على مدى أكثر من قرن ونصف القرن نجحت فرنسا في بسط نفوذها بقارة أفريقيا، وحتى مع استقلال شعوبها، مارست باريس سياسة أطلقت عليها “أفريقيا الفرنسية”، وكانت عنوانا لاستراتيجية تقوم على الهيمنة والاستغلال، فتمكنت من إرساء السيطرة والنفوذ والحفاظ عليهما.
بيد أن شجرة النفوذ الفرنسي بدأت تتآكل تدريجيا وتتساقط أوراقها واحدة تلو الأخرى بشكل لم يكن يتصوره حتى أكثر المتشائمين، فقد خسرت فرنسا خلال الأعوام الثلاثة الماضية فقط نقاط ارتكازها الرئيسة في وسط وغرب القارة السمراء على الصعيد العسكري.
كما منحت الصحوات الشعبية المعادية لفرنسا والغرب شرعية للنخب العسكرية التي أطاحت في الغالب برؤساء موالين لفرنسا.
وأخذت قبضة فرنسا على المنطقة تضعف، مع اكتساب الجماعات الإرهابية المزيد من السيطرة والنفوذ، بالإضافة إلى اتساع رقعة الانقلابات العسكرية ذات الميول المعادية لباريس، وبينها ما جرى في مالي وبوركينافاسو، إلى جانب النيجر، وأخيرا الجابون.
فخلال 3 سنوات اجتاحت الانقلابات 9 دول في وسط وغرب أفريقيا، وشكل صعود أنظمة عسكرية مناوئة لفرنسا صفعات متتالية للمصالح الفرنسية، وبدأت شركات فرنسية تقلص أنشطتها الاقتصادية أو تجمدها في دول عدة كان آخرها النيجر، وقبلها مالي وبوركينا فاسو.
ورأت صحيفة “واشنطن بوست: الأمريكية أن المزيد من الحكومات المنتخبة في المنطقة تواجه نفس السيناريو، في وقت اكتفى فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتحذير من أن “جميع الرؤساء في أنحاء المنطقة على دراية بالمصير الذي ينتظرهم”، ما لم تستعاد الديمقراطية، من دون الحديث عن السبيل لتحقيق ذلك.
كما وصفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية الانقلاب الذي أطاح برئيس الجابون علي بونجو بأنه “صفعة جديدة” للمصالح الفرنسية في أفريقيا، بعد سلسلة الانقلابات التي حدثت مؤخرا في مالي وبوركينافاسو والنيجر.
وأشارت الصحيفة إلى أن الجابون، التي كانت مستعمرة فرنسية حتى عام 1960 ، ظلت تحت حكم بونغو وعائلته حليفا قويا لباريس، حتى مع “ضعف القبضة الفرنسية على مستعمرات سابقة”.
ونوهت الصحيفة بسيطرة شركات فرنسية على صناعة النفط في الغابون، مضيفة أن هناك قوة فرنسية قوامها 400 عسكري على الأقل متمركزون في هذا البلد، الكثير منهم في قاعدة بالعاصمة ليبرفيل.
غير أن السؤال المطروح لماذا تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا بتلك السرعة؟ وهو ما يمكن تلخيصه في عدة نقاط.
أسباب تراجع النفوذ الفرنسي بأفريقيا:
1- التغيرات الجيوسياسية: ثمة تحولات في الديناميكية العالمية والتوازنات الجيوسياسية، مما يؤثر على النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية، بعد أن نشأت منافسة شرسة من عدة دول أخذت تعزز نفوذها دول المنطقة.
2- الانتقادات الداخلية والضغوط السياسية: من الواضح أن هناك انتقادات داخلية في بعض الدول الأفريقية تجاه الوجود العسكري أو الاقتصادي الفرنسي، فبعض الأفارقة يرون تدخل فرنسا في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية كتدخل في السيادة الوطنية ويطالبون بخروجها.
3- تحولات في السياسة الخارجية الفرنسية: هناك تحولات في الأولويات السياسية لفرنسا، مما أدى إلى تخفيف التزامها في القارة الأفريقية وتركزها على مناطق أخرى خاصة مع اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا وقيادة باريس محور الدعم المقدم لأوكرانيا.
4- التحولات الاقتصادية: ثمة تحولات اقتصادية وتجارية عملت على تقليص الاعتماد على الدعم الفرنسي في القارة الأفريقية وزيادة الروابط مع شركاء اقتصاديين آخرين.
5- الديناميات الداخلية في الدول الأفريقية: لعبت الديناميات الداخلية في الدول الأفريقية دورًا في تراجع نفوذ فرنسا، حيث تغيرت الأولويات السياسية والاقتصادية لهذه الدول وبحثت عن شركاء جدد.
6 – تزايد تأثير القوى العالمية الأخرى: فمثلا النفوذ الروسي ممثلا في مجموعة فاغنر، حيث توظف موسكو شركات عسكرية خاصة لتوسيع نفوذها، فضلا عن دور بكين واستراتيجية الاستثمار الصينية الخالية من القيود أو المشروطية السياسية.
وكلما خسرت فرنسا شبرا من نفوذها ببلد، سارعت عدة دول إلى بسط نفوذها على ذلك الشبر، وسط سباق محموم بين عدة تسعى لإرث المستعمرات الفرنسية بالقارة السمراء.
أبرز الدول المستفيدة من تراجع نفوذ فرنسا بأفريقيا
1- الصين: تعد الصين من أبرز الدول التي تزداد نفوذها في أفريقيا، تستثمر بكين بشكل كبير في البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية في القارة السمراء، وتعزز التعاون الاقتصادي والتجاري مع تلك الدول، وكل تراجع لفرنسا، من المؤكد أنه يصب في صالحها.
2- روسيا: تسعى روسيا لتعزيز تواجدها السياسي والاقتصادي في أفريقيا، فإلى جانب توقيع اتفاقيات تجارية وتعاونية مع دول أفريقية مختلفة، وزيادة الاستثمارات في القارة السمراء، أصبح لها كذلك أذرعا عسكرية ممثلة في مجموعة فاغنر التي انتشرت بقوة خاصة في مناطق وسط وغرب القارة.
3- الهند: تزداد الهند أيضًا نفوذا في أفريقيا، فتسعى لتعزيز التعاون الاقتصادي والاستثمار في القارة الأفريقية، وتوقعت اتفاقيات تجارية واقتصادية مع عدة دول أفريقية.
4- الولايات المتحدة: تحتفظ الولايات المتحدة بتواجدها السياسي والاقتصادي في أفريقيا، وتسعى لتعزيز التعاون في مجالات مثل التجارة والأمن والتنمية، وتشجع واشنطن الاستثمارات في القارة وتعمل على بناء شراكات استراتيجية مع بعض الدول الأفريقية.