تشترك المملكة العربية السعودية وجمهورية إثيوبيا الفيدرالية في مجموعة بالغة التنوع من الاهتمامات والمخاوف والمصالح الاستراتيجية –المتقلبة في واقع الأمر- بحكم التقارب الجغرافي عبر البحر الأحمر والروابط التاريخية. وفي ظل المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة والتي تؤثر على بناء الأمن في البحر الأحمر والقرن الأفريقي وتختبر بشكل واضح قدرة السعودية على مواصلة توازناتها في المنطقة (وفي قلبها التحالف مع مصر) فإن الصلات السعودية الإثيوبية تظل تراوح –حتى الآن- في سياقاتها التقليدية التي يمكن اختزالها بتخوفات متبادلة وعلاقات اقتصادية في الحدود الدنيا (مع ملاحظة التباين النسبي لأهمية البلدين اقتصاديًا لكل منهما) ووجود مشروطيات دائمة لكل من الرياض وأديس أبابا في حركة أيًا منهما إقليميًا (كما يتضح في موقف السعودية الرافض لانخراط إثيوبيا في بنية الأمن الإقليمي في البحر الأحمر، وتبني إثيوبيا موقف متحفظ إزاء التدخل العسكري السعودي في اليمن في بعض مراحل الصراع).
وتأتي المفارقة في صلات البلدين أن السعودية تدشن –فيما يبدو- عهدًا جديدًا من سياساتها الأفريقية بالتزامن مع انخراط أكبر لولي العهد السعودي محمد بن سلمان في إدارة البلاد، بينما يتكبد نظام آبي أحمد خسائر متتالية في مشروعه الوطني ويعتمد في بقائه على الدعم الإقليمي والخارجي له لتظل شرعيته قائمة عمليًا على التخوفات الدولية من أية فوضى شاملة في واحدة من أكبر الدول الأفريقية سكانًا ومكانة سياسية، ويقود هذا الوضع إلى افتراض أن مآلات هذه الصلات لن تشهد اختراقات حقيقية في السنوات القليلة المقبلة.
القواسم التاريخية المشتركة
تتجاوز الصلات “السعودية- الإثيوبية” (التي قامت رسميًا في العام 1948) الراهن السياسي والجغرافي الحالي ومتغيراته المتسارعة إلى قرون بعيدة وفق العامل المحدد الأبرز وهو الحركة التجارية النشطة في البحر الاحمر الفاصل بين نطاقات هيمنة البلدين في العصر الحديث، والرابط في بعض فترات التاريخ بين هوية البلدين السياسية (على سبيل المثال كانت جدة عاصمة ولاية الحبش التركية القائمة تقريبًا فوق حدود دولة إريتريا المعاصرة). وللمفارقة فإن “عالم البحر الأحمر” يظل – إلى اليوم- العامل المحدد الأبرز للعلاقات السعودية الإثيوبية ([1]) منذ إعلان قيام المملكة العربية السعودية الحديثة (سبتمبر 1932) بعد عقود قليلة من نجاح الإمبراطور الحبشي منليك الثاني في مضاعفة حجم دولته نهاية القرن 19 بثلاثة أضعاف مساحتها لتصبح “دولة إثيوبيا الحديثة” في صورتها الراهنة، وفي ظل توازنات القوى الدولية الغربية المكثفة على ساحلي البحر الأحمر، لاسيما بعد سقوط الدولة العثمانية، والتي ضمنت مشروعية لمشروعات منليك التوسعية والتي استكملت في ستينيات القرن الماضي بضم أقاليم صومالية لحدود إثيوبيا الحالية (وقبل استقلال إريتريا 1993).
ومع عمق هذه الصلات التاريخية وتشابك التفاعل الحضاري على ساحلي البحر الأحمر والمناطق الظهيرة لها فإن العلاقات السعودية الإثيوبية الحديثة مرت بتقلبات واضحة. ويلاحظ البداية القوية لهذه العلاقات عقب قيام العلاقات الدبلوماسية (1948) وما تلاها من تبادل البلدان زيارات كبار المسئولين بهما وكان أبرزها زيارة الملك سعود لأديس أبابا في العام 1957 والتي عبر خلالها عن ترحيبه الحار بحالة الإسلام في إثيوبيا وفي يناير 1960 قام الإمبراطور هيلا سيلاسي بزيارة للرياض استغرقت ثلاثة أيام وتعززت بعدها الصلات التجارية بين البلدين حتى شكلها الراهن (تصدير إثيوبيا المنتجات الزراعية، وتصدير السعودية منتجات الطاقة) وظل الميزان التجاري لصالح السعودية بشكل ملموس مع الارتفاع المستمر في أسعار البترول مقابل المنتجات الزراعية([2]).
