شهدت الساحة الدينية المصرية مؤخراً عودة للمعارك التقليدية التي عادة ما تنشب من حين لآخر بين أتباع المدرسة “الأشعرية والماتريدية” التي يدين بها جمهور علماء الأزهر الشريف، من جهة، والتيار السلفي المصري بشكل خاص، ورموزه المختلفة من جهة أخرى، وذلك انطلاقا من محاولة الإجابة عن السؤال القديم المتجدد، الذي عرف طريقه خلال الـ200 عام الأخيرة: من الأحق بتمثيل أهل السنة والجماعة من قبل التيارات والمذاهب والتنويعات الفكرية القائمة في اللحظة الراهنة؟
الجديد الذي حملته هذه المعركة خروجها من دائرة الأفراد والمؤسسات الدينية المعبرة عن هذا الاختلاف والتباين العقدي والفقهي والفكري في جزء كبير منه إلى ميدان الحاضنة “الدولاتية” الإقليمية، وهو معادل جديد وفاعل مغاير لم تألفه طبيعة هذا الصراع الفكري بين هذين التوجهين الفقهيين والفكريين خاصة في المائة عام الأخيرة.
بيد أن ذلك لا ينفي وجود رغبة جامحة من لدن علماء ووعاظ ودعاة الأشعرية والماتريدية من رجالات “الأزهر الشريف” الاستفادة من سياقات اللحظة الراهنة التي تعايش ثمة تراجع لدى القوى السلفية المختلفة من حيث “القبول المجتمعي” المغاير لسابقه، فضلاً عن دور السلطة السياسية في تحجيم أشكال وآليات نفوذها خاصة الإعلامية منها، مع تضييق الخناق عليها – باستثناء تيار الدعوة السلفية السكندرية – بقدر أقل من أخرياتها، وفق منظور إقليمي يعمل على محاصرة قوى الإسلام السياسي والديني الجماعاتي على اعتبار أن التيار السلفي جزء لا ينفك عنه.
الأشعرية، الماتريدية، الوهابية
في كتابه “مسائل الاختلاف بين الأشاعرة والماتريدية” يقول ابن كمال باشا (٨٧٣ ـ٩٤٠هـ): أعلم أن الشيخ أبا الحسن الأشعري إمام أهل السنة ّ ومقدمهم, ثم َ الشيخ أبا منصور الماتريدي, وأن أصحاب الشافعي وأتباعه تابعون له في الأصول وللشافعي في الفروع, وأن أصحاب أبي حنيفة تابعون للشيخ أبي منصور الماتريدي في الأصول ولأبي حنيفة في الفروع.
ويذكر “سعيد عبداللطيف فودة” في مقدمة تحقيقه لكتاب “ابن كمال الباشا” أن الإمام أبا منصور الماتريدي اشتهر باتباعه للمذهب الحنفي، وأن الإمام الأشعري انقسم قول العلماء حوله ما بين كونه شافعي المذهب، أو مالكيا.
الأشاعرة فرقة تنتسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، وينتهي نسبه إلى الصحابي أبي موسى الأشعري وكان من كبار الأئمة المجتهدين والمجددين لعقيدة المسلمين على مرِّ العصور ويتبعه جماهير العلماء من مشارق الأرض إلى مغاربها من ذلك الوقت وحتى يومنا الحاضر، والماتريدية فرقة كلامية تنسب إلى أبي منصور الماتريدي المتوفى سنة 333هـ، وخلافهم مع الأشاعرة محصور في مسائل يسيرة أوصلها بعضهم إلى ثلاث عشرة مسألة، والخلاف في بعضها لفظي.
ويعرف الشيخ “عبدالعزيز ابن باز” أحد رموز التيار السلفي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ” الوهابية” بأنهم هم أتباع الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب ” الحنبلي” المتوفى 1206 هـ، والذي قام بدعوة الناس في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، في نجد الدرعية إلى توحيد الله ومنكرا على الناس التعلق بالقبور والأموات والأصنام… إلخ، ومن كتبه: “كتاب التوحيد، فتح المجيد، كشف الشبهات، ثلاثة الأصول”.
