رغم أنّ النتيجة النهائية لاستفتاء الدستور التونسي الجديد في 25 يوليو 2022 لم تُعلن بعد، في انتظار نتائج الطعون التي قدمتها أحزاب سياسية وعدد من الأشخاص، يمكن القول أنّ تونس بات لديها دستورها الجديد، فمن غير المنتظر بأي حال أنّ تغير الطعون مهما كانت نتيجتها في النتيجة النهائية للاستفتاء الشعبي الذي أظهر تأييد الأغلبية العظمى من الأصوات، 94.60% لمشروع الدستور الذي طرحه الرئيس قيس سعيد، مُدشناً بذلك جمهورية جديدة في تونس، بحسب تصريحاته.
ولا يبدو لكل الحراك المعارض للرئيس قيس سعيد وزناً كبيراً في المشهد السياسي الجديد الذي سيتشكل تباعاً خلال الشهور المقبلة، إذ أنّ نسبة المشاركة الضعيفة نسبياً في الاستفتاء الشعبي، والبالغة 27.54%، لا تعكس ضعف التأييد للرئيس قيس سعيد، ولا تعكس قوة المعارضة، فهي نسبة مشاركة تتطلب دراسة تتعلق بأسباب عزوف الناخبين عن ممارسة حقوقهم الديمقراطية، مقارنةً بمشاركات أخرى في استحقاقات انتخابية شهدتها البلاد.
ومقارنةً بدستور العام 2014 القديم، الذي تم إقراره دون إجراء استفتاء شعبي، وذلك بعد إقراره من المجلس الوطني التأسيسي الذي تشكل بعد الإطاحة بنظام حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ولهذا فالحديث عن مسألة الشرعية لن يُجدي سوى في توفير بعض العزاء الذاتي للمعارضين لقيس سعيد، وعلى رأسهم حركة النهضة الإخوانية، التي أطاحت قرارات سعيد بهيمنتها لمدة عشرة أعوام على السلطة، فيما بات معروفاً لدى التونسيين باسم “العشرية السوداء”.
العشرية السوداء
وأخذ التونسيون المصطلح من العقد الذي عُرف في الجزائر بالاسم نفسه (1991 – 2002) نتيجة الصراع على السلطة بين الجيش الجزائري والجبهة الإسلامية للإنقاذ التي فازت بالانتخابات التشريعية لعام 1991، وامتد الصراع المسلح لعشرة أعوام، مع الجماعات السلفية الجهادية بشكل عام، وراح ضحيته عشرات الآلاف.
والمشترك بين الواقع التونسي والجزائري هو وجود الإسلام السياسي، الذي أخذ شكله في تونس مع عودة رموز حركة النهضة التي تعتنق فكر الإخوان المسلمين، بزعامة راشد الغنوشي، في العام 2011، والتي شكلت حزباً سياسياً باسم حزب حركة النهضة، وحصلت على دعم أحزاب تدور في الفلك الأيديولوجي نفسه، وتأسست بعد الثورة، ومنها حزب ائتلاف الكرامة، وأحزاب أخرى خارجة عن الإسلام السياسي ولكنها تحالفت مع حركة النهضة انتخابياً ومنها حزب قلب تونس بزعامة نبيل القروي.
ويمكن ترجمة الغضب الشعبي من هيمنة حركة النهضة الإخوانية على البلاد منذ الثورة في 2011 وحتى 25 يوليو 2021، بخروج الجماهير التونسية في مظاهرات غاضبة وحرقها لمقرات حركة النهضة، وما تبع ذلك من صدور تدابير الرئيس الاستثنائية استناداً إلى الفصل (80) من الدستور، وعلى رأس أسباب الغضب؛ الفشل الاقتصادي، وجمود الحياة السياسية، والأزمة بين مجلس نواب الشعب والرئاسة، والدور المهيمن لراشد الغنوشي على الدولة، والفساد، وغير ذلك.
