لم تنقطع صلة مصر بالقرن الأفريقي عبر العصور منذ قرون بعيدة ربما تسبق ما دونه المصريون القدماء منذ الأسرة الفرعونية الخامسة على “حجر بالرمو” وعلى جدران الطريق الصاعد لهرم الملك ساحورع في أبو صير (انتهى حكمه في العام 2475 ق.م.)، مرورًا بالحضور المصري التجاري والعسكري المستمر في البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي الذي شهد معركة ديو البحرية بين المماليك والبرتغاليين قرب السواحل الهندية (1509) وأسفرت عن هزيمة الأوائل والقضاء على أسطولهم البحري قبيل سقوط الدولة المملوكية والغزو العثماني لمصر.
وفيما بسط العثمانيون سيطرة عسكرية واقتصادية على أجزاء مهمة من القرن الأفريقي شكلت ولاية الحبش (إريتريا الحالية، وإن ضمت في مرحلة ما مناطق من الصومال الغربي ومنطقة هرر جنوبي الهضبة الحبشية) بؤرة هذا الوجود ووسيلة لوجود مصري تحت غطاء “الدولة العثمانية” في المنطقة منذ بدء الاحتلال العثماني للولاية في العام 1557 حتى حلها في العام 1903.
وتقاطع هذا الحضور المصري بطبيعة الحال مع التطور السياسي لدولة الحبشة وتوسعاتها منذ القرن التاسع عشر مرورًا بنهايتها وضمها إقليم الأوجادين بمساعدة عسكرية فرنسية وبريطانية بناء على طلب الإمبراطور الحبشي منليك منهما مساعدته “في تخليص المسيحيين من ظلم المسلمين”، ووصولًا إلى الصلة المتميزة التي ربطت مصر بعد ثورة يوليو 1952 بالصومال (تحديدًا) واستقلاله، وما تلا ذلك من رسوخ للدور المصري المهم، ومتعدد الجوانب في حقيقة الأمر، في المنطقة عبر بوابة الصومال الشقيق.
وعلى خلفية تراكم تاريخي هائل للدور المصري في القرن الأفريقي، وارتهانًا بتوفر إرادة سياسية للقاهرة تتجاوز متلازمة الخيارات التكتيكية، أو ردود الفعل، إلى استشراف رؤى أشمل للمصالح المتبادلة مع دول القرن الأفريقي، فإن السبل تبقى مفتوحة أمام عودة هذا الدور بقوة، وإن كان بوتيرة زمنية أثقل وطأة في ظل التهديدات المتلاحقة –إقليميًا وخارجيًا- التي تقود لتحجيم أية مساعي مصرية لاختراق هذه الأزمة. ويمكن بسط أهم الملامح الاسترشادية لعودة هذا الدور على النحو التالي:
أولاً: تنشيط الدبلوماسية الحكومية
تشهد منطقة القرن الأفريقي سلسلة مستمرة من النزاعات الحدودية وأزمات بناء الدولة وتهديدات بانفصال أقاليم (حتى داخل إثيوبيا)؛ ومن ثم فإنه ثمة حساسية بالغة من قبل دول المنطقة في أية مقاربات تمس هذه المسألة، حتى لو بصورة غير مباشرة.
ويفترض أن تبادر القاهرة بترسيخ تقليد دبلوماسية حكومية تنخرط فيها الحكومة المصرية بأعمال مباشرة مع حكومات دول المنطقة على المستويين الثنائي ومتعدد الأطراف، أو تفعيل حقيقي على الأرض لما تم التوصل له من أطر تعاون، مثل إنفاذ الاتفاقات الموقعة مع جيبوتي منذ نهاية العام 2016 بتعزيز التعاون اللوجيستي والتجاري لاسيما بين هيئة قناة السويس وهيئة موانئ جيبوتي وإعادة تصدير المنتجات المصرية إلى دول المنطقة انطلاقًا من ميناء جيبوتي.