وفي مقالته المعنونة بـ”الوهابية.. النشأة، التحولات، الخطر الماثل” يشير الدكتور كمال حبيب، إلا أنه ورغم انتماء الحركة الوهابية للمذهب الحنبلي فإنها جاوزت مناهج الحنابلة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل مؤسس المذهب نفسه، الذي لم يعرف عنه أنه قاطع المجتمع أو الدولة إبان فتنة خلق القرآن الشهيرة التي عذب بسببها في عهد المأمون وأخيه المعتصم، بل ظل يجتهد للأمة ولا يجتهد في مواجهتها، حسب وصفه.
ويضيف حبيب أن الوهابية التي تنتسب للمذهب الحنبلي أسست لمذهبية جديدة مغامرة ومقتحمة ولا علاقة لها بالمذهب الحنبلي وطرق ومناهج مؤسسه الأول، فقد نزعت يدها من طاعة الدولة الإسلامية التي كانت موجودة في ذلك الوقت وهي الدولة العثمانية وحاربت ولاتها ووصمت مواطنيها بالردة والشرك.
والسلفية المعاصرة رغم اختلافها من حيث تنوع أعدادها وتمايزها إلا أن جميعهم يعتبرون الفكر الوهابي مصدرا رئيسا لأدبياتهم فضلا عن التوقير الكبير والتبعية المباشرة للمنتوج الفكري والفقهي لكل من الشيخ محمد بن عبدالوهاب والإمام “أحمد ابن تيمية”.
ويجسدها في ذلك عدد من الجماعات والتيارات السلفية أبرزهم “جماعة أنصار السنة المحمدية” التي أنشأها محمد حامد الفقي” في بدايات القرن الفائت، والسلفية العلمية -السكندرية – التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي، والسلفية المدخلية التي نبتت أفكارها وتمخضت عن حرب الخليج الثانية في العقد التاسع من القرن المنصرم، وغيرهم من السلفية السائلة الأخرى. فيما ترتكز دعوتهم للسلفية من خلال توقير هذه الرموز ومنتوجها الفكري من الوهابيين الأوّل انطلاقا من القاعدة الشهيرة “الدعوة إلى فهم الكتاب، والسنة بفهم سلف الأمة” وجميعهم يقفون من الأشعرية والماتريدية موقف الرافض ويناصبونها العداء ويعتبرون أتباعهم مبتدعين في مسائل كثيرة خالفوا بها سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وسلف الأمة، حسب قولهم.
مؤتمر الشيشان 2016
يمكن التأريخ للدفع بهذه القضية الخلافية إلى الواجهة والتحول العملياتي المؤسسي تجاهها بقوة في العصر الحديث مع مخرجات مؤتمر علماء الدين السنة بالعاصمة الشيشانية (غروزني) عام 2016 م، إذ أسفر عنه حصر مسمى أهل السنة والجماعة على “الأشعرية والماتريدية” وتم إخراج التيار السلفي المنحدر من فكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب أو ما يعرف بالوهابية منه، وذلك بعد أن ظلت هذه الإشكالية مثار جدل ولغط كبيرين على مدار أكثر من ثمانية عقود.
عقد المؤتمر برعاية الرئيس الشيشاني “رمضان قديروف” ودعم مباشر من دولة الإمارات العربية المتحدة وعدد من الدول العربية والإسلامية والهيئات الدينية المؤسساتية والرسمية داخلهم، وشارك الأزهر الشريف بممثل عن شيخه ولم يحضر بنفسه، إلا أن رسالته التي ألقيت في المؤتمر أثارت موجة من الغضب حينها خاصة في الأوساط السلفية في الخليج العربي.
وذلك بعد أن حصر شيخ الأزهر آنذاك تعريفه لأهل السنة: في الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف.
