تسعى فرنسا إلى تجنب حرب إقليمية في الشرق الأوسط في الوقت الذي أدى فيه اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة (حماس) في طهران إلى دفع التوترات إلى حافة الهاوية، وتزايد الخوف من قيام إيران بضربة انتقامية وإثارة تصعيد غير مسبوق للعنف في المنطقة. وقد تواصلت فرنسا مع نظيراتها في لبنان وإسرائيل وإيران في محاولة لإقناعها بضبط النفس.
الموقف الفرنسي من الحرب على غزة
جاء الموقف الفرنسي على النقيض من المواقف الأوروبية المنحازة لإسرائيل ليبلور نوعًا من التوازن إزاء التصعيد الإسرائيلي على غزة، الذي تشكل عقب هجوم السابع من أكتوبر 2023، حيث عدلت فرنسا بهدوء موقفها تجاه الحرب في غزة بشكل لم يكن متوقعا.
ففي بداية الهجوم، سارعت فرنسا إلى الانضمام إلى نظرائها في الاتحاد الأوروبي، وأعلنت دعمها الكامل لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بينما أضاء برج إيفل بألوان العلم الإسرائيلي.
ومن بين كل الحلفاء، اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تشكيل تحالف دولي ضد حركة “حماس” الموضوعة على قائمة التطرف داخل دول الاتحاد الأوروبي، على غرار التحالف الدولي ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا، وفي الوقت ذاته حظرت على أراضيها التجمُّعات المؤيدة لفلسطين.
ولكن الدور الفرنسي لم يَسِر على الوتيرة نفسها، ففي غضون أقل من ثلاثة أسابيع، هدأت نبرة ماكرون الداعمة لإسرائيل، وخرجت تصريحاته نسبيا عن الاصطفاف الأوروبي، فكانت فرنسا أول دولة غربية كبرى تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة.
ففي الأمم المتحدة، صوتت لصالح القرارين البرازيلي والإماراتي بشأن هذا الموضوع، على الرغم من استخدام الولايات المتحدة حق النقض على هذين القرارين.
كما وافقت على القرارين الأردني والمصري اللذين تبنتهما الجمعية العامة للأمم المتحدة، على عكس بعض الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي.
شدد المسؤولون الفرنسيون بشكلٍ متزايدٍ على أن اتخاذ خطوات نحو إقامة دولة فلسطينية هو أمر لا بد منه لأي تسوية سياسية في اليوم التالي بعد انتهاء حرب غزة، كما أدانوا تصريحات الوزيرين الإسرائيليين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير التي تدعو إلى التهجير القسري للفلسطينيين، وإعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية في غزة، وبناء (1800) وحدة استيطانية في القدس الشرقية.
وسعت فرنسا إلى الاضطلاع بدورٍ نشطٍ على الجبهة الإنسانية أيضاً، ونظمت فرنسا المؤتمر الإنساني الدولي الأول لغزة في 9 نوفمبر2023، وزادت بشكلٍ كبيرٍ مساعداتها الأحادية إلى ما مجموعه (100) مليون يورو لعام 2023، من بينها (77) مليون يورو لمؤسسات الأمم المتحدة.
ولتفسير هذا التأرجح الواضح بين تقديم الدعم الكامل لإسرائيل واتباع “نهج أكثر عدالة”، لاحظ بعض المراقبين واقع كَون المجتمعين اليهودي والمسلم في فرنسا من بين أكبر المجتمعات في أوروبا. ومع ذلك، يمكن فهم تصرفات فرنسا أيضاً على أنها بمثابة تكتيك دبلوماسي متعمد يهدف إلى إبقاء القنوات مفتوحة مع أكبر عدد ممكن من الجهات الفاعلة.
موقف فرنسا من التصعيد الإيراني الإسرائيلي
تربط باريس بين التصعيد الإيراني ــ الإسرائيلي المباشر الحالي، وبين الحرب الدائرة في غزة، وترى أن التوصل إلى وقف لإطلاق النار، واستئناف العمليات الإنسانية «لحماية المدنيين” سيكون له دوره في استبعاد التصعيد بين دولة نووية هي إسرائيل وأخرى وصلت، وفق عدد كبير من المراقبين، إلى الحافة النووية.
