تُعَرّف وكالة الطاقة الدولية (IEA) أمن الطاقة بأنه “قدرة كل دولة على تأمين احتياجاتها من الطاقة بسعر مناسب، وضمان قدرة نظام الطاقة على الاستجابة العاجلة للتغيرات المفاجئة في توازن العرض والطلب” وفقًا لهذا التعريف، تواجه مختلف دول العالم بلا استثناء أزمة متفاقمة نتيجة اضطراب سوق الطاقة منذ بداية جائحة كورونا؛ حيث تسببت الاحترازات الصحية في حالة إغلاق كامل ووقف الأنشطة الاقتصادية مما أدى إلى تراجع في مستويات إنتاج الطاقة، ومع بداية عام 2021، شهد العالم انتعاشاً اقتصاديًّا، وبالتالي تصاعد الطلب العالمي على مختلف صور الطاقة.
ولا يمكن فهم الظروف التي وضعت أمن الطاقة في خطر دون مراجعة آليات الانتقال إلى الطاقة النظيفة التي أقرتها اتفاقية باريس للمناخ في 2015، والتي يجرى العمل عليها تدريجيًّا وفق ما أكدته نحو 200 دولة في قمة غلاسكو للمناخ عام 2021. نتيجة التراخي في تطبيق سياسات الطاقة المتجددة، إلى جانب جملة من الظروف، عجزت الدول عن إدارة الأزمة بصورة تتفق مع تعهداتها، كان للمنطقة العربية نصيب من التأثر بأزمة الطاقة العالمية، على الرغم من دورها الاستراتيجي في تحقيق أمن الطاقة.
ملامح أزمة الطاقة الحالية ومسبباتها
يخوض العالم أزمة وجودية؛ حيث بلغت أسعار الطاقة ومشتقاتها مستويات مرتفعة بفعل زيادة الاستهلاك. وتشير التقديرات الأولية إلى أن استهلاك الغاز الطبيعي والفحم في الأسواق الرئيسية زاد بنسبة 8٪ و11٪ على التوالي في النصف الأول من عام 2021 مع انتعاش الاقتصاد العالمي، مقارنة بالنصف الأول من عام 2020، والذي ترجم إلى أسعار قياسية في الكهرباء.
من خلال رصد عدد من الملامح، يمكن الوقوف على طبيعة أزمة الطاقة:
- ارتفعت أسعار النفط إلى مستويات قياسية، حيث سجل سعر خام برنت ما يزيد عن 90 دولار للبرميل، أي زيادة بنسبة تقترب من 100% عن سعره خلال عام 2020، وهو أعلى مستوى له في 3 سنوات.
- واجه الغاز ضغوطاً شديدة باعتباره المحطة الانتقالية من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة النظيفة، وارتفعت أسعار العقود الفورية للغاز الطبيعي بأكثر من 4 أضعاف في أوروبا وآسيا. كما ارتفعت أسعار العقود الآجلة للغاز الطبيعي في الولايات المتحدة بنحو 47.4%، وبلغت أسعار الغاز الطبيعي في بورصة نيويورك 6 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وهو أعلى مستوياتها منذ عام 2014، بعد أن كانت 1.99 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية في عام 2020.
- نتيجة زيادة الطلب على الطاقة، ونقص إمدادات الغاز، اتجهت العديد من الدول نحو العودة إلى الفحم مما أدى إلى ارتفاع الأسعار إلى 234 دولار للطن في الصين، وارتفع سعر العقود الآجلة للفحم إلى أكثر من 100 دولار للطن.
- ارتفعت أسعار الكهرباء بنسبة 200٪ في الأشهر الأولى من عام 2021، كما واجهت بعض الدول مثل البرازيل ودول آسيا الوسطى ومناطق مثل شمال شرق الصين انقطاع الكهرباء. وبلغ انخفاض توليد الكهرباء في الولايات المتحدة 14 % مقارنة بالعام الماضي، وأشارت بلومبرج، إلى أن ارتفاع سعر الطاقة الكهربائية الفرنسية إلى 382.08 يورو لكل ميجاواط/ساعة.