وتضمنت تدابير قيس سعيد الاستثنائية، في 25 يوليو 2021؛ إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتجميد عمل واختصاصات المجلس النيابي لمدّة 30 يوما، ورفع الحصانة البرلمانية عن كلّ أعضاء مجلس نواب الشعب، وتولي رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة ويعيّنه رئيس الجمهورية، وتولي رئيس الجمهورية رئاسة النيابة العمومية.
وتبع ذلك تجديد التدابير الاستثنائية، وصولاً إلى قرار حلّ مجلس نواب الشعب في 30 مارس 2022، ثم إطلاق الحوار الوطني العام، تشكيل لجنة لصياغة دستور جديد، وإجراء الاستفتاء في 25 يوليو 2022 الماضي.
وحازت إجراءات سعيد الاستثنائية على تأييد 87% من الشعب التونسي، وهي نسبة تعبر عن رفض شعبي كبير للإخوان المسلمين في تونس، بعد التأييد الكبير الذين حازوا عليه بعيد الثورة في 2011، عندما تطلعت نسب كبيرة من الشعوب العربية إليهم بصفتهم التغيير المنشود، في الدول العربية منذ عهد الاستقلال.
وعضد ذلك قيام مؤسسة الرئاسة التونسية بإدارة أزمة جائحة كورونا عقب تفشيها في البلاد بنجاح، وعجز الحكومة المشكلة من حزب حركة النهضة وحلفائها عن مواجهة الأزمة، لأسباب عديدة منها تراجع الخدمات العامة والصراع السياسي والخلاف مع رئاسة الجمهورية.
وتبعاً لقرارات قيس سعيد، باتت الرئاسة هي السلطة الأقوى في البلاد، بعد عقد كامل من النظام البرلماني الذي همش من صلاحيات ودور مؤسسة الرئاسة لحساب البرلمان. ويُلزم هذا التأييد الكبير الرئيس قيس سعيد بتحقيق الأهداف التي من أجلها ثار الشعب التونسي على حكم الإخوان، ومن قبل على نظام زين العابدين بن علي، والتي كان سعيد نفسه مدركاً لها، بل وكانت السبب في تحركه يوم 25 يوليو 2021.
مواقف الأحزاب السياسية
بدايةً لم تكن حركة النهضة على وفاق مع الرئيس قيس سعيد منذ انتخابه؛ فلم يقبل سعيد بالدور المحدود له كرئيس وفق دستور 2014، ولكوّنه أستاذ في القانون الدستوري، تمكن من إيجاد الثغرات الدستورية التي مثلت أوراق قوة في يده في مواجهة مجلس النواب، ومن هذه الثغرات؛ إلزامية ختم الرئيس مشاريع القوانين لتصبح نافذةً، ووجوب حلف الحكومة والوزراء اليمين الدستورية أمام الرئيس، ومع تباطؤ حركة النهضة في إنشاء المحكمة الدستورية، وإحالة عملها إلى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، تمكن قيس سعيد من مقارعة الحركة للشراكة في إدارة البلاد.
ومع استفحال الأزمة وانفجار الغضب الشعبي في 24 يوليو 2021، اتخذ الرئيس قيس سعيد التدابير الاستثنائية السابقة بموجب الفصل (80) من الدستور، الذي ينصّ على: “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب”. وضمن الفصل، يحق للرئيس حلّ مجلس نواب الشعب، وتقديم لائحة لوم ضد الحكومة أي حلها عبر مجلس الشعب، وتعتبر الجهة المسؤولة عن البت في استمرار الإجراءات الاستثنائية هي المحكمة الدستورية، والتي لم تكن تشكلت وقت استخدام الرئيس هذه الصلاحيات.
وبالنسبة إلى حركة النهضة، الحزب السياسي الأقوى في البلاد، يعتبر ما قام به الرئيس قيس سعيد من تدابير استثنائية انقلاباً على السلطة، وتبنى نفس الموقف حلفاء الحركة من حزبي؛ قلب تونس وائتلاف الكرامة، ولم تتراجع الحركة وحلفاؤها عن هذا الموقف، وظلوا في خانة المعارضين لكل إجراءات الرئيس، بما فيها الاستفتاء على الدستور. وتشكلت في شهر مايو 2022 جبهة الخلاص الوطني برئاسة أحمد نجيب الشابي، وتضم المناوئين لسعيد، وهم؛ حركة النهضة وحركة أمل وحراك تونس الإرادة وائتلاف الكرامة وقلب تونس وحراك مواطنون ضد الانقلاب والمبادرة الديمقراطية واللقاء الوطني للإنقاذ وحراك توانسة من أجل الديمقراطية واللقاء من أجل تونس واللقاء الشبابي من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتنسيقية نواب المجلس.