وفي أية حال، تعد مصادر فرنسية أن أي حرب قد تنشأ بين طهران وتل أبيب يمكن أن تمتد سريعاً إلى دول أخرى مثل العراق ولبنان وسوريا؛ ما سيشكل حريقاً على مستوى الشرق الأوسط لا أحد يريده.
وأوضح الرئيس الفرنسي ماكرون أن فرنسا تتحدث مع كل دول المنطقة، وتحاول أن تكون “قوة وساطة”، مشدداً على الدور الأمريكي لاحتواء إيران.
وعلى إثر التخوفات من هجوم إيراني محتمل في أعقاب اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في العاصمة طهران، طالب ماكرون إيران بالدعوة إلى ضبط النفس، قائلا في 8 أغسطس 2024 إن أي حرب جديدة ستكون لها “عواقب مدمرة على المنطقة، التي تعيش بالفعل حالة من التوتر نتيجة حرب إسرائيل في قطاع غزة.
ودعا ماكرون الرئيس الإيراني بيزيشكيان إلى بذل كل ما في وسعه لتجنب تصعيد عسكري جديد، وهو ما لن يكون في مصلحة أحد، بما في ذلك إيران، ومن شأنه أن يلحق ضررا دائما بالاستقرار الإقليمي.
فيما رد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان على نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، بأن الولايات المتحدة وأوروبا عليهما حث إسرائيل على قبول وقف إطلاق النار في غزة لتقليل التوترات في الشرق الأوسط، وتشير تصريحات بزشكيان إلى مسار دبلوماسي لخفض التصعيد .
وكانت فرنسا قد دعت في الثاني من أغسطس 2024 رعاياها الذين يزورون إيران إلى المغادرة فورا خوفاً من خطر التصعيد العسكري في المنطقة.
هل ستساعد فرنسا إسرائيل في ضرب إيران؟
واجهت إيران تحذيرا صارما من زعماء فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا في بيان مشترك في 12 أغسطس 2024 من أن إيران ستتحمل المسؤولية عن أي هجمات ضد إسرائيل والتي من شأنها أن تزيد من تصعيد التوترات الإقليمية، وتعريض فرصة وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن للخطر.
وفي بيان ثاني، أعربت فرنسا إلى جانب القوى الغربية الكبرى (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا) في 15 أغسطس 2024 عن دعمها للدفاع عن إسرائيل ضد أي هجوم إيراني وضد هجمات الجماعات المسلحة المدعومة من إيران.
بينما أعرب وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس في 16 أغسطس 2024 أثناء اجتماعه مع وزيري الخارجية البريطاني والفرنسي عن توقع إسرائيل بأن تنضم بريطانيا وفرنسا وحلفاء آخرون للولايات المتحدة إليها في اتخاذ إجراء عسكري ضد إيران إذا شنت الجمهورية الإسلامية هجوما وعدت به على إسرائيل للانتقام لمقتل إسماعيل هنية.
لكن فرنسا والمملكة المتحدة قللتا من أهمية مثل هذا الاحتمال، حيث أكدت المملكة المتحدة على الحاجة إلى كسر الدورة المدمرة الحالية من العنف الانتقامي في الشرق الأوسط.
وقال وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورني، في مؤتمر صحفي في القدس في 15 أغسطس 2024، إنه سيكون من غير المناسب الحديث عن رد أو استعداد لرد إسرائيلي في الوقت الذي تجري فيه المحادثات الدبلوماسية.
بالمقابل، أظهرت فرنسا بالفعل أنها ستقف إلى جانب إسرائيل عسكرياً، عندما اعترضت الطائرات الفرنسية طائرات بدون طيار وصواريخ إيرانية فوق المجال الجوي الأردني في 14 أبريل 2024.
إذ أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون حينها أن الطائرات الفرنسية المرابطة في الأردن في إطار القوة الدولية لمحاربة تنظيم داعش قد شاركت في التصدي للمقذوفات الإيرانية بناءً على طلب الأردن.
