الحقيقة الأولى في أزمة مسلمي أوربا أن المنطقتين العربية والأوربية بينهما قدر استثنائي من التشابك على كافة المستويات وعلى مدى التاريخ، تشابك نجده بالدرجة نفسها في قضية الإرهاب المرتكز على الأصولية الإسلامية (لا يستعمل المقال المصطلح الغامض: الإسلاموية). من أمثلة هذا التفاعل تأثُّر طرح سيد قطب بالنزعة الرومانسية الغربية، ثم شمول تأثيره على مسلمي ضفتي المتوسط. وحتى أزمة اختلاف قيم الإسلام الأصولي عن قيم الحداثة نجدها أيضا على ضفتي المتوسط، وإن كانت تسمى في العالم العربي بأسماء أخرى مثل أزمة الأصالة والمعاصرة أو الوافد والموروث. يضاف إلى ذلك اندراج هذه الأزمة ضمن شروط تفاعل أوسع بين المنطقتين، على رأسها أن جنوب المتوسط منطقة طاردة للسكان لأسباب مختلفة، وأن من هاجروا منها إلى أوربا حملوا معهم تصورات عن الدولة وأدوارها مختلفة عن نُظُم الدول الغربية، مثلاً من حيث أن الأخيرة ليست دولاً أبوية، وتقوم على الفردية.
لا شك أن المواطنين الأوربيين المسلمين يواجهون مشكلات معيشية واقعية، اقتصادية واجتماعية، وشعور بدرجات من التمييز ضدهم، ومن “الغربة” أو مشكلة اختلاف القيم بين الحيزين العام والخاص. ومع ذلك، فإن هذه الظاهرة لا تُفضي دائما ولا بالضرورة إلى أزمة كتلك التي نشهدها. شهد الغرب تدفق موجات هجرة من ثقافات مختلفة، عانت بالطبع من هذا النوع من المشكلات، بل شهد أيضًا هجرات سابقة من جنوب المتوسط، بغير أن يؤدي ذلك إلى ظاهرة إرهاب ممتدة قائمة على مبدأ الهوية. من ناحية أخرى، هذه المشكلات ليست أوربية ولا غربية خالصة؛ فقد شهدتها مصر مثلا حين تدفق المهاجرون من الريف إلى المدن الكبيرة منذ منتصف الستينيات وحتى أوائل القرن الحالي، مصحوبة بعجز الدولة عن تطوير مدن الاستقبال لتمثُّلهم وإدماجهم.
الاستنتاج المنطقي هو أن انفجار الإرهاب ناتج تحديدًا عن استثمار تيار الصحوة الإسلامية لهذه الأزمات على ضفتي المتوسط، وسعيها إلى إقامة ما أسماه ماكرون عن حق “الانفصالية الإسلامية”، التي يمكن اعتبارها مقابِلاً فرنسيًّا لكلمة “المفاصلة” التي نجدها في كتابات سيد قطب والأصوليين الإسلاميين. مثلت هذه “الجيتوهات” السَكَنية أو النفسية المصنوعة أرضا خصبة لعمل التنظيمات الجهادية المعولمة مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية. هذا الاستثمار للمشكلات نتج بدوره، في الحالتين أيضًا، عن انشقاق طوائف من نخبة العالم الإسلامي الحديثة في تعليمها وثقافتها عن خطاب الحداثة الوطني وصناعتها لخطاب تيار الصحوة الإسلامية الأصولي.
سعى هذا التيار باستمرار إلى توسيع الفجوة وتأكيد الفوارق وتعميقها بين أعضائه والمتأثرين به من المسلمين، وبين بقية المجتمع، وتعميق رفض قيم الحضارة الحديثة عموما، سواء في جنوب المتوسط أو شماله. هذه النزعة الانفصالية (القائمة على مبدأ المفاصلة) تشكل القاعدة أو البيئة التي تنطلق منها العمليات الإرهابية، وتجد فيها ظهيرها الداعم، سواء بالمساعدة أو بالتأييد والدفاع. الدولة الفرنسية على حق في الاهتمام بهذه القضية، وكذلك الاهتمام بالحد من تأثير القوى الإقليمية (مثل قطر وتركيا)، والمؤسسات والحركات الدينية في مصر والسعودية وتركيا وغيرها، التي موّلت ودعمت هذا الخطاب وأقامت له مرتكزات في أوربا، عبارة عن شبكة من المساجد والجمعيات وغيرها.