وحظي الرئيس قيس سعيد بتأييد شعبي جارف، يعود جزءٌ منه إلى رفض واضح للإخوان المسلمين، وأيدت أحزاب إجراءات قيس سعيد حتى تغيير الدستور، بينما أيدت أحزاب عديدة إجراءات قيس سعيد للإطاحة بحركة النهضة، ورفضت لاحقاً بعض إجراءاته التي تعلقت بصلاحياته وتغيير الدستور، ومنها أحزاب التيار الديمقراطي، وآفاق تونس، والتكتل الديمقراطي، والحزب الجمهوري، وأهمها حزب التيار الديمقراطي الذي حاز على 22 مقعداً في الانتخابات التشريعية لعام 2019، والحزب الدستوري الحر.
والأمر اللافت هو أنّ الشرعية التي استند عليها مجلس الشعب السابق، وعلى رأسه حزب حركة النهضة، وكافة الأحزاب السياسية سواء المؤيدة أو المعارضة للرئيس قيس سعيد، تم اكتسابها بتصويت 2.9 مليون نسمة، وتم احتسابهم كنسبة 41% من مجموع الناخبين، بينما الشرعية التي نالها الدستور الجديد تم التصويت عليها من قبل 2.4 مليون، شكلوا 27% من مجموع الناخبين، وهو أمر يطرح علامة استفهام حول زيادة مجموع الناخبين بعدد 2 مليون ناخب في القوائم خلال ثلاثة أعوام فقط، ويوضح غياب الشفافية خلال العقد الأخير من هيمنة الإخوان على السلطة.
رؤية قيس سعيد السياسية
ويدخل استبدال الدستور ضمن مجموعة القضايا السياسية النخبوية؛ والتي تهتم بها قيادات الأحزاب السياسية والهيئات غير الحكومية النشطة في المجال العام على كافة تنوعاتها، ورغم تعددها وصوتها الإعلامي المسموع، إلا أنّها تبقى نسبة محدودة مقارنةً بالأغلبية التي تقيس النظم السياسية وفق معايير منها؛ أسعار السلع، وتعامل قوى الأمن مع المواطنين، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبعض القضايا الثقافية التي يمكن تهييج الأغلبية بها مثل القضايا الدينية والاجتماعية.
وفي عديد من الخطب الجماهيرية والتصريحات كشف الرئيس قيس سعيد عن توجهات سياسية تحمل نقداً للنظام الديمقراطي النيابي، ومنها حديثه عن خلق ديمقراطية شعبية تشاركية، بهدف مواجهة نفوذ طبقة المصالح السياسية والاقتصادية، وتقديم العدالة الاجتماعية والتنمية في أولويات الواجبات السياسية، ومكافحة الفساد، ورفض النظام الجمهوري شبه الرئاسي وتدخل الدين في السياسة.
وعبر الدستور الجديد وجدت بعض هذه التوجهات سبيلاً إلى التنفيذ، ومنها ما جاء في القسم الثاني من الباب المعنون بـ”الوظيفة التشريعية”، ويتعلق بـ “المجلس الوطني للجهات والأقاليم”، وهو غرفة برلمانية ثانية مُستحدثة، ولا يوجد نظير لها وفق تشكيلها في الدول العربية، وهي مجلس رقابي يتكون من التمثيل القاعدي للبلديات.
لماذا الدستور الجديد؟
1- تغيير نظام الحكم: هو السبب الأساسي وراء الدستور الجديد، حيث كان دستور 2014 يقوم على نظام شبه رئاسي؛ حيث مجلس الشعب أقوى من رئيس الجمهورية في الصلاحيات وإدارة الدولة.