ويمكن وصف العامل المشترك بين السعودية وإثيوبيا في العقود الأخيرة بأنهما قوتان إقليميتان كبيرتان تماستا بقوة بعد انسحاب القوى العظمى من القرن الأفريقي (بعد الحرب الباردة) عقب الحرب الباردة الأمر الذي وفر للسعودية نفوذًا غير مسبوق في الإقليم وبدرجة أقل داخل إثيوبيا التي طورت بدورها (مع كينيا) حضورًا إقليميًا أكثر قوة. كما تأثرت إثيوبيا بقوة فيما بعد الحرب الباردة بالمعونات السعودية والسخية للسودان والصومال، وكذلك دعم نظام أسياس أفورقي بعد استقلال إريتريا عن إثيوبيا. وفي المقابل وفرت إثيوبيا (إلى جانب السودان) للسعودية مصدرًا مهمًا للعمالة([3])، رغم المشكلات المزمنة المتعلقة بهذه العمالة بالنظر إلى تفشي ظاهرة الهجرة غير الشرعية من إثيوبيا إلى السعودية التي يتضح حجمها من إعلان الحكومة الإثيوبية في الأسابيع الأخيرة خططها لإعادة نحو مائة ألف عامل من السعودية في الفترة المقبلة.
دوافع الإقتراب وأسباب التباعد
يمكن القول أن أهم دوافع التقارب السعودي الإثيوبي تتمثل في الرغبة المتبادلة في صيانة الاستقرار الإقليمي في جنوبي البحر الأحمر والقرن الأفريقي، ورؤية السعودية الواقعية لدور إثيوبيا الذي لا يمكن الاستغناء عنه في هذا المسار؛ وتطلع إثيوبيا للاستفادة من الرافعة الاقتصادية السعودية في تعزيز الاقتصاد الإثيوبي وإرفاده باستثمارات مباشرة تتناسب مع تطلعات الأولى وقدرات الثانية.
وتتضح دوافع الاقتراب في الملف الاقتصادي بشكل أوضح من الجانب الإثيوبي؛ وعدت السعودية في الفترة 2015-2019 من أهم شركاء إثيوبيا التجاريون إذ تجاوز إجمالي عائدات التجارة 2.85 بليون دولار (في الأعوام الخمسة المذكورة معًا)، ومثلت صادرات السعودية في تلك الفترة ما قيمته 2.05 بليون دولار بينما لم تمثل صادرات إثيوبيا في الأعوام الخمسة سوى 807.22 مليون دولار فقط (بمتوسط 161 مليون دولار سنويًا)، ورغم ذلك فإن هذه الصادرات مثلت نسبة 8.13% من إجمالي صادرات إثيوبيا في تلك الفترة مما يجعل السعودية أحد أهم وجهات البضائع الإثيوبية خارجيًا([4]).
كما أنه رغم الميزات النسبية لمقدرات التجارة البينية بين البلدين، من قبيل التقارب الجغرافي وتباين التركيب القطاعي لاقتصادهما، هذه التجارة مؤخرًا لا تتجاوز حدود 500 مليون دولار (تقديرات العام 2020) منها صادرات سعودية بقيمة 288 مليون دولار تركزت في المنتجات البترولية والأسمدة والكيماويات، مع ملاحظة نمو الصادرات السعودية لإثيوبية منذ العام 1995 بنسبة سنوية في حدود 3.18% (من 132 مليون دولار في العام 1995)؛ في المقابل جاوزت الصادرات الإثيوبية للسعودية بالكاد حاجز 200 مليون دولار في العام 2020 (نحو 203 مليون دولار) وتركزت هذه الصادرات في البن (بقيمة 148 مليون دولار أو نحو 75% من قيمة الصادرات الإثيوبية) ثم اللحوم (29 مليون دولار)، ونمت الصادرات الإثيوبية للسعودية بنسبة 6.82% من العام 1995 (بقيمة 38.9 مليون دولار) حتى العام 2020([5]).