جوهر القضية إذًا هو أيديولوجية الصحوة، التي يمكن وصفها من منظور استراتيجي بأنها أيديولوجية مجتمع مضاد للدولة الوطنية الحديثة (لكن ليس للتكنولوجيا الحديثة). هذا هو الموضع المركزي للنزاع، الذي تستثمر فيه قوى مختلفة، محلية وإقليمية ومعولمة، لأهداف متباينة تماما. لكن أية قوة من هذه القوى لا تستطيع أن تساهم في الصراع بغير أن تتخذ موقفا من هذا الجوهر، بالدفاع عن الانفصالية أو المفاصلة، أو مواجهتها وهدمها. أما غير ذلك من الادعاءات والقضايا فتكتيكات يُدار بها الصراع حول هذا المحور ومحاولة إخفائه أو ترجمته إلى قضايا ومقولات أخرى، تتبلور حول طرحَين:
الطرح الأول هو طرح الخطاب الأصولي وداعميه بشأن ثأر أو دين تاريخي ناجم عن الاستعمار الأوربي السابق وغيره من القضايا التاريخية، لأن طرح هذه القضايا في ظروف الأزمة ليس سوى صيغة لتمويه مركز النزاع، وهو الموقف من فجوة القيم والثقة التي خلقتها تنظيمات الصحوة وداعميها بين المهاجرين ودولة الاستقبال ضد مبدأ الدولة الحديثة. الفكرة الجامعة والروح المحركة للصحوة على ضفتي المتوسط هي الخلافة، لا “الاستقلال” ولا التحرر.
الطرح الثاني هو المنظور الحقوقي أو الليبرالي الجديد، ليبرالية حقوق الأقليات التي ظهرت في العقود الأخيرة في الغرب. يقوم هذا الطرح على تناقض جوهري بين الدفاع عن حرية الثقافات الفرعية، مع تجاهل قيام هذه الثقافة على مبادئ ترفض حرية أفرادها من الأساس. الأهم أنه يعتمد ضمنيا على فكرة عنصرية محورها التسامح مع تلك الثقافات على علاتها، لأنها عاجزة عن تبني قيم الحرية. هذا التصور لا يعني فحسب تقبُّل فكرة متدنية عن ثقافة مسلمي أوربا، بل الدفاع عنها كما لو كانت جوهرا ثابتا، بل وتثبيت هذه القيم وتجميدها، تأصيلها وتعميقها، بوصفها “حريتها”، التي هي “ماهيتها” أيضا. الأخطر أن هذه الفكرة تهدد في حالة تمتعها بمساندة سياسية دولية كافية بتدمير الدول الوطنية الحديثة سواء في جنوب أو في شمال المتوسط، لأن الدولة المركزية إذا قبلت هذه الرؤية ستنحدر آجلا أو عاجلا إلى مجرد إدارة لمجموعة من الكانتونات أو الجيتوهات الثقافية واجبة الاحترام.