مع ملاحظة أن آخر قمة ثنائية بين الرئيسين المصري والصومالي كانت في القاهرة في أغسطس 2017، وأن رئيس الوزراء حسن علي خيري -الذي حجبت عنه الثقة نهاية يوليو الفائت- لم يزر القاهرة طوال مدة خدمته منذ العام 2017.
وأخذًا في الاعتبار طبيعة العمل المؤسساتي الحكومي في دول القرن الأفريقي، الذي يمكن وصفه بالهشاشة، تزداد الصعوبة أمام القاهرة في إرساء تعاون حكومي مثمر، ويمكن التغلب على ذلك بالمبادرة بحزمة برامج تعاون وتدريب لكوادر حكومية من دول المنطقة بالقاهرة أو في عاصمة إحدى دول المنطقة، تستشرف –بواقعية ومرونة تامة- الفهم المتبادل لاحتياجات الأطراف المختلفة وسبل تلبيتها.
ثانياً: تعزيز الأدوار الأمنية والعسكرية المؤسساتية
خطت مصر خطوات مهمة في صيانة الأمن القومي المصري في البحر الأحمر وخليج عدن، لاسيما ما اعتبره مراقبون نجاحًا في استبعاد إثيوبيا من أية ترتيبات أمنية تضم الدول الفاعلة في المنطقة (مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن بالتحديد)، مما عزز تصورات إعادة تغيير الديناميات السياسية في منطقة القرن الأفريقي بأكملها.
وقد تواترت في الأسبوع الأخير من يوليو 2020 تقارير عن عزم مصر إقامة قاعدة عسكرية في إقليم “أرض الصومال”، فيما لفتت وزارة الشئون الخارجية الإثيوبية (28 يوليو) أن “مصر، كدولة ذات سيادة، لديها حق قانوني بتكوين علاقات مع أية دولة في الإقليم، وإن كانت مصر تنوي أن يكون لها وجود في الإقليم بحيث يمثل تهديدًا لدولة ثالثة، فإن ذلك لن يكون أمرًا مناسبًا.”
وكان وزير المالية الإثيوبي أحمد شايد A. Shide قد زار أرض الصومال منتصف يوليو حاملًا رسالة من آبي أحمد لرئيس إقليم أرض الصومال، وأكد الناطق باسم حكومة أديس أبابا دينا مفتي –على غير حقيقة الأمر كما اتضح لاحقًا- أن الزيارة ليست متعلقة بمخاوف إثيوبية بشأن قاعدة عسكرية مصرية في أرض الصومال. ووصف الزيارة بأنها “مجدولة روتينيًا لمناقشة العلاقات الثنائية “بين البلدين” ولم تكن متعلقة بأي حال بزيارة سابقة لوفد مصري لأرض الصومال.
ويتقاطع هذا التطور مع مصالح إريتريا، أهم حلفاء مصر في المنطقة، حيث تستضيف إريتريا قاعدتين عسكريتين لروسيا والإمارات (بينما تستضيف “أرض الصومال” القاعدة الإماراتية الثانية في المنطقة)، وتضم كل من جيبوتي والصومال سبعة قواعد عسكرية أخرى منها ستة في جيبوتي، وقاعدة التدريب العسكري التركية في مقديشو، وفي ضوء الارتباط العسكري الإريتري- الإماراتي بشكل مباشر، ومع مصر بشكل غير مباشر، فإن الخطوة المصرية –حال نجاحها وبالتنسيق مع مقديشو- قد يكون لها ما بعدها في تعزيز الدور الأمني والعسكري المصري في المنطقة، ويمكن البناء عليها عبر حلحلة مواقف مقديشو للقبول بدور مصري في تدريب ودعم قوات الأمن الصومالية سواء في مجال مكافحة الإرهاب أم في حراسة السواحل، ويمكن أن يتم ذلك بشكل ثنائي أو عبر مجلس تحالف البحر الأحمر، وبتنسيق عربي.
