القاهرة القديمة قادرة أن تقدم لك تجربة ساحرة وتنتقل بك الى عوالم أخرى وتجعلك في حالة معايشة لزمن مضى بتفاصيله وشخوصه ولكن بقيت عمائره وجدرانه تحوى الاّف الحكايات, قادرة أن تسعدك وتفتح لك بوابتها السحرية لتتلمس الماضى التليد وتستمع لتلك الحكايات المعلقة على الجدران. هذا الخيال الساحر الذى أتى بالرحالة والمستشرقين من كل البقاع على مر الأزمنة لتجسيده في لوحات فنية أو الكتابة عنه بالرسم والكلمة.
ذخرت القاهرة منذ نشأتها بالعديد من العمائر الفارهة على اختلاف وظائفها من عمائر دينية كالجوامع والخوانق والتكايا وعمائر حربية كالقلاع والحصون والأسوار وعمائر اجتماعية تقدم خدماتها لسكان المدينة أهمها عمارة الحمامات التى تعد جزءًا أصيلا من البيئة العمرانية والمعمارية للمدينة العريقة وأحد أهم وجوهها الناصعة لما تتميز به من مظاهر جمالية وفنية وانشائية على الطراز العربى الشهير مٌشكلة بذلك لوحة فنية حيَة.
تعتبر مصر من أكثر البلدان التى أولت اهتماما بنشأة الحمامات في طورها الاسلامى فيذكر المقريزى أنه كان بالفسطاط ألف ومائة وسبعون حماما, هذا فقط في الفسطاط العاصمة الأولى لمصر الاسلامية وقد إندثرت تلك الحمامات جميعها وبقى منها حماماً واحداً عُرِفَ بالحمام الفاطمى يقع الان في الحديقة الخلفية لمتحف الحضارة. أما في مدينة القاهرة فقد عدد لنا المقريزى ثمانين حماماً وذلك عام 1286م.. ولاحظ هنا التاريخ مبكرا الى حد ما من عمر الدولة المملوكية التى ستتسع فيما بعد وستزداد عمائرها لتشمل كافة جوانب المدينة بل وظواهرها, وذكر علماء الحملة الفرنسية في وصف مصر أن بالقاهرة مايزيد عن مائة حمام وقد قل هذا العدد في أواخر القرن التاسع عشر ليصل الى خمسة وخمسين حماماً وهو ماذكره على مبارك في خططه, ماوصلنا منها اليوم لايتجاوز العشرة ولذلك يعد الحفاظ على ماتبقى هو بمثابة الحفظ ليس فقط على الجدران والعناصر الأثرية بل حفظ للقيمة الثقافية والذاكرة الجماعية للموقع.
هنا سنتناول إضاءات حول إعادة إستكشاف حمامات المدينة ورسم مسارات الوصول اليها ونركز على إعادة إحياء تقليد الحمام في ثوبه التراثى ليقدم نفس خدمته القديمة كنموذج للسياحة الشعبية.
حمامات منثورة في طرقات المدينة
اذا أطلقنا العنان لأقدامنا تأخذنا في جولة حرة داخل أسوار القاهرة المعزية، فسنجد عدد من الحمامات التراثية المتبقية في أحيائها القديمة كنقاط لامعة في خريطة المدينة تنتظر من يزروها ويتلمس جدرانها ويتعرف عليها, ولنبدء جولتنا من سور القاهرة الجنوبى حيث أشهر أبوابها “باب زويلة” أو كما ينطق على اللسان الشعبى بوابة المتولى, بمجرد عبورك من البوابة بخطوات معدودة تصبح في حي السكرية وعلى يمينك ستلمح عيناك لافتة مستطيلة من الجص معلقة فوق مدخل حارة قاهرية عتيقة كتب عليها بالمداد الأسود “عطفة الحمام” وترجع هذه اللافتة لزمن محمد على باشا.
