في قنا لا تجد من لا يعرف الأسرة الدندراوية واحتفالها الضخم بالمولد النبوي الشريف الذي يتحول إلى احتفالية دينية شعبية يشارك فيها أبناء القطر المصري كله، وتتحول قرية دندرة بمحافظة قنا إلى ملتقى لشخصيات ثقافية ورسمية من مصر وخارجها، وهو ما يتكرر في الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج في القرية ذاتها كل عام، لتقدم القرية والأسرة معا نموذجا للتنمية المجتمعية وكيفية استغلال الموروث الديني والفلكلور في تقديم أجواء كرنفالية يمكن استغلالها على مستوى تدعيم ملف السياحة في مصر من ناحية، وتعزيز الروابط بين أبناء الوطن الواحد، والتأكيد على الهوية المشتركة للمصريين.
يمتلك المصريون تراثا شديد الغناء والتنوع، ميراث حضارات وثقافات متتالية تركت بصماتها على طول الوادي والدلتا، والتي انصهرت وصبت في المنتج الحضاري الحالي في صورة احتفالات فلكلورية يمكن استغلالها على أكثر من مستوى، بداية من دعم السياحة بخلق مواسم سياحية مختلفة الطابع، كما هو حاصل مثلا في ألمانيا التي تنظم مهرجان أكتوبر الذي يعد من أكبر المهرجانات الشعبية في العالم، ويحضره مئات آلاف من السياح من مختلف دول العالم لممارسة الرقص والموسيقى البافارية المميزة.
كما يمكن استغلال التراث الشعبي الاحتفالي في تقوية علاقة الأجيال الشابة بتراثها، فالكثير من الاحتفالات الشعبية الدينية وغير الدينية يرتكز على قصص ومواضيع تتحدث عن الهوية المصرية في معناها العميق، بعيدا عن محاولات مسخ الهوية المصرية التي تجري على قدم وساق في الوقت الحالي، فالشكل الكرنفالي الاحتفالي هو الأنسب والأقرب للأجيال الشابة للتعرف على تراث بلد غني مثل مصر وإعادة ربطهم به مرة أخرى، فضلا عن أن التركيز على الجانب الاحتفالي للموالد الصوفية سيكون ضمن الجوانب الحقيقية لطبيعة تجربة الإسلام السمحة في مصر، بعيدا عن محاولات التيارات السلفية المتشددة في فرض نسختها الفقيرة جدا على بلد حضاري ضخم مثل مصر.
موالد الأولياء والقديسين.. احتفالات بنكهة مصرية
الاحتفالات الدينية الشعبية عند المصريين تكاد تستوعب شهور السنة كلها، وهي تمتلك تراثا من التقاليد الاحتفالية الفلكلورية المميزة التي تعطي لكل احتفال طابعه المميز وطقوسه الخاصة التي تختلف عن غيره من الاحتفالات، فالاحتفال بمولد سيدي “أبو الحجاج الأقصري” غير الاحتفال بمولد سيدي عبد الرحيم القناوي في قنا، أو سيدي أحمد الفرغل في أسيوط، ناهيك عن موالد المرسي أبو العباس في الإسكندرية، وإبراهيم الدسوقي بكفر الشيخ، وإسماعيل الإمبابي بالجيزة، فضلا عن مولد أحمد البدوي في طنطا، والذي يعد أكبر الموالد في مصر.
وتشهد مدينة أبو تيج واحدا من أكبر موالد أسيوط كلها، وأحد أشهر الموالد الصوفية في الصعيد، وهو مولد العارف بالله الشيخ أحمد الفرغل، الملقب بـ (سلطان الصعيد)، والذي يتحول مولده السنوي في منتصف يوليو من كل عام إلى كرنفال حقيقي، تشارك فيه مختلف الطرق الصوفية من شتى المدن المصرية، ويتميز بحفلات الذكر الجماعي، ومشاركة كبار المداحين، والتحطيب (اللعب بالعصا)، وتوزيع الأطعمة الشهية خصوصا حلوى (لقمة القاضي). لكن المشهد لا ينتهي هنا، فبعد انتهاء مولد سلطان الصعيد، يبدأ مباشرة مولد سيدي أبو حسيبة، المعروف بنصير الغلابة، وهو المولد الذي تقبل عليها النساء بحثا عن علاج لمشاكل تأخر الزواج أو الإنجاب.