ففي دستور 2014 كان تشكيل الحكومة منوطاً بالحزب المتصدر للنتائج في الانتخابات التشريعية، ولرئيس الحكومة وليس الرئيس الحقّ في تقديم مشاريع القوانين، ومُنع الرئيس من حلّ الحكومة إلا عبر مجلس الشعب، وحال رفض المجلس في جلستين طلب الرئيس (لائحة لوم بحق الحكومة) يستقيل الرئيس وجوباً.
بالإضافة إلى ضرورة موافقة مجلس الشعب على قرار إعلان الحرب قبيل صدوره عن الرئيس، وأحقية مجلس الشعب في عزل الرئيس بموافقة ثلثيه، وغير ذلك من المواد التي جعلت رئيس الحكومة هو رئيس السلطة التنفيذية، وقصرت مهام الرئيس في البروتوكولات ورسم السياسات العامة للدولة بمشاركة الحكومة ومجلس الشعب، حتى أنّ اختيار وزيري الدفاع والخارجية فقط يكون بالتشاور مع الرئيس.
ولهذا جاء الدستور الجديد لعام 2022 ليرسخ النظام الرئاسي، ويمنح الرئيس صلاحيات واسعة، ويجعله رأس السلطة التنفيذية، الذي بيده تشكيل وحلّ الحكومة، دون العودة لمجلس الشعب. ويرتبط بهذا السبب العديد من الاختلافات في نصوص دستور 2022 عن دستور العام 2014، تتعلق جميعها بتعزيز النظام الرئاسي الخالص، الذي يرى فيه قيس سعيد النظام الأصلح لإدارة تونس، أسوةً بجميع الأنظمة السياسية العربية، بينما النظام البرلماني أثبت عدم صلاحيته مثلما هو الحال في لبنان والعراق.
2- حماية الدولة التونسية: حيث سمح دستور 2014 في الفصل (53) بوصول المجنسين – بشرط مرور عشرة أعوام على حصولهم على الجنسية – إلى مناصب عليا في الدولة، ومنحهم حقّ الترشح لانتخابات مجلس الشعب، وهو أمر مهم لدى جماعة الإخوان المسلمين التي لا تؤمن بالدولة الوطنية العصرية، وعبر هذا النصّ يمكنها إيصال كوادر إخوانية ليست تونسية إلى مناصب عليا، فضلاً عن سماح دستور تونس لعام 2014 بترشح مزدوجي الجنسية لمنصب الرئاسة بشرط تقديم تعهد بالتنازل عنها حال الفوز.
بينما اشترط الدستور الجديد أنّ يكون المترشح لعضوية مجلس الشعب مولود لأب تونسي وأم تونسية، والمرشح لرئاسة الجمهورية يكون مولود لجد وجدة وأب وأم تونسيين، دون انقطاع، وغير حامل لجنسية أخرى. فضلاً عن ضمان حقوق التقاضي، عبر النصّ في الفصل (41) من الدستور الجديد على منع القضاة من الإضراب عن العمل أسوةً بالجيش وموظفي الأمن الداخلي بكافة أجهزتهم، وهو الأمر الذي لم يكن موجوداً في دستور 2014.
3- تعزيز النظام الدستوري: وذلك عبر إلغاء الفصل رقم (118) في دستور 2014، والذي جعل تشكيل المحكمة الدستورية قائماً على المحاصصة بين الرئاسة ومجلس الشعب والمجلس الأعلى للقضاء، ما يعني أنّها ستكون منقسمة الولاء، بما يؤثر على استقلاليتها، ومكانتها كحكم حال الاختلاف على دستورية التشريعات، فضلاً عن تحديد عددها بـ 12 عضواً، بينما حددها الدستور الجديد بعدد 9 أعضاء، وهو الأصوب حال اختلاف أعضاء المحكمة بشأن موضوع ما، لتكون هناك فرصة للتصويت بينهم. وفي الدستور الجديد في الفصل (125) نصّ على: “المحكمة الدستورية هيئة قضائية مستقلة تتركب من تسعة أعضاء، ثلثهم الأوّل من أقدم رؤساء الدّوائر بمحكمة التعقيب، والثلث الثاني من أقدم رؤساء الدوائر التّعقيبية بالمحكمة الإدارية، والثلث الثالث والأخير من أقدم أعضاء محكمة المحاسبات. وينتخب أعضاء المحكمة الدستورية من بينهم رئيسا لها طبقا لما يضبطه القانون”.