أما عن المستقبل، فالأزمة مرشحة للاستمرار، لأنه من الناحية الواقعية، نجحت قوى الصحوة الإسلامية وداعميها في إخفاء الجوانب الإيجابية من طرح ماكرون (وفحواه إنقاذ قيم الجمهورية ومسلمي فرنسا معا من الشبكة الداعمة للأصولية الإسلامية)، فقد استعملت خطابًا مضادًا يقوم على مزيج من الحجج والاعتذاريات وقضايا المظلومية، بل والكذب الصريح وإخفاء الحقائق غير المناسبة وتحوير التصريحات وتزوير المواقف، ونجحت بواسطته في بناء حشد مضاد. فإذا تواصل هذا النجاح وعجزت الكتلة الكبيرة غير الأصولية من مسلمي أوربا عن انتزاع نفسها من هيمنة الخطاب الأصولي، ستتغلب على الأرجح الروح العنصرية على قطاعات أوسع وأوسع من الأوربيين، الأمر الذي سيعزز مزيدًا من التقوقع أو الانفصالية أو المفاصلة القطبية عند قطاعات متزايدة من مسلمي أوربا، في دائرة جهنمية نأمل ألا تحدث.
وهكذا، فإن التخفيف من هذه الأزمة والتمهيد لحلها رهن بتكاتف القوى المدافعة عن مبدأ الدولة الوطنية، سواء كانت قوى أهلية أو الدول نفسها، على ضفتي المتوسط، سواء لدى الأوربيين أو المسلمين. هذا يعني:
أولاً، تأييد كل إجراء يرفع يد النخب الأصولية الإسلامية المنشقة عن المؤسسات الإسلامية على ضفتي المتوسط، وتمكين الخطابات المضادة للخطاب الأصولي من التعبير الحر والعمل الجماعي في الأوساط المسلمة (لا الأوساط الأصولية)، بما يؤدي إلى إحداث فصل واقعي ومؤسسي واضح بين المسلمين والنخب الأصولية أمام المجتمعات الأوربية بكافة مكوناتها.
ثانيًا، اتباع سياسات إدماج إيجابية، تساعد على تحسين أحوال المهاجرين، بطريقة مباشرة وفردية، وليس بمنح الأموال لجهات تدعي تمثيلهم، أي معاملتهم كمواطنين أوربيين أفراد.
ثالثًا مقاومة ردود الفعل الأوربية العنيفة التي تنادي بها التيارات الأكثر عنصرية.
رابعًا وليس أخيرًا، استبعاد البحث عن عناصر متعاونة من الطرف الأصولي، حتى لو كان “سلميًّا”، يكتفي بالقهر المجتمعي للمسلمين ومن تطوله يداه من غيرهم، بغير أن يتحدى الدولة؛ لأنه يعيش بكافة تكويناته على الأزمة ويزدهر بتعميقها، وبالنسبة له لا تعني أية كوارث تحدث لمسلمي أوربا إلا فرصة جديدة له لتعزيز خطاب المظلومية الذي يستثمره في بناء جماعاته.
ليست الأزمة في المقام الأول أزمة تنافر بين “القيم” الإسلامية والغربية، كما أنها ليست أزمة نابعة من المجتمعات المضيفة ولا هي عجز الجاليات الإسلامية عن الاندماج. فعن أي إسلام نتكلم؟ و أي مجتمع مضيف نقصد؟ و عن أي جاليات مسلمة نتحدث؟ ثانيا كل ذلك جزء من الأعراض و ليس بيت الداء. بيت الداء هو الإسلاموية. مسلمو الغرب تعدد مرجعياتهم وأشكال التدين الرئيسة فيها. ويمكن الإشارة إلى ثلاث: الإصلاحية، الإسلاموية، الليبرالية الإنسانوية. وكل شكل من أشكال التدين تلك يقدم أنموذجًا نظريًا، فلسفيًا، سياسيًا، دينيًا وأخلاقيًا مختلفًا. وحال التوتر بين هذه التيارات الثلاثة التي تعيش عليها وتغذيها الإسلاموية قد ساهم بلا جدال في توليد الكثير من التحديات.