وعلى إثر تلك التصريحات أصدرت 18 منظمة إسلامية بياناً مشتركاً رفضت فيه كل ما جاء في “بيان غروزني”، على رأسهم كل من هيئة كبار العلماء” في السعودية ، ما دفع بشيخ الأزهر-فيما يشبه بالتراجع خطوة إلى الخلف- بعد ذلك إلى اعتبار السلفية من المشمولين بصفة “أهل السنة”، وقال كلمته الشهيرة آنذاك: أنا لا أجامل السلفيين حين أقول ذلك، ولكن مذهبي الأشعري هو الذي علمني هذا”
مؤتمر أوزباكستان 2020
ظلت إشكالية العلاقة بين الأشعرية والماتريدية من جهة والسلفية من جهة أخرى حاضرة في المخيال العربي والإسلامى باحثة عن التمايز والتباين الذي يقر باحتكار أحدهما لمنطوق أهل السنة والجماعة، وانطلاقا من ذلك كان للمؤتمر الدولي الذي احتضنته مدينة سمرقند في أوزباكستان مارس 2020 والذي حمل عنوانه ” الإمام أبو منصور الماتريدي والتعاليم الماتريدية: التاريخ والحاضر”- أهمية قصوى في تحركات المدرسة الأشعرية الماتريدية لإثبات وإقرار أحقيتها حصرا لهذا التعريف، حيث نوقش خلالها سيرة الماتريدي وآثاره العلمية وأهمية تراثه وأتباعه في حل القضايا الملحة في العصر الحالي.
وكان الأزهر الشريف حاضرا بقوة هذه المرة على النقيض من مؤتمر “غورزنى” الذي عقد قبله بأربع سنوات، إذ مثل الحضور الشخصي للدكتور أحمد الطيب ثم تصريحاته القوية على هامش المؤتمر خطوة هامة في هذا السياق وتحرك جاد تجاه هذه الإشكالية، بعد أن أكد خلالها على إنَّه لن يوقِف حمامات الدِّماء التي أُريقَت على مذابح التكفير-حسب وصفه- إلَّا مذهب أهل السنةِ والجماعة، والمعنى به الأشعرية والماتريدية، مشيرا إلى أن قد كُتِبَ الخلودُ لمذهبِ الإمامَيْنِ –الأشعري والماتريدي- بسبب أنَّه لم يكن مذهبًا جديدًا اختَرَعه الماتريدي أو الأشعري، بل مذهبا قرِّر ما عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمة الإسلامية في أشد الحاجة إلى مذهبهما في اللحظة الراهنة.
وبذلك وضع شيخ الأزهر النقاط على الحروف في هذه المسألة بعد أن قدم موالاة صريحة ودعما قويا وإقرارا لا لبس فيه بأن الأشعرية والماتريدية يمثلان مذهب أهل السنة والجماعة.
هبة سلفية لمواجهة الأشعرية والماتريدية
تستنفر الأقلام السلفية فور استشعارها أن ثمة خطرا يلتف حولها خاصة من غرمائها التقليديين من الأزاهرة الأشعريين والماتريديين فضلا عن المتصوفة، ومع تجدد المعركة التي يقودها في الوقت الحاضر عدد من الأكاديميين والباحثين والوعاظ والدعاة المنحدرين من الأزهر الشريف لمحاصرة الفكر السلفي “الوهابي” عززه السياق الراهن الداعم لهذا التحرك من جهة، والرغبة في مواكبة التحولات التي تعايشها مؤسسة الأزهر الشريف تحت قيادة الشيخ الدكتور أحمد الطيب من جهة أخرى .
يأتي الداعية السلفي الشهير الشيخ “مصطفى العدوي” في مقدمة الرموز السلفية التي برزت تصريحاتها وأقوالها المناقضة والمهاجمة حول الأشاعرة في الفترة الأخيرة بشكل كبير، وذلك خلال مقاطعه المرئية المنتشرة على أكثر من منصة رقمية، سواء أكان ذلك في الفضاء الأزرق أو من خلال الـ”Youtube” الذي يشغل الشيخ فيهما حيزا كبيرا.