4- زيادة المشاركة الشعبية في السلطة: وذلك عبر استحداث الغرفة الثانية للبرلمان – لم يسمها الدستور بهذا – وهي المجلس الوطني للجهات والأقاليم وفق الفصل (81) من دستور 2022، والذي يتمتع أعضاؤه بحقوق أعضاء مجلس الشعب، من الحصانة والرقابة واعتماد الموازنة العامة للدولة، دون حقّ التشريع، ويتكون هذا المجلس كالآتي: “ينتخب أعضاء كل مجلس جهوي ثلاثة أعضاء من بينهم لتمثيل جهتم بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم. وينتخب الأعضاء المنتخبون في المجالس الجهوية في كل إقليم نائبا واحدا من بينهم يمثل هذا الإقليم في المجلس الوطني للجهات والأقاليم”.
5- ضبط الأداء البرلماني: أبدى الرئيس قيس سعيد موقفاً رافضاً لجميع الأحزاب السياسية المكونة لمجلس الشعب المنحل، ولم يميز بين المحسوبين على الإسلام السياسي وخصومهم مثل الحزب الدستوري الحرّ، حتى أنّ الأخير اتخذ موقفاً رافضاً لخطوات قيس سعيد لاحقاً، بعدما لم يجد لديه الحظوة استناداً على مبدأ “عدو عدوي صديقي”. وبالنسبة لسعيد فالحياة السياسية بما كان يحدث في مجلس الشعب من اشتباك بالأيدي واعتداءات متبادلة لا تليق بالبلاد، ولا تعبر عن الديمقراطية التي يستحقها الشعب، بل وتهدد بإسقاط الدولة حسب تصريح للرئيس سعيد، ولهذا تم استحداث نصّ في الدستور الجديد، وهو الفصل رقم (66): “لا يتمتّع النّائب بالحصانة البرلمانية بالنّسبة إلى جرائم القذف والثلب وتبادل العنف المرتكبة داخل المجلس، كما لا يتمتع بها أيضا في صورة تعطيله للسّير العادي لأعمال المجلس”.
6- فصل الدين عن السياسية: حيث نصّ دستور 2014 في الفصل (1) على أنّ “تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها ..”، بينما جاء في الدستور الجديد في الفصل (5): “تونس جزء من الأمة الإسلاميّة، وعلى الدّولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض، والمال، والدّين والحريّة”. في الدستور القديم كان للدولة دين، بينما في الدستور الجديد لا دين للدولة، بل هي جزء من الأمة الإسلامية والتي تشمل المعنى الجغرافي بما يحمله من تنوع ديني وثقافي وعرقي اليوم.
الإخوان المسملين والنظام الرئاسي
وإلى جانب ما سبق، كان دستور 2014 مُفصلاً على مقاس حركة النهضة الإخوانية، من حيث كوّنها قوة سياسية من خلفية أيديولوجية إسلامية تصل للمرة الأولى إلى السلطة، وتدرك أنّ وجودها مُهدد ما لم تفرض هيمنتها التامّة على مؤسسات الدولة، وخصوصاً الجيش والأمن والقضاء، وليس عبر التعيينات العليا فقط، بل عبر تسريب الأيديولوجية الإسلامية (الإسلام السياسي) إلى مؤسسات الدولة والمجتمع. ودون تحقيق ذلك يظل الإخوان بكافة فروعهم في إحساس بالخطر، وذلك لأنّ مشروعهم السياسي – الديني لا يمكن له البقاء دون إقصاء الآخر، وصبغ المجتمع بلون واحد يعزز الأفكار السلطوية الدينية من مفاهيم “ولي الأمر، البيعة، الطاعة ..”.
