الميزان التجاري المُثقل فعليًا دونما ضرورة، كما يتكامل معه من جهة عدم إهدار الطاقات والموارد في السلع والصناعات “محدودة الامل” التي لا تمتلك البلد فيها أية فرصة حقيقية في الأجل المنظور أو حتى في الأجل الطويل، وهو يمثل أول خطوة في الانتقال بالمنهجية المقترحة من الأجل القصير إلى الأجل المتوسط.
ثالثًا: تحليل الصاعد والهابط
ويختلف عن التحليل السابق في تصنيفه السلع والصناعات من جهة موقفها في بنية التجارة الدولية نفسها، واصفًا إياها بالنجوم الصاعدة أو الهابطة، فما هو صاعد هو ما يحقّق سوقًا متزايدة ومعدلات تبادل دولية مستقرة على الأقل، وما هو هابط أو آفل هو ما يخالف ذلك، وأهمية ذلك هو عدم استثمار البلد إمكاناتها ومواردها في قطاعات آفلة محدودة الإمكانات السوقية ومتدهورة العوائد السعرية؛ ما يجعله فلترًا ثالثًا مناسبًا، لاستبعاد ما قد يبدو كنقاط قوة وفرص سلعية أو قطاعية للبلد، لكنها ضمن النجوم الآفلة على الصعيد الدولي؛ مما يفضل معه الاقتصاد في الاستثمار بها، وربما الاكتفاء باستيرادها -في الحدود الآمنة- من الخارج، ولعل صناعة الغزل والنسيج الذي لا يزال بعض مسئولي الحكومة المصرية يتغنّون بها، ويتحدثون عن السعي لتحقيق موقع متميّز بها، أحد أبرز نماذج النجوم الآفلة في عصرنا الحالي، ولا عجب في ذلك، فهى فعليًا وتاريخيًا أقدم صناعات العصر الحديث مطلقًا.
إمكانات مُهدرة: عن ارتفاع المرونة الاستبدالية للواردات المصرية
ربما يعتقد البعض أننا نبالغ بالحديث عن ضعف الرشادة الاستيرادية في مصر، وأننا نستورد كثيرًا مما نستطيع إنتاجه من السلع الصناعية النهائية والوسيطة؛ بما يعنيه ذلك من توافر كثير من الإمكانات الاستبدالية الواسعة، التي يمكننا من خلالها تخفيف الضغط على ميزانيّ التجارة والمدفوعات، من خلال تعميق التصنيع الاستبدالي المحلي.
ومما يؤكد ارتفاع المرونة الاستبدالية للواردات المصرية هو انخفاض المستوى النوعي للصناعة التحويلية كما يظهر في تكوينها القطاعي، من غلبة القطاعات الاستهلاكية منخفضة التقنية والقيمة المُضافة، بما يقرب من نصف منتجات القطاع، فعلى سبيل المثال، يسيطر قطاع الأغذية والمشروبات والتبغ وقطاع الغزل والنسيج والملابس والجلود وحدهما على ثلث إنتاج الصناعة التحويلية تقريبًا.
ومن جهة نوعيات الواردات، فحسب بيانات البنك المركزي المصري عن المدفوعات عن الواردات السلعية غير البترولية خلال السنة المالية 2019/2020م، والتي تمثل بمجموعها حوالي 86% من إجمالي الواردات، فبخلاف الواردات الاستهلاكية البحتة البالغة 31.3% من إجمالي تلك الواردات، بلغت واردات السلع الوسيطة 36.5% منها، وواردات السلع الاستثمارية 16.8% منها، وهكذا فبفرض انتماء كامل فئة السلع الاستثمارية للسلع عالية التقنية التي لا تستطيع مصر إنتاجها في الأجل المنظور؛ تظل لدى مصر مساحةً واسعة للترشيد والاستبدال الاستيرادي فيما قد يصل إلى ثلثيّ الواردات المصرية غير البترولية بالكامل.
أما من جهة القدرة الصناعية المتوافرة نفسها، فإن ارتفاع حصة الصادرات من سلع الصناعات التحويلية إلى إجمالي الصادرات المصرية من 43.4 إلى 59.2% خلال الفترة 2010-2020م، حسب بيانات التقرير الاقتصادي العربي المُوحد لعام 2021م، هو مما يؤكد توافر الإمكانية الواسعة لتعميق الصناعة التحويلية المصرية؛ فهي لا تعاني مشكلة “تشبّع سوقي” ولا مشكلة “تشبّع طاقات إنتاجية”؛ فلديها مساحة واسعة لملئها على الجبهتين انطلاقًا من تواضعها الكمّي والكيّفي ومحدوديتها النوعية، المُنعكس جميعه في ضعف استغلالها للاثنين.