يذكر العدوي أن الأشاعرة فئة ظهرت في الإسلام تنفي صفات كثيرا من صفات الله -عز وجل- ومنهم من ينفي عددا ويثبت آخر وجمهورهم متفق على أن ليس لله يد، ويضيف العدوى أن الأشاعرة يقولون إنهم أهل السنة والجماعة، ولا يوجد في الكتاب والسنة من يقول بالأشعرية فضلا عن كون الأشاعرة جاءوا متأخرين، والقول الفصل في ذلك “أنهم ليسوا من أهل السنة”
ودائما ما ينعت العدوى الأشاعرة بأسوأ الصفات والتي تصل به إلى حد السب والشتم، على شاكلة (الفئة الضالة، أسافلة الورى والأغبياء) على سبيل المثال لا الحصر، مؤكدا على أنهم كانوا مستترين ومختفين إلى أن ظهروا في الوقت الراهن، وأصبح الآن لهم شوكة في الدولة.
ومن الشيخ العدوي للرمز “الحديثي” -نسبة للاشتغال بعلم الحديث- الأبرز في الساحة السلفية على مدار أكثر من ثلاثة عقود الشيخ “أبو إسحاق الحويني” والذي يصفه أتباعه بتلميذ الشيخ السلفي الراحل “ناصر الدين الألباني” والذي يرى أن الأشعرية ولدت مرتبكة فقهيا وفكريا نظرا للتقلبات والتنقلات التي عايشها المؤسس “الحسن الأشعري”
إذ إن الأشعري وفقا للحويني بدأ معتزليا، ثم بعد ذلك وجد أن الكلابية- وهي فرقة إسلامية من أهل السنة والجماعة ظهرت في النصف الأول من القرن الثالث الهجري على يد عبدالله بن كلاب – أفضل من المعتزلة، وبعد فترة ليست بالقصيرة رجع إلى أهل السنة وتحديداً مذهب الإمام “أحمد بن حنبل” رضي الله عنه، وذلك من خلال ذهابه إلى رأس الحنابلة آنذاك الفقيه “محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري” إلا أن الأخير لم يقبله لأن الأشعري قضى 40 سنة في الاعتزال، ويدلل الحويني بهذه الرواية على حجم الإرباك في الفكر والفقه الأشعريين، ويضيف الحويني أنه لطالما كانت الإشارة للأشاعرة، بأنهم أهل بدعة.
وفي سلسلة من المقالات كتبها القيادي بالدعوة السلفية السكندرية “أحمد حسين أبو مالك” تحت عنوان بـ”حقيقة التلازم بين الأشاعرة والمذهب الشافعي” يذكر “أبومالك” أن الإمام الشافعي كان ينكر ويزجر طريقة الأشاعرة في الأصول شأنه في ذلك شأن أعلام المذهب الشافعي حتى القرن السادس الهجري، وليس ذلك وحسب بل إن الإمام الشافعي قد ذمَّ مذهب المتكلمين وطريقتهم.
ويتساءل الشيخ السلفي بصورة تهكمية مخاطبا الأزاهرة من الأشاعرة والماتريديين: متى نُقِل عن الشافعي موافقة أهل الكلام في غيهم، وأين كلام الأصحاب في كتبهم مِن مثل هذا الهراء حتى يكون هناك تلازم لا ينفك بين الشافعية والأشاعرة قديمًا وحديثًا!
ويلتقط خيط الحديث في ذات الموضوع القيادى السلفي “شريف طه” في مقالة أخرى نشرت على موقع أنا السلفي وأخذت طريقها نحو الانتشار داخل الفضاء الأزرق، عنونت بـ”كيف نتعامل مع المشروع الأشعري المعاصر؟” ليطلق من خلاله تصور مفاده بأن هناك محاولات حثيثة لبعث المشروع الأشعري الصوفي مرة ثانية بعد أن فتر سوقه لعقودٍ طويلةٍ.