اللافتة تخبرنا بوجود واحد من أقدم حمامات القاهرة وهو الحمام الذى أنشاه القاضى الفاضل الوزير الشهير لصلاح الدين الأيوبى وذكره الرحالة السورى عبد الغنى النابلسى حين زار القاهرة عام 1105ه فقال: “وقد عزمنا على الذهاب الى حمام وصف لنا بالقرب من باب زويلة فدخلناه وقد غض بالناس, أحواضه طوال وهى مملوءة بالرجال” واذا تأملنا هذه الاشارة التاريخية الهامة يتضح لنا كيف كانت حمامات القاهرة صاخبة وعامرة لا ينقطع عنها الزائرون. بجوار هذا الحمام، أقامت الست نفيسة البيضا فى العصر العثمانى مجموعتها المعمارية حيث أنشأت سبيل ووكالة وأدخلت تجديدات على الحمام القديم فصار الحمام والمجموعة كلها بل المنطقة تعرف بالسكرية والتى استوحى منها الأديب العالمى نجيب محفوظ واحدة من ثلاثيته الشهيرة. أما تجاه عطفة الحمام ويسار الداخل الى باب زويلة، شيد السلطان المملوكى المؤيد شيخ المحمودى جامعه الكبير الذى اشتهر بمأذنتيه الساكنتين فوق برجي باب زويلة لتعطى ملمح بصرى هام يصبح مع الوقت رمز أيقونى للمدينة. وخلف جامعه، أقام حماماً يعد الأضخم بين حمامات القاهرة ويقع في نهاية درب الاشراقية المجاور للجامع، ويتبقى من هذا الحمام المسلخ الكبير والايوانات المتعامدة.
تخيل معى ماذا لو تم ترميم وصيانة واعادة انشاء الأجزاء المتبقية لهذين الحمامين وإرجاع وظيفتهما القديمة وانعكاس ذلك على إحياء هذا الجزء من خريطة المدينة التاريخية وتقديم تجربة تفاعلية متكاملة للسائح للتعايش في قاهرة العصور الوسطى من خلال مسار واحد في جنوب المدينة.
أما اذا أنتقلنا لقلب المدينة ومركزها وفى شارعها الأثير، شارع المعز لدين الله، سنقف أمام منشأه أثرية صغيرة الحجم يزين مدخلها عقد ثلاثى وصدر مقرنص وشريط كتابى بخط الثلث المملوكى، يخبرنا عن مُنْشِئه وتاريخ انشائه الذى يرجع لمنتصف القرن الخامس عشر الميلادى على زمن السلطان المملوكى الأشرف إينال، وهو النموذج الوحيد المتبقى بشكل كامل من حمامات القاهرة الذى يعود لهذا العصر. تبدأ رحلتك بالدخول من باب الحمام لتمشى في دهليز مقبى ينكسر بك فجأة لتنفتح أمامك قاعة الإستقبال الرئيسية للحمام فتختفى تماماً عن المارة وتنقطع عن الخارج بحثًا عن السكينة وتهدأ أنفاسك، فكل العناصر المعمارية والفنية في الحمام تهيئ لك قضاء وقت ممتع. تجاه حمام إينال، أو كما يعرف شعبيًا بحمام السلطان، يقع قصر الأمير بشتاك وهو مبنى فخم الإنشاء، يعد من النماذج القليلة المتبقية في القاهرة من قصور العصر المملوكى، مكونًا بذلك هوية بصرية رائعة كقصر سكنى يقع أمام حمام شعبى كمنشأة اجتماعية، وحولهما العمائر الدينية من جوامع وخوانق، بالإضافة الى الأسبلة، خاصة سبيل عبد الرحمن كتخذا الشهير بسبيل بين القصرين.
إن وضع تلك النقطة اللامعة من عمارة وعمران المدينة على الخريطة السياحية التفاعلية هو أمر هام وضرورى، وما أقصده هنا السياحة التفاعلية مع المكان بإعادة توظيف تلك العمائر بشكل حي ولا يقتصر فقط على السياحة التقليدية كالمشاهدة والزيارة، فعلى سبيل المثال، المساحة الواقعة خلف قصر الأمير بشتاك تتميز بحوش متسع بمدخل أنيق ومبنى ضخم يعود طرازه المعمارى لأواخر القرن التاسع عشر يصلح تماما أن يكون فندقاً تراثياً يستقبل زواره من السائحين، وحمام السلطان إينال يعود لوظيفته القديمة، وترجع إليه الحياة بتقديم خدماته للزوار الأجانب الراغبين في خوض تجربة معايشة كاملة تعود بهم لأجواء قاهرة الماضى، وبالطبع الحفاظ على المنشأة الأثرية يأتى في المقام الأول دون إخلال بأى عنصر معمارى بها أو غيره. هناك عدة تجارب ناجحة لدول أخرى أعادت توظيف عمائرها الأثرية مما أعاد إليها الحياة وساعد في صيانتها بشكل كبير.