ولا يستبعد الجنرال السابق في الجيش الفرنسي فرانسوا شوفانسي إعادة نفس سيناريو الهجوم الإيراني الأول في أبريل 2024، ويفسر شوفانسي تموضع القوات الفرنسية في البحر الأحمر قائلا إن أسطول القوات الفرنسية يندرج ضمن مهمة أسبيدس ويتمتع بقدرة مضادة للصواريخ.
فيما أوضح ضابط الاستخبارات البريطاني السابق فيليب إنغرام أن فرنسا قادرة على استخدام طائرات رافال التابعة لسلاح الجو من قاعدتها العسكرية في الأردن.
ويضيف “بينما تم استخدام الطائرات البريطانية والأمريكية في الهجوم الإيراني الأول، أعتقد أن قرار مشاركة باريس باستخدام طائراتها يظل قرارا سياسيا”.
خطة فرنسية لعزل إيران
تعمل باريس على منع التصعيد بين إيران وإسرائيل، وقد انخرطت فرنسا، على أعلى المستويات في الدعوة إلى الامتناع عن التصعيد بين إسرائيل وإيران بعد الهجمات الإيرانية بالمسيّرات والصواريخ على تل أبيب في إبريل 2024. داعيا إسرائيل إلى التخلي عن استهداف إيران عسكرياً، والبحث عن سبيل آخر للرد على الهجمات التي ضربتها.
وما يثير قلق الرئيس الفرنسي عنوانه “خطر اندلاع حريق إقليمي كبير” ولذا، فإنه يطرح حلولاً بديلة عن ردود الفعل العسكرية الإسرائيلية ضد إيران وداخل الأراضي الإيرانية، وما يريده هو العمل على إقناع إسرائيل بأنه “لا ينبغي لنا أن نرد بالتصعيد، بل بعزل إيران، وأن ننجح في إقناع دول المنطقة بأن إيران تشكل خطراً”.
وقد أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 15 إبريل 2024 عن خططه التي طرحها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بأن إسرائيل “يجب ألا ترد بالتصعيد، بل بعزل إيران، وإقناع الدول في المنطقة بأن إيران تشكل خطرا، وزيادة العقوبات، وتعزيز الضغوط على الأنشطة النووية، ثم إيجاد طريق للسلام في المنطقة”.
وقال ماكرون “علينا أن نكون إلى جانب إسرائيل لضمان حمايتها إلى أقصى حد، ولكن أيضا للدعوة إلى وضع حد لتجنب التصعيد”.
مبادرة لخفض التصعيد
تحاول فرنسا منذ نهاية يناير 2024 المنصرم، احتواء التصعيد على الحدود بين إسرائيل ولبنان والتي تهدد بالانتشار، وتبدو المخاطر عالية بشكل خاص إلى باريس، التي تنشر مئات الجنود ضمن قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، في المنطقة الجنوبية من البلاد حيث تتبادل إسرائيل وحزب الله إطلاق النار بشكل متكرر منذ أكتوبر 2023.
وكانت باريس قد قدمت مبادرة أولى إلى الطرفين، لكن تم تعديلها في بداية مايو 2024، بناء على طلب بيروت، التي اعتبرت النسخة الأولى مواتية للغاية للأطروحات الإسرائيلية. وتنص المبادرة الفرنسية التي قُدمت ، على انسحاب مقاتلي حزب الله وحلفائهم إلى مسافة تراوح بين (10 إلى 12) كيلومتراً من الحدود ووقف الانتهاكات الجوية الإسرائيلية، كما تقترح إنشاء لجنة رباعية تضم فرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل ولبنان لمراقبة وقف الأعمال العدائية.
ويقضي المقترح أيضاً بأن يتم نشر ما يصل إلى (15) ألف جندي من الجيش اللبناني في المنطقة الحدودية بجنوب لبنان، وهي معقل سياسي لحزب الله حيث يندمج مقاتلو الجماعة منذ فترة طويلة في المجتمع في أوقات الهدوء.