وتجلى هذا التفصيل في تبديل نظام الحكم من الرئاسي حتى عام 2011 إلى البرلماني شبه الرئاسي في دستور 2014، وذلك لأنّ جماعة الإخوان في كافة البلاد العربية تُدرك مميزات هذا النظام لها، ومنها:
1- يملك الإخوان العديد من الكوادر الوسطى المنظمة، والتي يمكن طرحها كأسماء للتنافس انتخابياً على مستوى جغرافي محدود، مثل دوائر مجلس الشعب، بينما يعجز خصومهم عن تغطية معظم هذه الدوائر، فضلاً عن تنافسهم رغم اتفاقهم على رفض الإخوان، ما يجعل الإخوان يفوزون بنسبة كبيرة من مقاعد مجلس الشعب، بينما يحصل خصومهم مجتمعين على أصوات أعلى ولكنها مشتتة على أكثر من مرشح، وحبذا لجماعة الإخوان لو كان الانتخاب بنظام القوائم، مثلما كان الحال في تونس حتى آخر انتخابات تشريعية في 2019؛ لأنّ المميزات السابقة تجعل الإخوان أفضل في تشكيل قوائم مقابل خصومهم.
2- هناك عزوف مرصود في معظم البلاد العربية التي تشهد انتخابات عن التصويت في الانتخابات التشريعية مقابل إقبال أكبر على التصويت في الانتخابات الرئاسية، بغض النظر عن النظام السياسي في البلاد. ويعود ذلك إلى الأهمية التي يحملها المواطن في الدول العربية لمنصب الرئاسة (الزعامة)، مقارنةً بالمجالس التشريعية، ولهذا يستفيد الإخوان من هذه المعادلة في حصد مقاعد أكبر في المجالس التشريعية، حتى مع تدني نسبة المشاركة، حيث لدى الجماعة كتلة ناخبة ثابتة، تضمن لها الفوز في مناطقها الحاضنة.
وهذه الحالة شهدتها تونس، والمغرب، ومصر في انتخابات 2012، وتحدث في لبنان بصورة أخرى، بينما في مصر كاد المرشح الرئاسي أحمد شفيق في انتخابات 2012 أنّ يهزم مرسي في الجولة الثانية من الانتخابات، وحسب بعض التصريحات فإن شفيق هو من فاز، ولكن جرى تعديل النتيجة مراعاةً لضغوط دولية ومحلية.
وبناءً على ذلك، اقترح باحثون تونسيون تعديل قانون الانتخاب من نظام التمثيل النسبي (القوائم) إلى النظام الفردي، حيث يمكن لشخصيات تونسية عديدة المنافسة بقوة بل وهزيمة الإخوان كأفراد على مقاعد فردية، بينما لا تملك هذه الشخصيات القدرة على تشكيل قوائم والمنافسة على مساحات جغرافية أوسع نسبياً وفقاً لما تقتضيه القوائم.
3- خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تونس عام 2019، دعمت حركة النهضة المرشح المنافس، رئيس حزب قلب تونس، نبيل القروي، ولم يكن لديها شخصية لطرحها للمنافسة. وفي الانتخابات الرئاسية من السهل مهاجمة الإخوان بقوة، حيث المواجهة تكون بين أفراد محدودين وليس عشرات المرشحين مثل الانتخابات التشريعية، ورغم الدعم الإخواني للقروي فاز الرئيس سعيد بأغلبية الأصوات، بنسبة 72.7%.
4- باتخاذ الانتخابات التشريعية والرئاسية في عام 2019 مثالاً على الطرح السابق، نجد الآتي:
عدد الأصوات التي شاركت في الانتخابات الرئاسية لعام 2019 بلغت 3.5 مليون صوت تقريباً، نال الرئيس قيس سعيد منها في الدورة الثانية 2.77 مليون صوت.