على بعد خطوات من منطقة بين القصرين، شارع الجمالية واحد من أعرق شوارع المدينة ويقع به واحد من أقدم حمامات القاهرة كجزء من مجموعة معمارية تعرف بسعيد السعداء، أنشأها صلاح الدين الأيوبى لخدمة الجماعة الصوفية. كل مانحتاجه هو إعادة فتح تلك المنشأت وترميمها وإعادتها مرة أخرى لوظيفتها، فيعمل الحمام مرة أخرى على الطريقة القديمة ويفتح بابه للزيارة، وأن تعود حلقات الذكر والإنشاد الى الخانقاه المجاورة. هنا ستعود القاهرة لوجهها الحقيقى الفاعل كما كانت فى سابق عهدها، ونرد لها الاعتبار كمدينة ألفية تقدم تجربة فريدة ورائدة فى سياحة المعايشة والمحاكاة، وهو ما سيساعد بشكل كبير سكان الحي في ايجاد وظائف وصنائع تكميلية تشتبك مع هذه الحركة والرواج ويكون الحفاظ على تلك المنشأت هو شاغلهم الأول كمصدر رزق مستدام.
إعادة تقليد الحمام يعيد قاهرة ألف ليلة وليلة
يعد الحمام التقليدى الشعبى واحد من العمائر الهامة التى تشكل روح نابضة للمدينة، يحتوى على الكثير من براعة العمارة الاسلامية، بهندسته المريحة وألوانه الزاهية وأرضيته المُرخمة وفسقياته المزخرفة وأبوابه الصغيرة المعقودة, كل تلك العناصر تبعث على الانسجام والراحة وتطير بالزائر على جناح من خيال أساطير ألف ليلة وليله. إعادة إحياءه مرة أخرى هى انتصار أيضًا للثقافة الشعبية للمدينة بعيداً عن الثقافة المستوردة والتى تهيمن الآن على السوق وتعرف بمراكز “spa” ذات التكلف والبهرجة والأسعار الخيالية، وعلى الرغم من أن تلك المراكز تستعين باللوحات الاستشراقية تزين جدرانها فى قاعة الاستقبال، وهى اللوحات التى رسمت للقاهرة كما تخيلها المستشرقين والرحالة فى القرن التاسع عشر. فماذا لو استدعينا ليالى ألف ليلة وليلة فى القاهرة مرة أخرى؟ بالتأكيد سيكون الحمام التقليدى هو أهم بيئة حاضنة لتلك الليالى الساحرة مع تصاعد البخار من المغطس ليلف المكان بثوب أبيض شفاف تغلفه الروائح الطيبة وعلى ارضيته تنعكس الألوان الزاهية التى يرسلها الزجاج الملون المعشق فى قباب الحمام لتبعث على الراحة والاسترخاء ويستطيع الزائر ايضا الاستماع للسير الشعبية والتراث الشعبى المتعلق بالحمام وارتباطه الوثيق بالثقافة الاجتماعية لأهالى المدينة. واحدة من تلك الفعاليات الاجتماعية الشهيرة التى كانت تحدث فى الماضى هى “زفة الحمام” وهى طقسة شهيرة للابتهاج تتقدمها العروس تحت مظلة مع صديقاتها على أصوات الطبول والمزمار. وليصبح الحمام رفيقاً للبهجة والتفاريح ومفتاحاً للمرور عبر الفجوة الزمنية للتعرف على بعض من وجوه الأصالة للمدينة العريقة.
السينما والدراما .. سحر الكاميرا والتأثير
تتمايز مدينة القاهرة عن مثيلاتها من المدن العربية بالاحتفاظ بقدر كبير من تخطيطها االقديم وكثرة أثارها المتعددة والمتنوعة المتناثرة فى دروب وحارات المدينة فما أن تدخل حارة أو درب إلا ويطالعك أثر أو مبنى عتيق، فلا تتفاجئ فأنت فى مدينة تخطى عمرها الألف والخمسون عام, فاذا اتجهنا غرباً من شارع المعز لدين الله نحو شارع أمير الجيوش “مرجوش”، ستجد في منتصف الشارع الحمام الأشهر في القاهرة بمدخله المعقود من الحجر وعلى الرغم من أن الحمام معروف بين الأهالى بحمام الملاطيلى أو حمام مرجوش، الا أن شهرته قد ذاعت وأصبح معروف للجميع بحمام الملاطيلى بعد أن تناولته السينما المصرية كموقع رئيسى تدور فيه أحداث القصة التى كتبها أسماعيل ولى الدين, وعلى الرغم مما يعاينه حمام الملاطيلى من إهمال وقلة الصيانة، الا أنه لا يزال يعمل في وظيفته وله زبائنه من سكان الحي. ولكن من الممكن استغلال هذا الحمام بشكل أكثر فاعلية إذا وضع على خريطة السياحة لتقديم تجربة ساحرة للأجانب الراغبين في تجربة طقس شعبى بين جدران عتيقة وهو ما نفتقده على خريطة السياحة المصرية، فالكثير من الأجانب الزائرين يريدون التعرف أكثر وعن قرب على الثقافة الشعبية والاجتماعية وليس المواقع الشهيرة فقط, هنا أيضاً يجب أن نشير لأهمية الاستثمار في الحقل التراثى، وهو ماسيعود بالتأكيد على المستثمر والدولة بأرباح، لا سيما الدور الهام في الحفاظ على العمائر الأثرية من خلال احيائها مرة أخرى لتقدم نفس خدماتها القديمة ويجعل لها مصدر دخل مستدام ينفق منه على صيانة المنشأة بشكل مستمر، ويعتبر حمام مرجوش “الملاطيلى” نموذج من الممكن أن نبدأ منه.