وفي سياق التقرب الإثيوبي من السعودية (التي صنفت في العام 2021 ضمن أكبر ثلاثة دول تضخ استثمارات مباشرة في إثيوبيا بعد الصين وتركيا)([6]).للاستفادة من قدراتها الاستثمارية الضخمة، وفي نهاية مايو الماضي جدد السفير الإثيوبي بالسعودية لينشو باتي هذه مساعي بالاجتماع مع عجلان عبد العزيز رئيس مجلس اتحاد الغرف السعودية “لمناقشة سبل توسيع التجارة والاستثمار” بين البلدين؛ وركز “باتي” خلال الزيارة على استراتيجيات توسيع الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية بين البلدين والتي تشمل الاستثمارات القابضة ومنتدى للتجارة الثنائية وتيسير زيارات وفود تجارية سعودية لإثيوبيا وتأسيس مجلس أعمال إثيوبي- سعودي “لتعميق التجارة بين البلدين”، وفي المقابل عبر عبد العزيز عن وعي بلاده (التقليدي) بالمقدرات الضخمة التي توفرها إثيوبيا للمستثمرين السعوديين وكذلك لسوق التصدير السعودي ([7]).
لكن تراجع أسعار البترول العالمية وجائحة كوفيد-19 فرضت ضغطًا اقتصاديًا على موازنة السعودية الوطنية، انتقل بدوره إلى عدد من أهم أدوات سياساتها الخارجية في القرن الأفريقي وإثيوبيا على وجه الخصوص عبر الروافع المالية أو “سياسة الريال السعودي” riyal politik لدعم بناء تحالفات لمواجهة تهديدات في مقدمتها النفوذ الإيراني وتفكيك التحالفات الإيرانية القائمة([8])، ومن ثم لا يتوقع أن يحدث تقدم ملموس في التدفقات الاستثمارية السعودية على إثيوبيا على الأقل حتى تبين معالم الاستقرار السياسي في الأخيرة.
الاشتباك الإقليمي: السودان نموذجًا
تتبع السعودية سياسات إقليمية تشتبك بطبيعة الحال مع نظيرتها الإثيوبية؛ وإلى جانب التحالف الاستراتيجي بالغ العمق مع مصر (لاسيما منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي للحكم 2014) في شتى الملفات مثل أمن البحر الأحمر، والقضية الفلسطينية، ومسار تطبيع العلاقات مع إسرائيل، والتعاون الاقتصادي، وملف سد النهضة، فإن السعودية نشطت في الشهور الأخيرة في ملف السودان الذي يمثل بدوره أولوية فائقة في أجندة أديس أبابا الخارجية وبشكل خاص منذ إرهاصات سقوط نظام الرئيس عمر البشير بعد ثورة ديسمبر 2018.
كما تتخوف الرياض من انخراط إيران المتزايد في إثيوبيا (وتكرار نموذج البشير- السودان) كما اتضح منذ نهاية العام 2021 ومطلع العام الجاري من مساعدة طهران لإثيوبيا في الصراع الذي انفجر في إقليم التيجراي، وعلى خلفية التنافس الإقليمي الدائر في اليمن، وكذلك توجه نظام آبي أحمد لطهران بدافع من شعوره بعزلة بلاده المتزايدة في حوض البحر الأحمر الأمر الذي اتضح في تبني إثيوبيا موقف ضرورة تسوية الأزمة في اليمن سلميًا، كما استجاب آبي أحمد –حسب تحليلات غربية- لمحاولات إيران التعاون في مواجهة “تحديات مشتركة أخرى” مثل الصراعات الأهلية والمسلحة في السودان والصومال “ونقل إيران خبرتها في مواجهة الإرهاب للنظام الإثيوبي”([9]).
ومثل الانخراط السعودي، المدعوم أمريكيًا، في ملف المرحلة الانتقالية في السودان عبر رعاية الحوار السياسي بين مختلف القوى الفاعلة فيه تهديدًا أصيلًا لدور إثيوبيا في سياق نفس المرحلة –على الأقل سياسيًا وبغض النظر عن حجم قدرات إثيوبيا على الضغط على السودان بإثارة بعض الاضطرابات أو التشجيع عليها كما يجري في ولاية النيل الأزرق راهنًا- حيث اضطلعت أديس أبابا بالدور السياسي الأبرز في الضغط على نظام البشير حتى سقوطه ثم استضافة اجتماعات مطولة ومنتظمة للقوى السياسية السودانية لترتيبات المرحلة الانتقالية الراهنة قبل تمكن مجلس السيادة بقيادة عبد الفتاح البرهان من استعادة المبادرة في مسار المرحلة الانتقالية.
