منذ منتصف القرن العشرين شهدت الدراسات التـي تتناول ميكافيللي وأعماله نهضة عظيمة، ولم تنقطع منذ ذلك الحين الأعمال والدراسات التـي تحاول أن تلقي الضوء على التفسيرات المتعددة لكتاب “الأمير”، ودور ميكافيللي في التأسيس لعلم السياسة الحديث، فضلاً عن العلاقة الإشكالية بين السياسة والدين والأخلاق، ودور ميكافيللي في سياسات فلورانسا وعلاقاتها بمختلف القوى الإيطالية والكنيسة. ويبدو أن شخصية ميكافيللي الحقيقية قد توارت خلف هذه التفسيرات المختلفة، وخلف السمعة السيئة التـي أصبح يشار إليها بالميكافيللية.
هنا تبدو أهمية كتاب “ألكسندر لي” عن ميكافيللي: حياته وعصره والذي يحاول أن يؤرخ لحياة ميكافيللي من منظور شخصـي. و”لي” هو مؤرخ بريطاني متخصص في حضارة عصر النهضة الإيطالية، وهي الحقبة التي ما زالت تجذب العديد من المؤرخين الغربيين باعتبارها الميلاد الحقيقي للحضارة الغربية بعد قرون من انهيار العصر الكلاسيكي، والحضارة الرومانية. ومن هنا أيضًا تأتي مركزية “ميكافيللي” باعتباره من أوائل المؤرخين الذين أعادوا الاعتبار لقراءة العصر الكلاسيكي في ضوء تطورات عصر النهضة المتأخر. وبالتالي، لم يكن إسهامه مقصورًا على إعادة ابتكار “السياسة” فحسب.
يقول لي إن تاريخه الشخصي لميكافيللي لا يسعى فقط إلى تقديم صورة ثلاثية الأبعاد، بل يسعى كذلك إلى إيضاح جذر أفكاره وكيف تطورت في مراحل عمرية مختلفة، وأن يتبين أسباب تصرفاته، الشخصية والعملية باعتباره كان أحد رجال حكومة الميدتشي في فلورانسا وأحد ضحاياه في الوقت نفسه. لقد كانت هذه الأسباب في جزء كبير منها خارج قدرة ميكافيللي نفسه على إدارة الأمور، وغالبًا ما كانت خارج نطاق وعيه الشخصـي والسياسـي.
وعلى الرغم من ارتباط اسم ميكافيللي بدرجة كبيرة ب”الأمير” وبدرجة أقل ب”المطارحات”، فقد كان من نتيجة هذا إغفال أعماله الأخرى، التـي عبرت عن تطوره فكريًّا في اتجاهات غير سياسية بالضرورة. ويسعى لي من خلال كتابه أن يتعامل مع هذه الأعمال مثل “تاريخ فلورانسا” و”فن الحرب” و”مندرغولا” على قدم المساواة مع العملين الآخرين الكبيرين. ويرى أن مثل هذا الاهتمام من الممكن أن يعيد النظر في كامل إرث ميكافيللي، سواء من خلال تعقب حياته الشخصية من خلال هذه النصوص أو تعقب تطوره الفكري في غير الاتجاه الذي ارتكز على شيطنته أو جعله صنوًا للسياسة الواقعية والقمعية.
ويتجاوز لي هذا المسعى أيضًا لتحقيق هدف أهم وهو إعادة تخيل حياة ميكافيللي، كما عاشها هو في سياق ظروف خاصة، لا كما رسمت في قرون تالية وبعد تطورات عميقة في أنماط الحياة وطرق التفكير. والغاية من هذا المسعى هو بناء سردية “واقعية” حول حياة ميكافيللي وغيره من الشخصيات التي تقاطعت معه على المستويين الشخصـي والعملي. لذلك، يقسم لي كتابه بطريقة السنوات التي تتراوح بين ميلاد ميكافيللي في 1469 ووفاته في 1527.