يستمر تأثير الكاميرا في التسويق لتراث المدينة بشكل ساحر يخطف قلوب المشاهدين، فالسينما والدراما خير سفيرين للدعاية والسياحة، ولكن هنا في مدينة أخرى هى طرابلس, إذ استطاع مسلسل باب الحارة أن يرسم صورة ساحرة للحارة الشامية التقليدية وهو الخيط الذى إلتقطه صاحب “حمام العبد” بمدينة طرابلس وقدم تجربة وخدمة تعيد الزائر الى أجواء المسلسل واحياء الحمام كتقليد اجتماعى ورفيق المناسبات السعيدة.
ومن طرابلس الى المغرب، حيث تعد الحمامات التقليدية بها جزءاً أساسياً ليس فقط على خريطتها السياحية ولكن كجزء لا يتجزء من الحياة المغربية بالإضافة لكونه واحد من أهم المرافق العمومية ويلعب دوراً صناعياً وسياحياً بارزاً بل وكموقع تصوير للأفلام السينمائية وهو مايدر ربح كبير على خزينة السياحة.
الحمامات: أطلال وخرائب أم ترميم وتوظيف
قد نجد بعض الأراء المناهضة لاعادة تأهيل الحمامات وصيانتها ووضعها على الخريطة السياحية، ومن تلك المبررات أن الحمام فقد وظيفته التقليدية بعدما وصلنا إليه من حداثة، أو أن إعادة توظيف الحمام مرة أخرى يضر بالمنشأة الأثرية .. وهى مبررات واهية لا تتوافق مع علم الترميم الحديث وما يقدمه من معالجات وابتكارات تحافظ على الأثر من خلال استراتيجية علمية يكون هدفها الأول هو الحفاظ على المبنى واعادته لأصله بالاستعانة بالمراجع التاريخية واعادة استعماله في الغرض الأصلى الذى أُنشئ من أجله مع توفير كل الضمانات اللازمة للحفاظ عليه.
ولذلك فإن إمكانية إستعادة الحمامات القديمة بالقاهرة لاّلقها القديم هو مشروع واقعى تتبع فيه الوسائل التى تحافظ على البيئة والطاقة وربط الحمام واستعمالاته المستحدثة بالمجتمع المحلى، وهو ما يساعد على تنمية شاملة من النواحى الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وقبل كل ذلك حماية الأثر باعادة توظيفه هو أفضل استمرار للحفاظ عليه، ومن ثم الحفاظ على هوية المدينة وذاكرتها البصرية.
سؤال أخير
أين ذهب مشروع اعادة تأهيل “حمام الطمبلى” بباب الشعرية؟
وهو المشروع الذى وافقت عليه اللجنة الدائمة للأثار بمنحة ممولة من الإتحاد الأوروبي في عام 2009 بمبلغ 6 مليون جنيه، حيث جاءت صياغة المشروع بتأهيل الحمام وإعادة الاستعمال في نفس الغرض الذى نشأ من أجله كنموذج يحتذى به لبعض الأماكن الأخرى وجاءت توصية اللجنة بأن تكون إعادة الاستعمال على نفس النمط التراثى للمنشأة.
نأمل أن نعيد هذا المشروع مرة أخرى ونقدم نموذجاً لافتاً يعبر عن هوية المكان وأصالته، ويساهم في اكتشاف وجه جديد للسياحة الشعبية في المدينة، وهو ما يواكب الآن حركة الترميمات الواسعة التى تجريها وزارة الاثار لعدة أثار إسلامية.