ثالثاً: توظيف القوى الناعمة
تظل مسألة القوى الناعمة المصرية من أهم أصول السياسة الخارجية المهملة أو التي لا يتم توظيفها بشكل ملائم. وهناك مقدرات ملموسة لفعالية قوى مصر الناعمة في المنطقة مثل أدوار متجددة للأزهر الشريف لاسيما في الصومال وجيبوتي، والكنيسة القبطية في إريتريا وإثيوبيا، عبر الحضور المباشر على الأرض والتفاعل المتبادل وتقديم مقاربات عملية لمواجهة أزمات المنطقة ذات الصلة مثل الإرهاب، ومعضلة العلاقة مع الدولة.
كما تحتاج مصر لتوظيف إمكاناتها الثقافية لخدمة جهود إعادة الدور المصري في القرن الأفريقي، وربما في تكرار للتجربة المهمة التي تمت في جنوب السودان، مثل توفير كتب دراسية مخصصة لكل دولة حسب مواصفاتها، ومساعدات لوجيستية في مجال التعليم والثقافة، وتعزيز التعاون الشبابي، وتقديم برامج مخصصة لشباب دول القرن الأفريقي.
ويرتبط توظيف القوى الناعمة المصرية في واقع الأمر بدعم إضافي للوكالة المصرية للتنمية، وكذلك بالقدرة على إبداء مرونة كبيرة في التنسيق واتخاذ القرار والوصول إلى الأدوات الحكومية الملائمة، وتمكين المعنيين، ربما من خارج دائرة صنع القرار، من طرح أفكارهم وتصوراتهم في ضوء خصوصية العلاقات بين مصر ودول القرن الأفريقي.
رابعاً: استكشاف فرص الاستثمار المباشر
تواجه دول القرن الأفريقي أزمة اقتصادية خانقة بالفعل، وهي أزمة عالمية عامة، لكنها مرشحة للتفاقم بحدة في واحدة أشد مناطق العالم تخلفًا. ويبدو أن استراتيجية “النمو بقيادة البنية الأساسية” (أي النمو وليس التنمية الاقتصادية والاجتماعية) قد وصلت لمداها الأقصى في إثيوبيا (وفي الحالات المماثلة في أفريقيا ككل)، حيث كانت الصين الفاعل الأساسي في هذه الاستراتيجية.
كما قاد التوجه الدولي نحو تمويل مشروعات البنية الأساسية في المنطقة، دون الاختبار الجدي لربحية هذه المشروعات، إلى تصنيف كبرى دول المنطقة (إثيوبيا) حاليًا كدولة بالغة الخطورة من جهة التعثر المالي.
كما تواجه دول المنطقة صدمة اقتصادية ثلاثية بسبب جائحة فيروس كورونا، وعدم الاستقرار المتجدد، وأسراب الجراد الصحراوي الكارثية في منطقة القرن الأفريقي. وفي ضوء هذا الانكشاف الاقتصادي تتوفر فرص الاستثمار المباشر في مشروعات إنتاجية سواء بشكل مباشر أم بشكل شراكات مصرية- عربية. حيث تستطيع أبو ظبي والرياض، بفضل روابطهما الوثيقة مع مصر ودول القرن الأفريقي، أداء دور قيادي في تيسير التعاون الاقتصادي.
ومن جهة أخرى، تملك مصر ميزات نسبية في مجال صناعة الأغذية –على سبيل المثال- بما يمكنها من نقل التجربة في أكثر من دولة دون أعباء اقتصادية كبيرة. كما يوفر القرب الجغرافي للمنطقة من مصر ووقوعها على طرق الملاحة الرئيسة فرصة للاستفادة المبكرة من التطبيق الكامل المتوقع لمنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، بعد إطلاق التشغيل المبدئي لها منتصف العام 2019.
وكذلك ضرورة توظيف العقود التي توصلت لها القاهرة مع مؤسسات تمويل دولية لتيسير التجارة مع أفريقيا لخدمة توجه مصر نحو القرن الأفريقي، مثل القرض الذي بلغت قيمته 500 مليون دولار من International Islamic Trade Finance Corporation لبنك الصادرات- الواردات الأفريقي African Export-Import Bank (Afreximbank) لهذا الغرض (مقسم على خمسة شرائح كل شريحة 100 مليون دولار يفترض بدء منحها خلال العام الحالي).