فهناك ما أسميه “متلازمة الإسلاموية”، أي مجموعة من العلامات والأعراض والظواهر المرتبطة مع بعضها تلازم وتنتج عن أي تواجد لهم في الفضاء العام وتتنافى مع القيم الأساسية للمواطنة و العيش المشترك. وتتمثل أعراض هذه المتلازمة في١. احتكار الإسلاميين للحقيقة والدين؛ حيث تقدم الإسلاموية تفسيرا واحدا للدّين وللتاريخ الإسلامي على أنه من الحقائق الثابتة، بل و تسعى لفرض هذا التفسير – دون غيره – بالقوة على المجتمع، والعزلة الشعورية عن المجتمع؛ وسيادة شعار “أينما تكون مصلحة الجماعة فثم وجه الله” في ممارستهم السياسية، وغياب مفهوم المواطنة وسيادة فكرة الولاء للجماعة العابرة لحدود الدولة الوطنية، فضلاً عن سيادة مبدأ التكفير المبرر للعنف في نهجها السياسي للوصول للحكم، وغير ذلك من أعراض. و بتلك المتلازمة أعادت الإسلاموية تشكيل سؤال اندماج المسلمين في المجتمعات الغربية وهل صدرت أزماتها الأصلية إلى المجتمعات الغربية التي فيها قطاعات عريضة ما زالت تخلط بين الإسلام والإسلاموية.
يجعل هدا “الإسلاموية” مسألة ملحة بالنسبة لقضية الوجود الإسلامي في الغرب. وعلى الرغم من أن التيارات الإسلامية ليست هي التيار الذي يمثل غالبية المسلمين هنا في كندا ولكن هو التيار الأكثر تنظيمًا والأكثر ظهورًا في في وسائل الإعلام الغربية وفي النقاشات حول المسلمين. هناك حكومات غربية تؤمن أن الإخوان يستهدفون من ذلك فقط أولاً و بالطبع تحقيق لمصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ثانياً لتعمل كجماعة ضغط لصالح التنظيم الدولي وأهدافه الجيوسياسية. ثالثاً شيطنة الأنظمة العربية. ورابعاً تجييش مواطني الدول العربية ضد دولهم الوطنية. وهم لا يرون في ذلك خطرا عليهم بل العكس يستخدمونها في بعض الأحيان كورقة ضغط علي حكومات العالم العربي و الإسلامي.
وهناك حكومات أخري كالحكومة الفرنسية الحالية تؤمن بأن خطر الإسلاموية هو خطر علي الهوية الغربية لأنها نظرة للعالم تتعارض بالكلية مع المعايير الدنيا للتعايش معا بسلام. عامل أخر يجب وضعه في الحسبان وهو العامل الديموغرافي. فعلى الرغم من أن بعض الجهات الحكومية في كندا علي سبيل المثال تدرك خطورة الإسلاموية ولكن في بلد يمثل فيه المسلمون نحو (3.6%) من مجموع السكان وفي ظل وجود مراقبة حثيثة للمساجد للتعامل الفوري مع أي خطاب يحض على العنف فأغلبية متخذي القرار لا يرى خطورة ملحة وآنية.
أما عن قدرة الدول الغربية على السيطرة على ظاهرة تفشـي العنف الذي تمارسه خلايا نائمة أو ذئاب منفردة، فهو أمر يتوقف على رؤية الباحثين والمفكرين الغربيين لهذا العنف. قسم وازن من الباحثين و قادة الرأي في تلك الدول يبرر ويبيض، بوعي أو دون وعي، العنف الذي تمارسه الإسلاموية، سواء بنفي تلك التهمة عنها بالمطلق دون تحليل معمق، أو بتجاهل يشرعن وينظر للعنف باسم الدين. يستبعد هؤلاء هذا الجانب من قائمة أدواتهم التحليلية، مكتفين بالسعي لفهم أسبابه الاجتماعية السياسية الاقتصادية ، أو بتقديم العنف التي تمارسه الحركات الإسلامية كمجرد انحراف عن نهجها السلمي، أو باعتباره رد فعل طبيعي ضد الديكتاتورية أو العولمة أو الإمبريالية الغربية.