وفي الانتخابات التشريعية التي جرت بعدها بوقت قصير، بلغ عدد الأصوات التي شاركت 2.94 مليون صوت، وحصلت حركة النهضة على الصدارة بواقع 561 ألف صوت. ويكشف ما سبق أنّ هناك اهتمام شعبي بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية بعكس التشريعية، وأنّ الإخوان المسلمين غير قادرين على التنافس على الانتخابات الرئاسية، ولهذا كان كتابة دستور جديد يعيد البلاد إلى النظام الرئاسي بمثابة ترجمة للموقف الشعبي تجاه السلطة، والقضاء على خطط الإخوان المسلمين للهيمنة على الدولة عبر دستور مُفصل لخدمتها.
ما هي الخطوات المقبلة؟
هناك عدد من الخطوات المقبلة التي سيعلن عنها الرئيس قيس سعيد تباعاً، ومعظمها يتعلق بإكمال المسار الدستوري للدولة؛ كوّن الدستور الجديد يفرض صدور قوانين جديدة تتعلق بعدد من الاستحقاقات الانتخابية، التي سيصدرها الرئيس قبل العمل بالدستور الجديد، وذلك استناداً إلى الفصل رقم (141) في باب الأحكام الانتقالية في الدستور الجديد، وينصّ على “يستمّر العمل في المجال التشريعي بأحكام الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بتدابير استثنائية إلى حين توليّ مجلس نوّاب الشعب وظائفه بعد تنظيم انتخابات أعضائه”.
ومن هذه القوانين التي ستصدر بمراسيم رئاسية التالي:
1- قانون انتخابات مجلس نواب الشعب، والذي سيكون وفق النظام الفردي، بدل نظام التمثيل النسبي (القوائم) في دستور 2014.
2- قانون انتخاب أعضاء الغرفة الثانية من البرلمان؛ المجلس الوطني للجهات والأقاليم.
3- مرسوم بتشكيل المحكمة الدستورية واختيار أعضائها وفق ما قرره الدستور الجديد، ومن المتوقع أنّ تسبق هذه الخطوة الدعوة إلى انتخابات مجلس الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم.
4- استمرار صدور الأوامر الرئاسية التي تتعلق بـ؛ الإعفاء والتعيين لكبار الموظفين في مؤسسات الدولة، والتي بلغ عددها منذ تاريخ 25 يوليو 2021 حتى اليوم العشرات.
5- إصدار مراسيم تتعلق بالدعوة إلى الانتخابات؛ التشريعية والبلدية والجهوية والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، وهذه الأخيرة لم تشهدها تونس من قبل، رغم النصّ عليها في الدستور، وتحديد موعد سابق لها بتاريخ العام 2018.
6- هناك قضية يتلبسها الغموض، وهي المدة الرئاسية الحالية للرئيس قيس سعيد (2019 – 2024) وهنا احتمالين؛ إكمال قيس سعيد المدة الرئاسية وتُحتسب مدة رئاسية أولى ويبقى له مدة ثانية واحدة، وفق نصّ الدستور الجديد ودستور 2014 كذلك، أو إصدار مرسوم بالدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة يتضمن عدم احتساب المدة التي قضى سعيد جزءاً منها في الحكم كمدته الأولى، وحال فوزه في الانتخابات يبدأ مدته الأولى، ويحق له الترشح لمدة ثانية فقط.
وفيما يتعلق بالحياة السياسية، سيستمر الرئيس قيس سعيد على نهجه القائم على محاسبة حركة النهضة عبر القضاء، وذلك بتوظيف المعلومات لدى مؤسسات الدولة الأمنية خلال العشر سنوات الماضية لمحاسبة من تورط في الفساد واستغلال السلطة، وكذلك استكمال فتح ملفات التمويل الأجنبي، وغيرها من الإجراءات القانونية التي تهدف إلى ضبط الحياة السياسية، دون الإقدام على حلّ أحزاب سياسية، تجنباً لتصعيد جديد من الدول الغربية، التي أدانت صراحةً خطواته منذ إجراءات 25 يوليو 2021، حتى بعد ظهور نتيجة الاستفتاء على الدستور الجديد.