ومن الأمور اللافتة في الموالد الأسيوطية مفهوم الزفة، الذي نجده في مولد الشيخ الفرغل، ومولد السيدة العذراء، ففي الأول نجد موكب الجمال الذي يقام في الليلة الختامية، إذ يوضع على أكبر الجمال رمز واسم الشيخ الفرغل، وبجواره عدد من الجمال عليها رموز وأسماء أشهر أتباعه، وتشارك الطرق الصوفية في هذه الزفة بالسيارات والجمال المزينة بالأقمشة الملونة، وسط أناشيد دينية تلقى، وصولا إلى ضريح الفرغل سلطان الصعيد.
ذلك المشهد قريب لزفة الأيقونة، الذي يعد أهم مشهد في احتفالات مولد العذراء بدير درنكة، إذ يتقدم أسقف أسيوط الزفة وهو ممسك بالصليب يبارك به الشعب، وخلفه أحد الشمامسة يحمل أيقونة العذراء مريم، وخلفه مجموعة كبيرة من الشمامسة بزيهم المميز، وسط إلقاء الترانيم والألحان، ومشاركة الآلاف من المواطنين من المسيحيين والمسلمين، ويدور الموكب حول الدير ثم يعود إلى الكنيسة مرة أخرى.
الاحتفالات بالأولياء والقديسين يمكن استغلالها بعد تنظيمها وإشراف الدولة عليها، في الترويج السياحي، فالكثير من بلدان العالم تستخدم مثل هذه الأجواء الاحتفالية والكرنفالات الخاصة بموالد القديسين كدعاية سياحية ناجحة وهو أمر نلاحظه بوضوح في العديد من دول أوروبا وفي دولة مثل البرازيل في أمريكا اللاتينية، التي تعد واحدة من أكبر المقاصد السياحية في ما يخص الكرنفالات، وفي مقدمتها كرنفال ريو دي جانيرو الذي يعد الأكبر في العالم ويجذب ملايين السياح سنويًا.
أبو الحجاج الأقصري.. حوار حضارات في حضرة الولي
في قلب الصعيد عاش الناس في حماية الولي، لذا لا غرابة أن تجد دولة الأولياء حاضرة في الصعيد بقوة، سيدي عبد الرحيم القناوي في قنا، والسلطان الفرغل في أسيوط، وأبو الحجاج الأقصري في الأقصر، كأشهر مقامات أولياء الصعيد، لكن الاحتفاء والاحتفال بموالد الأولياء، لا يقف عند المظهر الديني أو التدين الشعبي، بل يعكس حوارا عابرا للحضارات والثقافات، وهو ما يتجلى عند استعراض التفاصيل في جامع (أبو الحجاج) الأقصري، والتي تجبرك على التوقف مشدوها أمام هذه التركيبة الحضارية التي تلخص الكثير من فصول التاريخ المصري.
فالجامع يقف على قمة تراكم حضاري، ففي الأسفل يوجد معبد الأقصر والذي طمس تحت طبقات من الرمال، ثم بني فوقه معبد روماني وفوقه كنيسة قبطية، ثم تأتي الطبقة الحضارية الأخيرة في صورة جامع (أبو الحجاج)، وكأنه يحكي قصة مصر من الحضارة القديمة مرورا بالعصر اليوناني الروماني ثم المرحلة القبطية وصولا إلى المرحلة الإسلامية، هذا التمازج الحضاري البديع تجده في تفاصيل الجامع الفريد من نوعه، فالتداخل بين ما هو إسلامي وبين ما هو مصري قديم حاضر في كل ركن، العمدان الضخمة للمعبد القديم تتداخل مع أساسات الجامع بشكل مبهر، المنبر المنحوت في أحد أعمدة المعبد.