وأتصور أن هذا الفهم هو بمثابة “تبييض” للعنف نتيجة للاكتفاء بالتفسيرات الاقتصادية (مثل الفقر والبطالة) أو السياسية (مثل الديكتاتورية) فقط، لأنه يتجاهل عوامل أخرى لا تقل أهمية – إن لم تزد – مثل الحاجة الي دراسة عقلية التطرف التي تكشفها النصوص المؤسسة لجماعات العنف باسم الدين، وهو قصور عادة ما يؤدي إلى فهم مبتسر للظاهرة في أفضل الأحوال وينتهي إلى نتائج جزئية ومتحيزة تحدمن قدرة تلك الدول على السيطرة علي ظاهرة تفـشـي العنف باسم الدين.
بالطبع هناك جانب جيوسياسـي في القضية. لقد تبلورت في السنوات القليلة الماضية خريطة التحالفات الإقليمية للسنوات القادمة؛ الرباعية العربية “مصر والسعودية الإمارات العربية و البحرين” في مقابل الرباعية الإسلاموية “تركيا و قطر و إيران و جماعة الإخوان”. بمعني أخر “الإسلام غير الإسلاموي” في مقابل “الإسلاموية بشقيها السني و الشيعي”، الدولة الوطنية في مقابل الفكر الميلشياوي والجماعاتي العابر لحدود الدولة الوطنية، البناء مقابل الهدم، الاستقلال مقابل التبعية.
يمكن القول إن هذا الصراع انتقل إلى بعض الدول الغربية مثل فرنسا. كل ما يطلبه المسلمون من غير الإسلامويين هي أن تحترم الدول الإٌسلاموية احترام علاقات حسن الجوار والقوانين الدولية المنظمة للعلاقات الدولية، ورفع يدها عن دعم الميليشيات و الجماعات من ذي الولاءات غير الوطنية، الإقرار باحترام حدود الدولة الوطنية العربية وعدم تصدير ودعم الأيديولوجيات التي لا تحترم مفهوم الدولة الوطنية المواطنية. علي المستوي الدولي يجب فهم التوتر الفرنسـي التركي في محيط البحر المتوسط و المواقف اللينة تجاه تركيا من دول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة وروسيا في هذا الإطار.
في وجهة نظري لن يظل المستقبل مترددًا بين حالتي “التعايش” و”التنافر” فسيناريو “موت الإسلاموية والاستقرار على حداثة من داخل الإسلام هو السيناريو الأقرب للحدوث. أعتقد أن ما أسميه الإسلام الإنسانوي سينتصر في صراعه مع الإسلاموية. وقد سبق لي وأكدت في كتابي عن “الإسلام السياسـي والربيع العربي” أن الإسلاموية قد فقدت حواضنها “في نطاق الدولة الوطنية والمنطقة العربية والعالم”، والتي كانت تدعم الإخوان والإسلاميين بشكل كبير قبل عام ٢٠١١.
تمثلت ردة فعل الإخوان على ذلك الفقد في صورتين: الصورة الأولى هي العودة التامة إلى خطابهم المؤسس بما يتضمنه من تكفير الآخر والتنظير والتبشير بالخلافة والشريعة والشرعية الدينية للحكم السياسي واحتكار التحدث باسم الدين…إلخ. وهذا ما أسميه “rétro-islamisme” والذي يجسد مرحلة تورط الإخوان بشكل غير مسبوق في التطرف والعنف “حالة مصر” أما الصورة الثانية فتمثلت في التخلي بشكل كلي عن كل المبادئ المؤسسة للإسلاموية وهو ما يعد تفريغًا لها عن كل ما كان يميزها عن التيارات الأخرى العلمانية أو الإنسانوية …إلخ
وهناك حركة تبدو لي منظمة في بعض الدول العربية كمصر و الإمارات وفي أوساط مسلمي الغرب تهدف لترسيخ الإسلام غير الإسلاموي في النفوس والمجتمعات العربية. أهم معالم تلك الحركة هي تعليم الفكر النقدي القادر الوحيد على مقاومة كل أشكال الاستلاب والاغتراب و الاعتقاد بلا انتقاد، والقادر الوحيد على تنمية التحيز إلى قيم التسامح والتفاهم والسلم والعيش المشترك.