ويبدو أنّ الرئيس التونسي في طريقه لكسب معركته السياسية مع الأحزاب وعلى رأسها حركة النهضة الإخوانية، وهي خطوة ضرورية لبدء صراع أعقد وأشد خطراً سيتولى الاتحاد العام التونسي للشغل موقع الصدارة فيه في مواجهة الرئيس، وهو الإصلاحات الاقتصادية المرتقبة، والتي ستعلن عنها تونس عقب إتمام مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي، حيث ستدخل البلاد في عملية إصلاح اقتصادي، ستكون تكلفتها الاجتماعية كبيرة، في ظل هيمنة إرث اشتراكي على دواليب الدولة ومخيلة قطاع واسع من الشعب.
والخطر من هذه الخطوات هو تراجع شعبية قيس سعيد حال إقدامه على اتخاذ خطوات الإصلاح الاقتصادي، ولهذا سترتبط الدعوة للانتخابات وربما الرئاسية المبكرة منها – حال اتجه الرئيس لها – بموعد إطلاق الإصلاحات الاقتصادية.
وتبعاً لحتمية الإصلاح الاقتصادي، ستوجه معادلة الرضا الشعبي عن الاقتصاد دفة السياسة التونسية خلال الأعوام المقبلة، ولا يعني ذلك أنّ الدفة ستتجه نحو خيارات أفضل، بل ستدور في دائرة مغلقة؛ حيث خصوم الرئيس يقفون بالمرصاد لكل قرار يمكن استغلاله لتأجيج الغضب الشعبي، والعودة عبر هذا الغضب من باب “كانت أيامهم أقل سوءاً اقتصادياً”.
توصيات
1- الإسراع في إنجاز الاستحقاقات الانتخابية، وتجنب الصدام مع الأحزاب السياسية، وتحويل دفة الصراع من الرئيس في مواجهة الأحزاب إلى الأخيرة في مواجهة الصندوق الانتخابي.
2- ضرورة تغيير أسلوب الخطاب لدى الرئيس قيس سعيد، ليواكب الخطاب المطلوب خلال الفترة المقبلة، وهو الخطاب الذي يركز على الاقتصاد والتنمية، ويتطلب هذا تنحية الرئيس البلاغة من حديثه لتحل محلها الأرقام والاستخدام الموضوعي للغة قدر الإمكان.
3- تعزيز فريق العمل الاقتصادي في مؤسسة الرئاسة والحكومة لوضع خطة إصلاح اقتصادي بمعاونة صندوق النقد الدولي، تراعي توفير الحماية الاجتماعية للمستحقين، لتظل كشريحة عريضة مؤيدة للرئيس، وهي براجماتية مطلوبة في ظل وجود معيار الشعبية كمحدد للوصول إلى السلطة في تونس.
4- العمل على ترميم العلاقات التونسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث الأخير هو الشريك التجاري الأول لتونس، وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع الدول التي تجمعها بتونس علاقات سياسية وثيقة مثل الجزائر ومصر والسعودية والإمارات، وغيرهم.
5- إشراك الاتحاد العام التونسي للشغل في وضع خطة الإصلاح الاقتصادي، وتجنب تحوّل الاتحاد إلى خصم لدود لهذه الإصلاحات، وضرورة اتباع سياسة طويلة النفس في التعامل معه، كوّنه تجمع نقابي يهدف إلى تحقيق مصالح أعضائه الاقتصادية الوقتية، حتى لو على حساب الاقتصاد العام للدولة.
مصادر
1- نسخة رسمية من دستور تونس لعام 2014
https://www.constituteproject.org/constitution/Tunisia_2014.pdf?lang=ar
2- نسخة رسمية لمشروع دستور تونس الجديد لعام 2022
https://legislation-securite.tn/ar/law/105310
3- الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية التونسية
4- موقع الجريدة الرسمية التونسية “الرائد”
https://www.carthage.tn/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%85%D9%8A
5- قسم تونس في موقع “صندوق النقد الدولي”
https://www.albankaldawli.org/ar/country/tunisia/publication/unfinished-revolution
6- موقع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس
7- موقع مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن
https://legislation-securite.tn/ar/law/105312
8- عدد من صفحات الأحزاب السياسية التونسية عبر موقع “فيسبوك” والعديد من المواقع الإخبارية التونسية والعربية والدولية التي تغطي الأحداث التونسية.