لم تكن بدايات حياة ميكافيللي مبشرة بأي نبوغ تاريخي أو دبلوماسـي. فقد ولد لعائلة مثقلة بالديون وأب لم يفلح في تحقيق شعفه بالتاريخ الروماني. وقد ورث نيقولو عن أبيه برناردو هذا الشغف والأزمات المالية المتكررة. لقد دفعت تربية ميكافيللي شغفه بعيدًا عن الاعتقاد بالصوفية الأفلاطونية والأخلاق الأرسطية التي أسست فيما بعد للمنظور المسيحي عن العالم. ووجد نفسه أكثر اهتمامًا بالتصور الروماني الذي تشكل عبر أعمال بوبليوس ولوكراتيشوس وليفي وهوارتشيو. هذا التصور عن العالم يتأسس على أساس القوة المادية والأخلاق المستندة إلى الشجاعة والجسارة.
يبدو أن لي قد تأثر إلى حد بعيد بقراءة أشعيا برلين عن ميكافيللي والتي قال فيها إن سياسة ميكافيللي لم تكن محاولة لإحداث مفارقة مع الأخلاق المسيحية بل محاولة لاستبدال هذه الأخلاق بنمط أخلاقي آخر أكثر ملائمة لاحتياجات “فلورانسا” وإيطاليا في زمانه. كانت هذه الأخلاقيات أوضح ما تكون في شروحات ميكافيللي على الكتب العشر الأولى لليفي حول تاريخ الجمهورية الرومانية، وهو ما يعرف بالمطارحات. يخبرنا لي أن هذه المطارحات كانت في أحد جوانبها استكمالاً لأحد الأعمال غير المنهية التي سطرها برناردو والد ميكافيللي، وكانت من ناحية أخرى تعبيرًا عن ميل نيقولو إلى “الجمهورية” كنظام أفضل للحكم بدلاً من “الإمبراطورية” أو “الملكية” السائدة في عصره.
إلا أن “الأمير” لم يكن بالسطحية أو الفجاجة التـي ينظر بهما إليه اليوم. ففي أعماقه كان هناك تأثر برؤية العالم كما صورها لوكراتيوش الشاعر الروماني الأهم والأقدم. فالحياة في عمومها هي مزيج بين الفضيلة، Virtú والحظ Fortuna. وبين الأقدار التي لا يستطيع أن يتحكم بها الأمراء أو رجال الدولة، وقدراتهم السياسية والإدارية، تأتي دورات الصعود والسقوط. كما يذكر ميكافيللي في خطاب لصديقه غوتشاردياني، فالتاريخ ليس إلا دورات تتغير فيها الأسماء والأماكن، دون أن تتغير قواعده. لذا لم يكن دوره في كافة أعماله سوى محاولة لاستكشاف تلك القواعد، وبسطها، للأمراء، صناع القرار في أيامنا، أو للنخب القادرة فعلاً على التأثير في حركة التاريخ.
أدرك ميكافيللي أن حركة البشر، التي تشبه عجلة القدر، ليست إلا سعيًّا وراء التوازن. إلا أنه، على النقيض من الأخلاق المسيحية، وجد أن هذا التوازن مستحيل، كما هو الكمال في السياسة والأخلاق. لذا لم ينشد بناء تصور متكامل عن الدولة، ومن هنا كانت ثورته السياسية حيث نقل الجدل حول السياسة من التصور المثالي، الذي ظل سائدًا حتى بعد عصره بقرون، إلى قوانين التاريخ الواقعية. وكان أحد توابع هذه الثورة هو تركيز النظر السياسـي على الخصوصيات الزمانية والمكانية لكل مجتمع، حيث لم يعد في الإمكان بناء تصور عالمي قائم على فكرة واحدة شاملة، كما جاء في المسيحية التـي سعت إلى بناء مدنية للرب لتشمل كل الأرض، أو في الأيديولوجيات العلمانية التالية. وربما وعى ميكافيللي بهذا أنه أيضًا للشمولية القائمة على المثالية خسائر، قد تكون أفظع من تلك التـي يرتكبها من يسعون إلى نصيب أكبر من القوة. وربما يفسر هذا تفضيله إلى العهد الجمهوري الروماني، باعتباره أقل دموية من تحول روما إلى إمبراطورية عالمية.