كما يتوقع أن تستعد مصر للمساهمة في مشروعات تشييد الطرق في أفريقيا عقب تراجع حدة جائحة كورونا الحالية، حيث بلغت تقديرات المؤسسات الدولية لقيمة هذه المشروعات مجتمعة 200-300 بليون دولار، وتحتاج منطقة القرن الأفريقي حصة معتبرة منها لمعالجة هشاشة البنية الأساسية بها. ويمكن لمصر مبدئيًا الدخول لهذا القطاع عبر بوابتي السودان وإريتريا، مع توقع تعنت إثيوبي- صيني أمام مثل هذه المشاركة.
خامساً: تقديم الدعم الفني
يشمل الدعم الفني المقصود هنا نقل الخبرات المصرية الفنية في القطاعات المختلفة إلى كوادر من دول المنطقة عبر برامج تدريب بهذه الدول أو داخل مصر. وسيسد هذا الدعم المتوقع جزء مهم من احتياجات دول المنطقة للخبرة الوطنية اللازمة للعمل في قطاعات مثل الاتصالات والنقل البحري والجوي والبري والإعلام وغيرها.
ويتوقع أن يركز الصندوق المصري للتعاون الفني مع أفريقيا جهوده في منطقة القرن الأفريقي في الفترة المقبلة، وأن تسهم مجالات اهتمامه (برامج المساعدات الفنية وإرسال الخبراء والفرق الطبية وتقديم المساعدات الإنسانية) في تعزيز الدور المصري في منطقة القرن الأفريقي.
سادساً: التعاون في الأطر الإقليمية والدولية
يعد التعاون في الأطر الإقليمية والدولية (سواء في إطار تحالفات سياسية أو اقتصادية أم منظمات مختلفة) مجالًا مثاليًا لعودة قوية للدور المصري في المنطقة. وتحتاج مصر لإعادة ضبط علاقاتها مع دول المنطقة في هذا المجال. فقد حدثت تقلبات مهمة بعد أن وقفت جيبوتي في صف مصر ضد قرار الاتحاد الأفريقي تعليق عضويتها على خلفية ثورة يونيو 2013، وواجهت مؤخرًا صفعة دبلوماسية من جيبوتي والصومال بتحفظهما على قرار جامعة الدول العربية بشأن دعم موقف مصر في أزمة سد النهضة، بينما تواجه ما تعتبره إثيوبيا انتصارًا دبلوماسيًا في “معركة سد النهضة” في ظل ما تراه القاهرة تخاذلًا من قبل الاتحاد الأفريقي.
كما تحتاج مصر، وهي في قائمة دول شركاء الصومال الدوليون، إلى تعزيز مكانتها في هذا التجمع الدولي المهم للعب دور أكبر في إعادة بناء الدولة الصومالية وتفادي التداعيات الجانبية للنفوذ التركي- القطري على أي دور مرتقب لمصر في الصومال.
خُلاصة
تحتاج القاهرة بشكل واضح إلى إعادة النظر في أدواتها وسياساتها في منطقة القرن الأفريقي والنظر بجدية أكبر لطبيعة التهديدات التي تحيط بمصر جراء تركها فراغات لا يستهان بها بادرت قوى إقليمية مناوئة بسدها، ثم البناء على القصور المصري؛ ما ترتب عنه في النهاية اضطراب واضح في أداء القاهرة في هذه المنطقة الهامة التي تقع فعليًا في الدائرة الضيقة للأمن القومي المصري.
وتستلزم مساعي إعادة الزخم والفاعلية للدور المصري النظر بواقعية لمتغيرات الإقليم، وطبيعة مصالح دوله وأولوياتها ومخاوفها، وتفهم رسوخ المصالح الدولية به وطبيعة تحالفاتها مع أهم دوله “إثيوبيا”، والعودة إلى تبني مقاربات شاملة/ كلية تعيد للدور المصري اعتباره المألوف، وهو الأمر الذي من الضروري البدء فيه في أسرع وقت، مع تخفيف مسار الحركة من ثقل رؤى تقليدية أو مغلقة إلى حد ما، والانفتاح على تصورات جديدة ومرنة.