أما عند تشريح الأزمة الحالية، فيمكن الوقوف على عدد من الأسباب التي تقف وراءها، والتي يمكن تقسيمها إلى عوامل متعلقة بزيادة الطلب وأخرى متعلقة بانخفاض العرض.
أولًا: تصاعد الطلب العالمي على الطاقة، وقد حدث بسبب”
- موجات التعافي من جائحة كورونا: تسببت الجائحة في انخفاض استهلاك الطاقة بنسبة 4.5٪ في عام 2020، وهو أكبر انخفاض منذ عام 1945، ولكن بدخول عام 2021، ارتفع استهلاك الطاقة نتيجة التعافي ووقف الحجر، وانتشر الانتعاش الاقتصادي، بداية من الصين، ثم أوروبا، ثم الهند.
- الاضطرابات المناخية: شهد عام 2021 صور متطرفة من التغير المناخي، حيث تسبب ارتفاع درجات الحرارة إلى مستوى مبالغ فيه في عجز الرياح عن توليد الكهرباء، وبالتالي التحول نحو الوقود الأحفوري، وهو ما دفع إلى ارتفاع أسعار الغاز والنفط. كذلك واجهت دول أوروبا شتاءً قارس البرودة، وتزايد الطلب على الغاز لأغراض التدفئة، مما تسبب في نقص مخزونات الغاز الطبيعي في أوروبا بنحو 15%، أيضا تسبب انتشار الجفاف حول العالم في خفض منسوب المياه في السدود، فانخفضت كمية الكهرباء المولدة من الطاقة الكهرومائية.
ثانيًا: عدم القدرة على زيادة العرض، وذلك بسبب العوامل التالية:
- الظروف المناخية: تضررت مقاطعة شانشي الصينية التي تنتج 30 % من الفحم في البلاد نتيجة الأمطار الموسمية مما أدى إلى إغلاق مناجم الفحم. كما أدت موجة الجفاف الحادة التي مرت بها البرازيل في تراجع حاد في معدل توليد الكهرباء من محطات الطاقة الكهرومائية، ويأتي ذلك مع كون الطاقة الكهرومائية توفر نحو 66% من الطلب على الكهرباء في البرازيل. كما توقفت عمليات إنتاج النفط في خليج المكسيك بسبب إعصار “آيدا.”
- أسباب جيوسياسية: يوفر الغاز الطبيعي أكثر من 21% من استهلاك الطاقة في أوروبا، وتمد روسيا دول أوروبا بحوالي 35% من احتياجاتها من الغاز. وعلى وجه الخصوص، ارتفعت إمدادات الغاز إلى ألمانيا بنسبة 70% من خلال خط نورد ستريم، وفي الوقت الراهن، يحبس العالم أنفاسه إزاء مواجهة محتملة بين روسيا والغرب، استخدمت فيها روسيا سلاح الغاز للضغط على دول أوروبا، ورفضت زيادة إمدادات الغاز في السوق الفورية قصيرة الأجل إلى أوروبا.
- الخلافات التجارية: على سبيل المثال، توقفت الصين عن شراء الفحم من أستراليا في أواخر العام الماضي، بعد أن دعمت كانبيرا دعوة لإجراء تحقيق دولي حول كيفية تعامل بكين مع تفشي فيروس كورونا، مما سبب ضغوط على القطاع الصناعي، في ظل كون حوالي 38 ٪ من واردات الفحم الحراري الصيني من أستراليا.
- موقف أوبك بلاس: واجه تجمع دول أوبك بلس المكون من 23 دولة دعوات مستمرة لزيادة إنتاج النفط، ولكن صممت المنظمة على موقفها من حيث رفض زيادة الإنتاج بأكثر من الكمية المقررة للزيادة شهريا والبالغة 400 ألف برميل يوميًّا؛ الأمر الذي يرجع له دور كبير في ارتفاع سعر خام برنت.