الأزمة الحالية لها أبعاد مركبة وجزْء منها مرتبط بتنافر القيم؛ خاصة فيما يتعلق بالوافدين الجدد من موجات اللجوء الأخيرة، وليس فقط الأجيال السابقة من المهاجرين الذين حققوا درجة من الاندماج في المجتمعات الغربية. (اختلاف القيم يسبب تنافر ويعوق الاندماج) ومعظم من يأتي حديثًا يكون محملاً بصور نمطية عن “الانحطاط الغربي” والانحلال الأخلاقي”، وكذلك وجود صورة متعالية عن الذات باعتبارها أكثر رقًيا من الآخر الغربي المنحل. وهناك قطاع من المسلمين المقيمين لديهم مشكلة في قضية “الولاء” للدولة المضيفة أم دولة الأصل. وأنا أتحدث تحديدا عن المسلمين الأتراك باعتبارهم الأغلبية بين الجالية الإسلامية في ألمانيا (يشكلون حوالي 75% من تعداد المسلمين) ومعظم هؤلاء منتمون إلى حركات ومساجد تحمل خطابًا معاديًا “للدستور” والعلمانية في سياقها الألماني. كذلك هناك شعور لدى قطاع من المسلمين بالظلم بسب وضعية العالم الإسلامي وأزماته المستمرة ودور الغرب فيها، سواء كنا نتحدث عن فلسطين أو سوريا أو حتى أفغانستان. من ناحية أخرى، هناك إخفاق من قبل الدولة الفرنسية أو الألمانية بدرجة أقل في التعاطي مع قضية الإدماج، وهو أخفاق ناتج عن سياسات تدفع كثير من المسلمين إلى التقوقع على الذات أو الانضواء تحت حركات تدعم هذه الروح الانعزالية. (عدم نجاح المحاولات القائمة في منح الشعور بالمساواة لدى المسلمين مع بقية الشعب الألماني، سواء في المدارس أم أماكن العمل، واستمرار القضايا الإشكالية للحجاب والنقاب وغيرها التي تعطي المرأة المسلمة شعورا برفض المجتمع لها ذلك.).
هناك وجود للحركات الإسلاموية في بلدان مثل ألمانيا وفرنسا. هذه الحركات تسيطر على معظم المساجد والمراكز الدينية، ومن الصعب أن نجد مركزًا إسلاميّا بدون توجه أيديولوجي معين سواء كان وهابيًّا سلفيّا أم إخوانيًّا أو ربما غير ذلك. وكثيرًا ما تنجح هذه الحركات في استقطاب الشباب غير القادرين على الاندماج في المجتمع الألماني ودفعهم للانخراط في أنشطة قد تبدو بسيطة وبلا أهداف أيديولوجية في البداية إلا أنه مع زيادة الانخراط تتضح بشكل أكبر أهداف هذه الجماعات. وبالطبع هناك مجموعات تتبنـي خطابا متطرفًا واضحًا، وقد تكون نسبتها صغيرة قياسا على حجم الجالية الإسلامية، ولكن أثرها بارز وصوتها عالٍ لو أدركنا أن بألمانيا حوالي 2800 مسجد. إلا أنه دائمًا ما يجري التركيز عليها خاصة من قبل الإعلام واليمين المتطرف الذي يحذر من “مخاطر الوجود الإسلامي”. هذه الجماعات تدعو إلى الانعزالية بمعنـى صياغة الحياة اليومية داخل الجالية الإسلامية والجماعة الضيقة، وهو أمر أيسر وأسهل من خيار الاندماج في المجتمع الأكبر بسبب عوائق اللغة والقيم.