لكن أيّة سياسات عاجلة؟
وهنا لا تعجزنا السياسات الاقتصادية التقليدية لدعم الصناعة المحلية، فقط إن تخلّينا عن الأوهام النيوليبرالية بأن الصناعة قد نجحت في أي مكان على الإطلاق دون دعم وتوجيه فعّال من الدولة؛ وما يليه من أوهام من نوع أن هناك مجتمعات تصلح للصناعة ومجتمعات لا تصلح لذلك، فكل الدول الصناعية تقريبًا بدأت نهضتها الصناعية بدعم من الدولة، إن لم يكن بقيادتها أحيانًا، الأمر الذي لا يعني بالضرورة الاعتماد على قطاع عام أو ملكية حكومية للمنشآت، ومن أبرز السياسات التي يمكن للحكومة أن تتبّعها في الأجل المنظور؛ لدعم التعميق الصناعي العاجل:
- الهيكلة القطاعية للأرباح النسبية: من خلال سياسات مالية ونقدية تميّز بين القطاعات بحسب الأولوية الاقتصادية والإنتاجية، كسياسات أسعار الفوائد التفضيلية ومعدلات الضرائب التفضيلية، حيث تعطي الأولى أسعار فائدة مدعومة بشكل خاص للأنشطة الصناعية الإنتاجية، وبشرط وضع آليات الرقابة الملائمة لضمان التوظيف الحقيقي للقروض في أنشطة صناعية، وعدم استخدامها استبداليًا لتحويل الموارد لأنشطة أخرى، فيما تتبنّى الثانية معاملة ضريبية خاصة للأنشطة الصناعية؛ بشكل يرفع ربحيتها ويزيد جاذبيتها بالمقارنة بالأنشطة الأخرى، الخدمية والريعية خصوصًا.
- برامج الأرباح المضمونة: باعتماد مقاولات توريدات عامة تقودها الحكومة بنفسها، في المراحل الأولى على الأقل، لأهم السلع الوسيطة والمواد الإنتاجية لتشجيع المنتجين المحليين على إنتاجها؛ بشكل يوفّر احتياجات الاقتصاد المحلي منها، ويوفّر فرصًا استثمارية شبه مضمونة للمنتجين للإقبال عليها، وبخاصة من الخبرات الصناعية المعتبرة للشركات الصناعية الكبرى في مصر، التي تستطيع إنجاز المطلوب أكثر من غيرها، بل ولا مانع من اجتذاب الخبرات الأجنبية المناسبة ضمن هذه المقاولات لتصنيع أكثرها تعقيدًا وفنية، بشرط نقل الخبرات، وعدم الاكتفاء بمجرد الاستضافة الصناعية أو مشاريع تسليم المفتاح.
- التبادل التكاملي الإقليمي: بتعميم تجربة المقاولات العامة المذكورة، وتوسيع دائرة الاستفادة منها، بإبرام اتفاقات إقليمية مع الدول العربية والأفريقية المشابهة في الإمكانات التنموية والظروف الإنتاجية؛ للتصدير والاستيراد في نطاق هذه الأنواع من السلع الوسيطة خصوصًا؛ بشكل يضمن أسواقًا أوسع للمُنتج منها لدى دول الاتفاقات؛ بما يضمن الاستفادة من إمكانات الإنتاج الكبير وخفض التكاليف لأدنى مستويات ممكنة، فضلاً عن إمكانات المنافسة البنّاءة إن توافرت شروطها وظروفها الملائمة.
وقد تتضمّن هذه السياسات، المؤقتة والمشروطة في أغلبها، بعض الأعباء على الموازنة العامة، إلا أن منافعها ستعوَّض بعوائد حقيقية على مُجمل الاقتصاد من جهة، كما ستُترجم بانخفاض في الضغط على احتياطيات النقد الأجنبي وسعر الصرف وتحسّن في ميزانيّ التجارة والمدفوعات من جهة أخرى؛ فستكون أشبه بشراء عملة أجنبية بعملة محلية، أو بعملية استبدال للدين من الخارج إلى الداخل؛ ما سيخفّف كثيرًا من الضغط الخارجي على الاقتصاد، ويوفّر الموارد الصعبة لاحتياجات أكثر إلحاحًا وفائدة من المنظور التنموي طويل الأجل، كما يمهّد الأرضية لمزيد من التطوّر الصناعي، واضعًا لبنة وقاطعًا خطوة على الطريق إلى الاستحقاق المُؤجل بتصنيع مصر!