أكثر من مئة يوم على المعارك الدائرة في السودان، تخللها أيام من هدنة هشة، لم تكن أكثر من فرصة للطرفين لتنظيم الصفوف والعودة لأصوات الرصاص.
مئة يوم كانت كفيلة بتغيير شكل البلاد وتعميق أزمة إنسانية كان يعانيها الشعب السوداني بالأساس، وأجبرت المعارك ثلاثة ملايين شخص على النزوح، فضلا عن فرار أكثر من 700 ألف إلى دول مجاورة، وفق تقرير للمنظمة الدولية للهجرة.
وبات السؤال متى تضع الحرب أوزارها ويصمت صوت الرصاص في السودان؟
بداية المعارك في السودان
مطلع العام الجاري 2023 غاب السودان عن صدارة نشرات الأخبار إقليميا ودوليا، خلافا للمشهد منذ عزل الرئيس عمر البشير عن الحكم، حيث ظل هذا البلد الإفريقي الفقير لمدة طويلة مادة دسمة في الإعلام الإقليمي والدولي.
فجأة، وبلا مقدمات، عاد السودان ليتصدر المشهد من جديد بقوة، حيث تسارعت الأحداث على نحو أكثر من سريع، في 15 إبريل 2023، حيث اندلعت الاشتباكات الدامية بين الجيش وقوات الدعم السريع، شبه العسكرية، لتصل إلى كافة المناطق الحيوية من مطارات ومقر الإذاعة والتليفزيون، فضلا عن القواعد العسكرية.
ماذا يحدث في السودان؟
كي تتضح الصورة على نحو أكثر تفصيلا دعنا نفهم ما هي قوات الدعم السريع الطرف الثاني في الاشتباكات الدامية، كيف ومتى نشأت وعدادها وعتادها وماذا عن ولاء عناصرها وقادتها.
برزت قوات الدعم السريع في ثمانينيات القرن الـ21 بالسودان، حيث ولدت كقوة عسكرية جديدة سارع مئات الشباب في الانضمام إليها، متعهدة بحماية الدستور الأول لهذا البلد.
وخرجت تلك القوات بالأساس من رحم قوات “الجنجويد” التي انخرطت بشكل قوي مطلع الألفية في الصراع بدارفور، غربي البلاد، واستخدمها عمر البشير في مساعدة الجيش لإخماد التمرد.
واتهمت تلك القوات بالمسؤولية عن تشريد 2.5 مليون شخص على الأقل ومقتل 300 ألف في المجمل إبان الصراع، واتُهمت كذلك بارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.
وكان العام 2017 نقطة فاصلة في تاريخ تلك القوات عندما جرى إقرار قانون يمنح قوات الدعم السريع صفة قوة أمن مستقلة، وفي إبريل 2019، شاركت قوات الدعم السريع في الإطاحة بالبشير.
وفي وقت لاحق من ذلك العام، وقع حميدتي اتفاقًا لتقاسم السلطة جعله نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الحاكم الذي يرأسه الفريق أول عبدالفتاح البرهان.
ومرارا طالب الجيش السوداني والجماعات المناصرة للديمقراطية بدمج قوات الدعم السريع في صفوف الجيش، وصارت المفاوضات بهذا الشأن مصدرا لتوتر تسبب في تعطل عملية توقيع كانت مقررة في الأصل خلال الأول من إبريل.
أوجه الخلاف بين الجيش وقوات الدعم السريع
ثمة خلافات جمة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ الإطاحة بعمر البشير، ولم يستطع الطرفان غض الطرف عنها أو حتى الإبقاء عليها خلف الكواليس، وظلت دائما بالعلن، ولعل أبرزها قضايا الإصلاح العسكري والأمني التي دعا لمناقشتها الاتفاق السياسي النهائي لإدارة المرحلة الانتقالية بالبلاد.
غير أنها وصلت إلى مرحلة خطيرة مع انطلاق “مؤتمر الإصلاح الأمني العسكري” آخر المؤتمرات، لمناقشة قضايا الاتفاق النهائي السياسي لاستكمال بنود “الاتفاق الإطاري”.
وهو المؤتمر الذي انتهى بعد 4 أيام من انطلاقه في 26 مارس الماضي، دون التوصل لاتفاق بشأن وضعية قيادة الجيش و”الدعم السريع” خلال الفترة الانتقالية المتبقية.
تباينت رؤى الجيش السوداني و”الدعم السريع” بشأن عدد من قضايا الإصلاح الأمني والعسكري، وأبرزها قضية دمج قوات “الدعم السريع” في الجيش النظامي بشكل كامل وما يتبع ذلك من اتفاق حول الجداول الزمنية لعملية الدمج.