وفي 13 يونيو 2024 تم الإعلان عن تشكيل لجنة ثلاثية تضم إسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا، لبحث خارطة الطريق الفرنسية لنزع فتيل التوتر بين حزب الله في لبنان، وإسرائيل.
ويرفض حزب الله الخوض في أي مفاوضات من هذا النوع، مشترطاً وقفاً دائماً لإطلاق النار في الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في غزة.
فيما عكست تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف حالانت رفض أي وساطة فرنسية في المواجهات الجارية على الجبهة الشمالية مع حزب الله، إذ أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت في 14 يونيو 2024، إن إسرائيل لن تكون طرفاً في الإطار الثلاثي الذي اقترحته فرنسا.
فيما تشير تقديرات المراقبين أن الهجوم الإسرائيلي على فرنسا، سببه منع باريس مشاركة إسرائيل في معرض عسكري، احتجاجاً على عملية رفح، حيث استبعدت فرنسا ، في 31 مايو 2024، (74) شركة إسرائيلية من المشاركة في معرض “يوروساتوري 2024″، أحد أكبر المعارض الدولية للأسلحة والمعدات العسكرية، والذي انطلقت فعالياته في السابع عشر من يونيو.
حماية الملاحة في البحر الأحمر
كانت فرنسا من ضمن الدول التي سارعت إلى انتقاد هجوم الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر، وانضمت فرنسا إلى قوة عمل بحرية متعددة الجنسيات في ديسمبر 2023 لحماية السفن من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر. وشاركت بسفينتين حربيتين سفينة ألزاس وسفينة لانغدوك والتى تقومان بدوريات في مضيق باب المندب مهمتها مرافقة السفن المرتبطة بفرنسا.
على صعيد آخر، أعلنت فرنسا عدم الانضمام للضربات التي تشنها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على الحوثيين في اليمن، حيث أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 17 يناير 2024 أن بلاده قررت “عدم الانضمام” إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في توجيه ضربات ضد الحوثيين في اليمن وذلك لتجنّب التصعيد في المنطقة.
وفي 24 مارس 2024 وأعلنت هيئة الجيوش الفرنسية تدمير مسيرتين حوثيتين في البحر الأحمر كانتا متجهتين نحو الفرقاطة متعددة المهمات “لانغدوك” العاملة في البحر الأحمر، لتنضم باريس بذلك إلى مهمة الاكتفاء بالتصدي للتهديدات الحوثية دون الدخول في مواجهة مفتوحة مع الجماعة.
تقييم وقراءة مستقبلية
– تربط باريس بين التصعيد الإيراني الإسرائيلي الحالي، وبين الحرب الدائرة في غزة، وترى أن التوصل إلى وقف لإطلاق النار، سيكون له دوره في استبعاد التصعيد بين الدولتين.
– ما يثير قلق باريس “خطر اندلاع حريق إقليمي كبير” بالتالي تطرح حلولاً بديلة عن ردود الفعل العسكرية الإسرائيلية الإيرانية من خلال خطط عزل إيران هكذا يتبدى المنهج الفرنسي بطرح مقايضة العقوبات على إيران وعزلها، بشرط أن تمتنع إسرائيل عن أي إجراءات تفتح الباب لحرب واسعة بالمنطقة.
– أدانت فرنسا بشدة الهجمات التي تنفذها جماعة الحوثي في البحر الأحمر، ضد السفن الامريكية والبريطانية والأسرائيلية، وانضمت إلى القوة البحرية الأوروبية لحماية الملاحة في البحر الأحمر والتصدي لهجمات الحوثيين .
– تحاول فرنسا احتواء التصعيد بين إسرائيل وحزب الله جنوب لبنان، وقدمت وساطتها بطرح مبادرات دبلوماسية لخفض التصعيد إلا أنها لم تنجح في تهدئة الأوضاع على الحدود الشمالية لإسرائيل.
– من المرجح أن تشارك فرنسا في صد أي هجوم إيراني مرتقب على إسرائيل من خلال المضادات الجوية، في حين من المستبعد أن تشارك مع إسرائيل في أي هجوم رد فعل تشنه تل أبيب على طهران تحسباً لإشتعال المنطقة.
المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (24).