بالطبع هناك ثغرات في تعامل الدولة في ألمانيا مع مثل هذه الحركات، ففي أحيان نجدها تمول جماعات تحمل خطابًا متطرفًا ويشع على عدم الاندماج، مثل جمعية “ديتيب” التي توظف الخطباء ورجال الدين ذوي الأصول التركية والتـي تمولها وزارة الأوقاف التركية مباشرة “ديانت” وفي أحيان أخرى يتم التضييق على بعض الجماعات الأخرى. وبالتالي هناك حالة من التخبط في التعامل مع هذا الملف. وفي أحيان أخرى، تبسط الدول مثل ألمانيا وبعض أجهزتها من مخاطر هذه الجماعات. كما أن حماية الدستور لحرية التعبير تعوق قدرة الدولة أحيانا على التدخل لمكافحة الفكر المتطرف. بالطبع هناك تشديد أكثر في الحالة الفرنسية من ناحية الإجراءات الأمنية، التـي تضمنت مؤخرًا التدقيق في حالات الدخول عبر أراضـي الاتحاد الأوروبي، واتجاه فرنسا مؤخرًا لمطالبة أئمة المساجد وزعماء الطائفة الإسلامية بالتوقيع على ميثاق يحترم حرية التعبير وقيم العلمانية الفرنسية، والتعهد بتوقيع عقوبات على المخالفين.
بالطبع تؤثر التعقيدات الجيوسياسية على قضية الوجود الإسلامي في أوروبا، ومن المؤكد أن دولاً مثل تركيا وقطر تقدم تمويلات مباشرة لبعض الجماعات والمراكز الإسلامية ذات الخطاب المتطرف، وهو دور كانت تقوم به دول أخرى مثل السعودية عبر دعم سخي للمساجد السلفية الوهابية. إلا أن الأخطر من هذا هو الدعم الإعلامي المقدم من المنصات الإعلامية التابعة لهذه البلدان والتـي تعلي من ثقافة العزلة والحط من القيم الغربية. إلا أن العلاقات السياسية مع تلك البلدان معقدة، فقد تختلف ألمانيا مع تركيا حول هذه القضية، إلا أنها ترى تركيا ضرورية للإبقاء على حلف الناتو فضلاً عن أهميتها الاقتصادية وقدرتها على التأثير في ملفات مثل اللجوء والهجرة.
لا شك أن هناك أهمية للتعامل الأمنـي مع قضايا العنف والإرهاب. إلا أن الأهم هو بحث القضايا التـي تدفع بعض المسلمين نحو العزلة، وأهمها ذلك الشعور بعدم المساواة والتهميش فيما يتعلم بالتعليم أو التوظيف أو الرعاية خاصة ما يمس المرأة المسلمة. وعلى الدول الغربية أن تتأكد من عدم تحول أماكن سكن المسلمين إلى غيتوهات مع محاولة تحسين وضعية الأحياء الفقيرة التـي يقطنون معظمها. وعندم يشعر الشباب المسلم بالمساواة القانونية في الحقوق والحريات والواجبات سيكون هذا بداية الاندماج الحقيقي.
الأزمة الحالية ذات شقين: الأول هو تبني قطاع من مسلمي اوروبا للفكر المتطرف الديني والثاني هو رغبة قطاعات من مسلمي أوروبا في الحفاظ على هويتهم الدينية من خلال أنشطتهم التعليمية والثقافية وأحيانا السياسية. لا تتعلق الأزمة الأولى، ازمة التطرف، بالتطرف الإسلامي فقط؛ فهناك أيضا تطرف اليمين المتشدد، وكلا التيارين يغذي أحدهما الاخر. وتتطلب مواجهة كلا التيارين جهودًا من مؤسسات الدولة، وكذلك المجتمع المدني بهدف صياغة سياسات لمواجهة التطرف. يجب التأكيد في هذا الشأن أن المنخرطين في تنظيمات دينية متطرفة هي أقلية صغيرة. ففي فرنسا على سبيل المثال، الغالبية الساحقة من مسلمي فرنسا لا علاقة لهم بتلك الأفكار والتنظيمات بل ويرفضونها.