ويضيف طه في مقالته إلى أنه لم تعد مبالغات الصوفية وخرافات بعضهم، وسيطرتهم على العامة والخاصة باسم الولاية والكرامات تجد لها سوقًا رائجًا، بعد أن تغيرت ثقافة العصر، ولم تعد العقول تقبل مثل هذا الخطاب الجامد القائم على التقليد والخرافة والفلسفات الكلامية المعقدة، التي لا نفع مِن ورائها.
الأشاعرة في الفضاء الأزرق
يقود معركة الأشعرية في اللحظة الراهنة خارج الإطار المؤسسي عدد من الرموز والدعاة السنة التقليديين الذين يقومون بمدارسة الفقه على المذاهب الأربعة ويتخصص كل منهما في مذهب بعينه وعادة ما يكنون باسم المذهب الذي يدرسونه لطلبتهم ومريديهم، وعلى رأس هؤلاء يأتي الشيخ أبو حمزة الشافعي وهو أحد علماء الأزهر الشريف العاملين في المذهب الشافعي وأحد أعلامه.
يذكر الشافعي في إحدى مقولاته على صفحته الخاصة في موقع “فيس بوك” أن الوهابية يسعون منذ سنوات طويلة وبشكل حثيث نحو تخريب الديانة والعقول حسب وصفه، ويقدم الشافعي توصيفا مجتمعيا لانعكاسات الفكر الوهابي على الأسرة والمجتمع في مصر، وفي ذلك يقول: انظر لبيوت الوهابية وحينها ستعرف كم التفسخ الأسري الذي يعيشونه باسم الدين، وهو منهم براء، اذهب لعيادة طبيب نفساني ستجد أعدادا لا يستهان بها من ذوي اللحى وذوات النقاب، والسبب في أزمتهم ما يعتقدون أنه “دين” جراء عشرات السنين من خطاب مشوه مغلوط حتى أفسدوا على العوام حيواتهم، وفرقوا بين الرجل وزوجه وأولاده وأبيه وأمه “وفق قوله”
ويشير الشيخ الشافعي إلى أن من أبشع جرائم الوهابية في حق الديانة -أي الدين الإسلامي- أمران:
الأول: جعلهم مذاهب العلماء المعتبرة في مقابلة الكتاب والسنة، موهمين الناس أن المذاهب الأربعة منها ما هو خارج عن الشرع، فترى عاميا يتجاسر على التهوين من كلام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ لأنه خالف الأدلة التي سمعها من الشيخ أبي الدجاج -الفيومي- أو من الشيخ ابن طعمية -حسب وصفه-، وهم بذلك عملوا على تفريق الأمة، وتشتيت شملها، وتهوين شأن علمائها.
الأمر الثاني: أنهم -بسبب الوهابية الدواعش- أساؤوا لمفهوم الجهاد في سبيل الله، فصارت الكلمة مستبشعة مستهجنة عند عموم الناس؛ إذ صارت ترادف قتل الأبرياء، وذبح المسلمين، فترى الذابح يكبر الله، والمذبوح ينطق الشهادتين!
ثم يأتي الدكتور “أحمد نبوي” الأزهري عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر الشريف، ليؤكد في صفحته بالفضاء الأزرق على فكرة تمايز الفكر الأشعري الماتريدي عن غيره من التيارات الفكرية الأخرى، ومشددا في الوقت ذاته على كونه السبيل نحو إطفاء نيران الحرائق والفتن التي أشعلتها التيارات والجماعات الإسلامية على مدى نصف قرن فائت، وحماية الشباب والأجيال القادمة من الوقوع في مهاوي وبراثن التبديع والتضليل والتكفير.