تأثير متطلبات التكيف مع التغير المناخي
يتضح عامل المناخ كمسبب رئيس في أزمة الطاقة الحالية سواء من جهة ارتفاع الطلب أو تقلص العرض. لقد تعهدت 200 دولة في قمة المناخ COP 26 بالالتزام بمتطلبات التكيف مع التغير المناخي من حيث تقليص استخدام الوقود الأحفوري خاصة الفحم، المسئول عن 40 ٪ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون السنوية، بهدف الوصول إلى صفر انبعاثات كربونية بحلول 2050، من أجل الحد من ارتفاع درجة الحرارة إلى 1.5 درجة.
وعلى الصعيد الأوروبي، مثلت عمليات إنتاج الطاقة أكبر مصدر للانبعاثات الكربونية بإجمالي نسبة 78٪ من إجمالي انبعاثات الاتحاد الأوروبي في عام 2015. ومنذ توقيع اتفاقية باريس للمناخ في 2015، تعمل دول أوروبا على قيادة التخلص من محطات الطاقة العاملة بالفحم وتبني مزارع للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وأسهمت سياساتها إلى انخفاض كبير في الاعتماد على الفحم، إذ تقلص الاعتماد عليه في إنتاج الكهرباء خلال العام الماضي بنحو 20%، كما انخفض إنتاج الغاز الأوروبي بنسبة 18٪ خلال الفترة 2015-2020، وتضاعف التوسع في استخدام الرياح الطاقة الشمسية، وكذلك الطاقة الحيوية، والطاقة الحرارية الجوفية في عام 2020 مقارنة بعام 2019، كما تتوقع منظمة الطاقة الدولية زيادة حصة الطاقة المتجددة بنسبة 10.4% عام 2045، مقارنة مع 2.1% عام 2019.
ولكن هذه الطموحات واجهت ضربة قاسية مع تعافي الطلب على الطاقة؛ حيث أثبتت مصادر الطاقة المتجددة كالشمس والرياح والكهرومائية عدم جاهزيتها على تلبية حاجة الدول. بالإضافة إلى هذا، تعاني هذه المصادر من تقلبات طبيعية حادة، مما يشكك في إمكانية الاعتماد عليها لتحقيق أمن الطاقة.
كذلك، لا يمكن الفصل بين أزمة الطاقة الحالية وسياسات الطاقة النظيفة؛ حيث أدى الانصراف عن الاستثمار في مصادر الطاقة التقليدية نظرًا للقيود الدولية، إلى تراجع مخزونات الوقود الأحفوري. وبالتالي، عندما حدثت الانفراجة الاقتصادية العالمية، عجزت المصادر المتجددة وغير المتجددة في تغطية عجز الطاقة، مما دفع الدول إلى العودة إلى الوراء، وتكثيف إنتاج الفحم والنفط، وبحسب تقرير آفاق النفط، الصادر عن أوبك، من المرجح ارتفاع حصة الغاز الطبيعي من 23.1% عام 2019، لتصل إلى 24.45% بحلول عام 2045.
الاستجابة العالمية لأزمة الطاقة
أكد المجلس الأوروبي على ضرورة العمل الجماعي لمواجهة أزمة ارتفاع أسعار الطاقة، كما قدمت المفوضية الأوروبية برئاسة “أورسولا فون دير لاين” عدة خيارات للعمل الأوروبي على رأسها إنشاء احتياطي استراتيجي للغاز الطبيعي، وإنهاء المضاربة في أسواق الطاقة، وزيادة الاستثمارات في مصادر الطاقة المتجددة. وفي خضم الأزمة، انتهجت بعض الدول حزمة من السياسات ما بين:
-
العودة مرة اخرى للوقود الأحفوري:
دفع الرئيس الأمريكي “جو بايدن” الدول المنتجة للنفط والغاز إلى زيادة إنتاجها من الطاقة وتوجيه إمداداتها إلى أوروبا في ظل الأزمة مع روسيا. كذلك اتجهت ألمانيا إلى إنتاج 56 % من الكهرباء من الفحم والغاز والطاقة النووية؛ حيث ارتفعت مساهمة الفحم وحده من 21 %إلى 27 % من إنتاج الكهرباء في ألمانيا. وعلى الصعيد الآسيوي، طلب الحزب الحاكم في الصين من المنتجين ضمان الإمداد بالفحم، وزادت واردات الفحم من روسيا إلى الصين أكثر من 3 أضعاف مقارنة بالفترة نفسها في عام 2020، كذلك الحال بالنسبة للهند، حيث يشارك الفحم الهندي حاليا بنسبة 70 ٪ من توليد الطاقة.