ويطالب الجيش السوداني بألا تتجاوز فترة دمج “الدعم السريع” عامين، في حين يريد الأخير أن يكتمل دمجه في الجيش خلال فترة تتجاوز 10 سنوات، فضلا عن قضية رتب ضباط الدعم السريع كأحد نقاط الخلاف بين الجانبين، حيث يرى الجيش أن تتم مراجعة الرتب في حين يطالب الأخير بأن يتم استيعاب ضباطه في الجيش برتبهم الحالية.
أما القضية الخلافية الثالثة فهي مطالبة الجيش بإيقاف التجنيد الجديد لصالح قوات الدعم السريع، وهو الأمر الذي يجد معارضة من هذه القوات.
وجراء تلك الخلافات المتفاقمة، اشتعلت الأزمة خلال الأيام الماضية لتتحول إلى مواجهات عسكرية، حيث أعلنت أطراف العملية السياسية بالسودان في 5 أبريل، إرجاء توقيع الاتفاق النهائي إلى أجل غير مسمى.
شرارة المواجهات والبيانات المتبادلة
استيقظ السودانيون صبيحة السبت 15 إبريل على أصوات الرصاص ودوي المدافع فضلا عن تحليق مكثف للطائرات الحربية فوق سماء العاصمة الخرطوم، وسط حالة من الذعر في صفوف المدنيين.
وتبادل الطرفان الاتهامات ببدء المواجهات، فقالت قوات الدعم السريع إن “القوات المسلحة هاجمت في وقت متزامن مقرات قواتنا في الخرطوم ومروي ومدن أخرى”.
وأعلنت قوات الدعم السريع السيطرة على مطار وقاعدة مروي، مؤكدة السيطرة على مطار الخرطوم.
وأضافت: “قيادة القوات المسلحة متشبثة بالسلطة ومستعدة لتعريض استقرار البلاد إلى الخطر من أجلها”.
وأشارت إلى سيطرتها الكاملة على القصر الجمهوري وبيت الضيافة ومطار الأبيض، مضيفة: “الشرفاء من أبناء القوات المسلحة انضموا لخيار الشعب”.
في المقابل، قال رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إن قوات الدعم السريع هي من بدأت الهجوم، موضحا أنه تفاجئ بمهاجمة تلك القوات منزله في التاسعة صباحا، كما تحرشت بالجيش في منطقة المدينة الرياضية جنوبي العاصمة الخرطوم.
وأكد أن كل المرافق الإستراتيجية من القيادة والقصر تحت السيطرة وأن قوات الدعم السريع تسللت إلى المطار عبر صالة الحج والعمرة وأحرقت بعض الطائرات والقوات تتعامل معها.
كما حذر من أن القوات المسلحة السودانية ما زالت تحكم صوت العقل، مطالبًا بإعادة قوات الدعم السريع التي دخلت الخرطوم إلى أماكنها.
وشدد على أنه إذا استمرت حالة الحرب فسوف تدخل القوات إلى الخرطوم من مناطق مختلفة، وأنه لا أحد يفضل الحرب لكن ما حدث يجب أن يكون عبرة للناس.
فرص السلام في السودان
منذ اندلاع الصراع بين القوتين العسكريتين، شهدت البلاد نحو 13 هدنة خرقت جميعها منذ الساعات الأولى لدخولها حيز التنفيذ، فيما تقاذف الطرفان الاتهامات وتحميل المسؤوليات.
ويترقب الشعب السوداني وضع نهاية لتلك المعارك، وبالتأكيد لن يتم ذلك بدون فرض الهدنة على القوتين المتصارعتين، قبل الجلوس على مائدة المفاوضات.
ويبدو أن الوسيطين الراعيين للمحادثات (الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية) عازمان على فرض الهدنة والاتجاه نحو التفاوض، ومن أجل ذلك رصدا آليات واضحة لكشف منتهكي الهدنة، وهددا بفرض عقوبات قاسية.
ومن بين تلك الآليات مراقبة الأقمار الصناعية، ومنظمة حقوقية، أشارت في هذا التقرير الأولي إلى أن الصراع خلف آثارًا كبيرة على أمن المدنيين في الخرطوم، وشمال كردفان، وجنوب وغرب وشمال دارفور، كما أثر بشكل واسع على قطاع الاتصالات في البلاد.
كذلك، تبين أن هذا المرصد يستعين بخدمات PlanetScape Ai التي تقدم صورا عبر الأقمار الصناعية ذات الدقة العالية، فضلا عن أجهزة استشعار حرارية.
وبغض النظر عن الرابح والخاسر في المواجهات العسكرية الدائرة حاليا في البلاد، لكن المؤكد أن من يدفع الفاتورة هو المواطن السوداني الذي ظل يعاني الأمرين بعهد البشير وتفقامت المعاناة بعد الإطاحة به لتدخل البلاد في نفق مظلم.. فهل تخرج منه قريبا أم ستبقى فيه لسنوات وسنوات؟.