أما الأزمة الثانية، فتتعلق بسعي مسلمي أوروبا الحفاظ على هويتهم الدينية من خلال حياتهم اليومية في أوروبا. والأزمة هنا بالتحديد، تخص فرنسا التي أعادت تعريف ” علمانيتها” خلال العقود الاخيرة لتتحول من الفصل بين الدولة والمجال الديني، إلى انخراط الدولة بشكل أحيانًا يبدو “فجًّا” من أجل إنهاء أي وجود ديني داخل المجال العام. لا تتبع دول اوربية أخرى مثل ألمانيا والمملكة المتحدة ذات النهج العلماني “الغاضب”، ولا هو كذلك الحال في دولة غربية اخرى مثل الولايات المتحدة، والتي تقدم نموذجًا مغايرًا للنموذج للفرنسي قائمًا على القبول بالتنوع الثقافي والديني داخل المجال العام مع بقاء الدولة على مسافة واحدة من كل الجماعات الدينية.
من الضروري الفصل بين الأزمتين. إحدى مشكلات التوجه الفرنسي الأخير هو أنه يحاول أن يدمج كلا المشكلتين على أساس أنهما وجهان لعملة واحدة. وهذا، في رأيي، توجه خطير يتبنى دعاية اليمين المتطرف والتـي تقوم على أن المشكلة تكمن في الإسلام والمسلمين. إلا أنه من الضروري أيضًا التأكيد على أن التنظيمات السياسية الإسلامية لها وجود في أوساط مسلمي أوروبا، وهي تسعى لزيادة نفوذها من خلال تبني مشكلة الحفاظ على الهوية الدينية لمسلمي أوروبا، والعمل كتنظيمات ضغط على الحكومات الاوربية من أجل ضمان الحفاظ على تلك الحقوق الثقافية، وهي تقوم كذلك من خلال تنظيماتها بتقديم الخدمات للمسلمين من أجل زيادة نفوذها في اوساطهم.
أعتقد أن الأمر يتعلق بالأساس بواقع المجتمعات الاوربية، وطبيعة علاقاتها التاريخية بمنطقتنا. التاريخ الاستعماري الفرنسي في الجزائر يلعب بالتأكيد دورًا في صياغة سردية التنظيمات المتطرفة في فرنسا على سبيل المثال، لكن لا أعتقد أن مشكلات المنطقة الحالية تلعب دورًا في تغذية هذه الموجة من العنف.
أما بخصوص الخروج من سيناريو “التنافر” “التصارع”، فأعتقد ان نقطة البداية هي ضرورة التمييز بين سعى مسلمي أوروبا للحفاظ على هويتهم الدينية داخل المجتمعات الاوربية، وبين التيارات المتطرفة. فسعى بعض المسلمين الأوربيين إلى الحفاظ على هويتهم الإسلامية لا يعنى بالضرورة أنهم يقبلون بالصدام العنيف مع تلك المجتمعات. والغالبية العظمي من مسلمي أوروبا هم بالفعل مندمجون داخل مجتمعاتهم الاوربية.
وقد نجحت الكثير من الدول الاوربية وكذلك الولايات المتحدة، في التعامل بحكمة مع التحدي الأول (التعايش) من خلال سياسات تقبل بالتعددية الثقافية والدينية. لكن دولاً أخرى مثل فرنسا لا تزال رافضة لهذا النهج وتصر على علمانية “متحفزة” لا تقبل بأي مظاهر دينية داخل المجال العام. ومن المؤكد أن اليمين المتطرف يلعب دورًا في تغذية هذا التوجه.
اما بخصوص مواجهة التطرف، فإن الدول الاوربية تقدم نماذج مختلفة؛ بعضها أثبت بالفعل نجاحًا كبيرًا كما هو الحال في ألمانيا؛ حيث تتعاون أجهزة الدولة مع منظمات المجتمع المدني من أجل تحديد أية علامات مبكرة للتطرف والتعامل معها. كذلك على مستوى الاتحاد الأوربي، هناك حاجة لتعاون أكثر جدية بين الأجهزة الأمنية المختلفة خاصة فيما يتعلق بتبادل المعلومات.