كما أن التنسيق السعودي- المصري الذي امتد لملف السودان (بعد أمن البحر الأحمر وتبني السعودية الموقف العربي الأكثر حزمًا في دعم حقوق مصر المائية في نهر النيل وإظهارها هذا الدعم بثبات كبير في السنوات الأخيرة) واتضح في تطابق الرؤى التام بين الرياض والقاهرة يمثل تهديدًا غير مسبوق لدور إثيوبيا الإقليمي، لاسيما بعد تبنى الإمارات الحليف العربي الأبرز في القرن الأفريقي لمقاربة أكثر تفهماً للمخاوف المصرية . إلى جانب أن الدعم السعودي للسودان في مرحلته الانتقالية يعني عمليًا (في ظل الدعم الاقتصادي المرتقب لاحقًا) مزيدًا من العزلة الإقليمية الإثيوبية وخصمًا لا يستهان به من نفوذها
مستقبل العلاقات السعودية الإثيوبية
يرتبط مستقبل العلاقات السعودية الإثيوبية وسيناريواته بالعديد من الاعتبارات أبرزها “التحالف الاستراتيجي” بين الرياض والقاهرة والذي لم يتزعزع طوال العقد الفائت تقريبًا مقارنة “بتحالفات” مشابهة لم تصمد أمام المتغيرات الإقليمية والدولية؛ وحدود الطموحات السعودية في “أمننة” البحر الأحمر وضمان اكتمال نفوذ الرياض في جزئه الجنوبي عسكريًا واقتصاديًا في المرحلة المقبلة؛ وما يرتبط بما سبق بقدرة نظام أديس أبابا على تسوية المشكلات الداخلية خاصة مع جبهة تحرير تيجراي “لاستكمال خطط التعاون الإقليمي في القرن الأفريقي (حيث توجد للسعودية مصالح اقتصادية على خطوط مناطق الأزمات الجارية لاسيما في إقليم العفر) وإطلاق مشروعات هذا التعاون على نحو يعزز أمن البحر الأحمر في نهاية الأمر. وفي المقابل فإن الرؤية الإثيوبية ترهن مستقبل هذه العلاقات بدور إقليمي أكبر يتجاوز “التحفظات” المصرية، وانفتاح سعودي أكبر لاسيما في التبادل التجاري والاستثمارات وملف العمالة الإثيوبية. وفي ضوء الاضطراب السياسي الراهن في إثيوبيا، وترتيب أولويات سياسات السعودية الخارجية في الإقليم وتشابكها مع نظيرتها المصرية، لا يتوقع بأي حال من الأحوال أن تشهد العلاقات السعودية الإثيوبية اختراقات تذكر في المرحلة المقبلة (على المدى القريب على الأقل).
الهوامش
[1] Red Sea Peace Initiatives: Saudi Arabia’s Role in the Eritrea Ethiopia Rapprochement, Special Report, King Faisal Center for Research and Islamic Studies, Riyadh, April, 2020, p. 5.
[2] Melese, Abebe Alemu, Post 1991 Ethiopia and Saudi Arabia Economic Relations: Challenges and Opportunities of Trade and Agricultural Investment, Addis Ababa University, Addis Ababa, May 2011, p. 27.
[3] Mason, Robert, Pushing the envelope of national security and state influence at the margins: Saudi and Iranian competition in the Horn of Africa (in: Mason, Robert and Mabon, Simon, editors, The Gulf States and the Horn of Africa Interests, influences and instability) Manchester University Press, Manchester, 2022, p. 37.
[4] Bekele Jemallu Jenber, Evolving Ethio-Gulf Economic and Political Relations: The Challenges and Opportunities, Open Journal of Social Sciences, Vol.9 No.10, October 2021 p. 273.
[5] Saudi Arabia Ethiopia, OEC Profiles https://oec.world/en/profile/bilateral-country/sau/partner/eth
[6] Ethiopia, Saudi Arabia Discuss on Investment Cooperation, Ethiopian Monitor, August 2, 2021 https://ethiopianmonitor.com/2021/08/02/ethiopia-saudi-arabia-discuss-on-investment-cooperation/
[7] Ethiopia, Saudi Arabia Discuss Ways To Scale Up Trade And Investment Cooperation, Fana Broadcasting Corporate, May 20, 2022 https://www.fanabc.com/english/ethiopia-saudi-arabia-discuss-ways-to-scale-up-trade-and-investment-cooperation/
[8] Mason, Robert, Pushing the envelope of national security and state influence at the margins: Saudi and Iranian competition in the Horn of Africa, Op. Cit. p. 38.
[9] Banafsheh Keynoush, Iran to remain a key partner for Ethiopia in the Tigray conflict, Middle East Institute, January 26, 2022 https://www.mei.edu/publications/iran-remain-key-partner-ethiopia-tigray-conflict
[10] Are Israel and Iran competing on the same side in Ethiopia? Jewish Insider, January 4, 2022 https://jewishinsider.com/2022/01/are-israel-and-iran-competing-on-the-same-side-in-ethiopias-conflict/