وتحت عنوان “ما الذي نريده من إخواننا السلفيين؟” كتب النبوي إسماعيل رسالة جاء فيها: لا نريد منهم مطلقا أن يتركوا ما يعتقدون إلى ما نعتقد، ولا نريد منهم تقليدنا واتباعنا في المسائل الخلافية!! فلا نريدهم أن يكونوا أشاعرة ولا ماتريدية .. بل كل ما نريده الكفَّ عن تبديع وتضليل عقيدة الأزهر والتي هي عقيدة الأشاعرة والتي عقيدة جماهير علماء الأمة سلفا وخلفا! وأن يعلموا أن تبديع كبار علماء الأمة هو عين الضلال والابتداع!
ثم يأتي الشيخ احمد الدمنهورى أحد علماء الأزهر الشريف ليعزف على اللحن ذاته، ويؤكد على أن السلفيين أفسدوا على الناس الذوق بمعانيه العام والخاص، العام الذي هو غاية الأدب واللياقة في التعامل، مع العلماء والعوام والخاص الذي هو رحمة وشفقة ورقة تورث صاحبها معاني لا يمكنه التعبير عنها حتى يصير له مع الله سر وحال.
أبعاد وملامح الخلاف بين الأشاعرة الماتريدية والسلفيين
يمكن القول إن عودة هذه القضية الخلافية إلى الواجهة مرة أخرى وتجدد المعركة الفكرية بين الأشاعرة الماتريدية والسلفيين في هذا التوقيت، يعود لعدة أسباب نجملها على النحو التالي:
أولا: مثّل صعود التنظيمات الجهادية في السنوات الأخيرة انطلاقا من إرث السلفية “الوهابية” وأدبيات الشيخ محمد بن عبدالوهاب والتسلق على الإرث الفكري للإمام “أحمد بن تيمية” استشعارا بحجم الخطر الذي باتت تمثله السلفية في تيارها العام كرديف للحالة الجهادية ما نتج عنه نفور كبير داخل أوساط البيئة المجتمعية العربية والإسلامية بشكل عام ودفعت في ذات الوقت نحو البحث عن التصدي لأصول السلفية –المعاصرة- واقتلاعها من جذورها للحؤول دون تمدده، ومن هنا كانت الحاجة لإبراز دور الإسلام المؤسسي التقليدي المتمذهب في إطار القولبة الأشعرية الماتريدية التي تقف منها موقف الرافض والمنكر في آن معا.
ثانياً: خضعت المؤسسة الدينية الأزهرية منذ منتصف الستينيات إلى قبضة السلطة السياسية الناصرية والتي قصقصت أجنحتها وأضعفت أثرها الفكري والعقدي ما نتج عنه ضعف تأثير انتشار الفكر الأشعري والماتريدي في البيئة المجتمعية المصرية واقتصرت على الجانب العلمي النخبوي وحسب ومع سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أسس لها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، ومع هجرة العقول والرموز السلفية بأموالها من الخليج إلى الداخل المصري انتشرت وتمددت، إذ كانت البيئة الدينية المصرية مؤهلة بشكل كبير لاستقبال السلفية بعد تراجع الفكر الأزهري الأشعري الماتريدي وانحدار التمظهرات الصوفية الطرقية بشكل لافت، فيما عززه الحضور القوى للتيارات الإسلامية السلفية والحركية التي تأثرت في جزء كبير منها بالسلفية الخليجية آنذاك ورموزها من أمثال الشيخ عبدالعزيز بن باز ومحمد صالح العثيمين وناصر الدين الألباني وغيرهم.
ثالثاَ: أسهم وصول الدكتور أحمد الطيب إلى مشيخة الأزهر في حدوث تحولات هامة أثرت إيجابا على واقع مؤسسة الأزهر الشريف وانتقلت به إلى مساحة لم تصل إليها منذ عقود بعد أن نجح في التحرر من قيود السلطة بشكل غير مباشر، ما أتاح لها حضورا قويا وطاغيا داخل مصر وخارجها، وحمل الشيخ الطيب معه رؤيته التي تمثل عمق الفكر الأزهري الأشعري الماتريدي والتبشير به وتقديمه للأمة الإسلامية باعتباره الترياق لآلام وعلل الأمة الإسلامية، ما ساهم في عودة تسيد الأشعرية الماتريدية مرة أخرى المنابر العلمية والوعظية في مصر وخارجها .