-
البحث عن بدائل:
زاد الطلب على الغاز الطبيعي المسال في اليابان وكوريا وتايوان. كما صُنفت الصين كأكبر مستورد للغاز الطبيعي المسال في النصف الأول من عام 2021. كذلك أعلن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، في 9 نوفمبر 2021، أن فرنسا ستستأنف بناء المفاعلات النووية لضمان استقلالها في مجال الطاقة وتحقيق أهدافها المناخية.
- سياسات الدعم:
تحركت السلطات في بكين لوضع حد أقصى لأسعار الوقود، وإلغاء بعض الأسعار الثابتة للكهرباء، وكبح صادرات الوقود، وزيادة مشتريات الفحم والغاز والديزل من الخارج، وفرضت إسبانيا عدة إجراءات طارئة لخفض فواتير الطاقة. أيضًا، تعهدت فرنسا وإيطاليا بتقديم مدفوعات لمساعدة الأسر الأشد فقرًا، ودعم الشركات المتعثرة والتخفيضات الضريبية.
موقع العالم العربي من أزمة الطاقة
تضم المنطقة العربية نحو تسع دول مصدرة للنفط والغاز الطبيعي؛ حيث تستحوذ الدول العربية على ما نسبته 25% من الإنتاج العالمي من النفط، ونحو 15% من إنتاج الغاز الطبيعي. وتراجعت عائدات النفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر من تريليون دولار في عام 2012 إلى 575 مليار دولار في عام 2019، كما تقلص صافي اقتصادات البلدان المصدرة للنفط والغاز بنحو 6.6٪ في عام 2020.
وتلعب دول الخليج وشمال أفريقيا دورًا مهمًا في الخريطة الجيوسياسية للطاقة؛ حيث لم تستجب دول “أوبك بلاس” لمطالب بايدن من حيث زيادة إنتاج النفط مما أدى إلى ارتفاع الأسعار. ومع تعافي الطلب على الطاقة بحلول عام 2021، حققت ميزانيات دول الخليج إيرادات هائلة، كما أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، ارتفاع إيرادات البلاد من صادرات النفط والغاز بقيمة 21,5 مليار دولار عام 2021، في أعلى تسجيل له منذ 5 سنوات.
تشكل دول الشرق الأوسط الورقة الرابحة أمام بايدن لإحلال الغاز الروسي، إذ حث دول الخليج وعلى رأسها قطر بتوجيه إمداداتها من الغاز المسال إلى أوروبا لتغطية عجز الغاز على خلفية الأزمة الروسية الأوكرانية، وتسعى الدول الخليجية إلى زيادة نصيبها في سوق الطاقة، حيث أعلنت قطر خلال قمة الدول المصدرة للغاز مؤخرا رفع إنتاجها من الغاز المسال إلى 126 مليون طن بحلول 2027.
ختامًا.. تواجه مختلف دول العالم تحديات هائلة أمام ملف الطاقة، وذلك على مستوى الدول المصدرة والدول المستوردة، حيث تعرضت الطاقة لضربات عنيفة على مدار العامين الماضيين، مما يضع الدول المنتجة على حافة الخطر فيما يخص تقلبات الأسعار وبالتالي اهتزاز الميزانيات وتراجع نسبة الأمان المالي لدى اقتصاد الطاقة، بالإضافة إلى استنزاف مورد غير متجدد.
كذلك، وقعت الدول المستورة تحت وطأة سلاح الطاقة خاصة الدول الأوروبية في علاقتها مع روسيا. وبالنظر إلى مصادر الطاقة المتجددة كحل بديل يضمن تحقيق الأهداف المناخية، والتخلص من ضغوط الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية، نجد أنها تحتاج إلى سياسات طويلة المدى واستثمارات واسعة لكي تتمكن من تحقيق شرطين أساسين؛ ضمان أمن الطاقة بسعر يناسب مختلف الدول، والالتزام بالصفقة الخضراء والتكيف مع التغير المناخي.