رابعاً: دفع الربيع العربي 2011م بالتيار السلفي إلى صدارة المشهد السياسي والمجتمعي في المنطقة، وما لبث أن تراجع بفعل المتغيرات الحادثة مع ارتداداته التي بدأت مع 2013 وتحديدا في الداخل المصري بعد فشل نموذج حكم الإخوان المسلمين، وقدم خلالها النموذج السلفي تجربة في المجالين الدعوي والسياسي أضرت كثيرا بالحالة الدينية المصرية وخاصة في العمق المجتمعي، الذي بات ينظر لهذا التيار بعين الريبة والشك الذي دفعه في جزء كبير منه لرفض أطروحاته الدينية والفقهية على حد سواء.
خامسا: يمكن النظر إلى المعركة القديمة المتجددة هذه الأيام على كونها ومحاولة طرح البديل وتكريس التواجد على أكثر من صعيد من قبل التيار الأزهري الأشعري الماتريدي ومحاولة لإعادة تموضع من قبل التيار السلفي المصري انطلاقة من هذه المبارزة الفكرية الراهنة بينهما، فيما يسعى التيار الأزهرى من الاستفادة من السياق القائم، سواء أكان من الناحية السياسية التي لا ترى في التمدد الفكري الأزهري خطرا عليها بل يصب في مصلحتها وهى تخوض معركتها مع الحركات الإسلامية السياسية أو من الناحية المجتمعية التي باتت تبحث عما يروي ظمأها الديني بعيدا عن الأفكار السلفية أو نظرائها من الإسلام السياسي.
وهو أمر لم تعد الحالة المصرية وحدها تعايشه بل بات الحديث عن استنهاض للإسلام السني التقليدي المؤسسي وغيره في أكثر من جغرافية عربية وإسلامية بعد تراجع الجماعات والتنظيمات الإسلامية في المنطقتين العربية والإسلامية لأسباب داخلية تتعلق بحالات انقساماتها وانشطاراتها الأخيرة من جهة والواقع الذي فرضته ارتدادات الربيع العربي الذي لم يعد يقبل بوجودها من جهة أخرى.
وأخيرا يمكن استشراف صعود مرتقب للتيار الأزهري الأشعري الماتريدى مستفيدا من السياق القائم المحفز لظهوره وتواجده وانتشاره في مقابل تراجع للتيار السلفي الوهابي مع التأكيد على أن ما يروج له دعاة السلفية من أن التمدد والتيار الأزهري وتصدره يتأتى بدعم مباشر من السلطة السياسية بعيدا كل البعد عن الصحة وذلك لكون الدعاة الأزاهرة المتصدرين للمشهد الديني ومن خلفهم مؤسسة الأزهر وشيخها تختلف في مساحات القرب والبعد من السلطة عن نظائرها من المؤسسات الدينية الأخرى كوزارة الأوقاف على سبيل المثال ودائما ما تنظر السلطة السياسية على أن الأزهر مقصر في لعب دور جاد في مكافحة قوى الإسلام السياسي وتكفير مخالفيه.
فيما يتمثل السبب الرئيس في فرضية تراجع التيار السلفي ليس فقط لتراجع تأثيره مجتمعيا وإنما لظهور نخبة من شباب الأزاهرة الأشعرية والماتريدية على قدر كبير من التقدم العلمي والقدرة العالية في المناظرات الفكرية وإتقان اللغات الأجنبية ساهم ابتعادهم عن الانشغال بالعمل السياسي ومزالقه منذ 2011 وحتى اللحظة وانكبابهم على العلم الشرعي والمدارسة المنهجية في الوصول إلى هذه المستويات فيما بقي التيار السلفي في مكانه لم يبرحه بل بات الحديث عن أفوله وتراجعه.