ويعد الموكب من أشهر مظاهر مولد سيدي “أبو الحجاج الأقصري”، وفيه تتجلى “الخلطة” المصرية الحضارية، فالموكب يشكل المشهد الأبرز في مولد (أبو الحجاج الأقصري)، فيطوف قارب (أبو الحجاج) أو المحمل الموضوع على سيارة، وكان في الزمن الماضي يحمل على جمل، والقارب المغطى بالكسوة الخضراء يتبعه 6 قوارب لعدد من الأولياء التابعين لطريقة الأقصري فضلا عن قارب أستاذ الأقصري في الطريقة، وهو القطب العارف بالله عبد الرحيم القنائي، ويعترف أبناء الطريقة أن فكرة القارب في المولد أحياء للطريقة التي تعود إلى مصر القديمة.
وهو واقع يؤكد الاستمرارية فمعبد الأقصر الذي بناه الملك رمسيس الثاني، والذي يشهد الطقس الأبرز لاحتفال عيد الأوبت، المكرس لعبادة ثالوث طيبة، والذي يشبه المولد عند المصريين القدماء، ويتضمن الموكب تماثيل ثالوث طيبة والمكون من الآلهة آمون وموت وابنهما خونسو، داخل قواربهم أو مراكبهم المقدسة في موكب احتفالي كبير انطلاقا من معبد آمون في الكرنك وعبر طريق الكباش وصولا إلى معبد الأقصر، وقد انتقل الاحتفال بتفاصيله إلى الاحتفال بمولد (أبو الحجاج الأقصري)، كأن الجينات الحضارية هي هي لم تتغير.
فنون الأقاليم.. كنوز منسية تحتاج إلى إعادة اكتشاف
في الأقاليم المصرية المختلفة الكثير من الفنون التي تستحق تسليط الضوء عليها وإعادة اكتشافها والعمل على الترويج لها على مستوى عالمي، ففي مدن القنال وخصوصا الإسماعيلية تنتشر حفلات السمسمية، وهي آلة موسيقية يشتهر بها هذا الإقليم في مصر، وعندما يمر أمامك اسم السمسية تكاد أن تسمع ألحان هذه الآلة الموسيقية الشهيرة التي باتت علما على محافظات القنال ورجالها الذين يرتدون أزياء مميزة عند أداء ألحان السمسمية، والتي يمكن استغلالها في إقامة حفلات كرنفالية لمن يزور محافظات القنال الثلاث التي تمتلك مقدرات سياحية رفيعة المستوى لكنها غير مستغلة على الوجه الأمثل حتى الآن، خصوصا الإسماعيلية التي تتميز بطبيعة خلابة وهدوء ترتاح له النفس.
إذا تركنا مدن القنال إلى مدن الدلتا سنجد حفلات الذكر وغيرها من الاحتفالات الشعبية ذات البعد الفلكلوري، بينما في الصعيد سنجد تنوعا أكبر، فهناك احتفالات مهمة مثل المرماح والذكر الليثي والتحطيب والمديح والربابة يمكن استغلالها سياحيا ودمج أصحابها في منظومة من العروض التي تحافظ على كل هذا التراث من الضياع وتنميته عبر ضم المزيد من الباحثين عن فرص عمل في قطاع يستطيع أن يتحول إلى قطاع سياحي إذا توفرت الإرادة والإدارة.
فالمرماح مثلا هو احتفال يرتبط عادة بالموالد، إذ يقام في الليلة الكبيرة لمولدي سيدي عبد الرحيم القناوي في قنا، والعارف بالله أبو القمصان في الأقصر، ويعد سباق مرماح قرية فارس بمحافظة أسوان الاستثناء الوحيد، إذ يقام هذا السباق بذاته ويقصده الفرسان بأحصنتهم من أجل المشاركة في سباق المرماح الذي يعد الأكبر في الصعيد كله، ويضم المرماح سباقا بين فرسان من مختلف مدن الصعيد في فعاليات تكشف عن تأصل تقاليد القبائل العربية في المجتمع الصعيدي، لتعطيه طابعه المميز الذي يتفاخر به أبناؤه ويحرصون على توارث هذه الاحتفالية التي يشارك فيها أبناء القبائل العربية في الصعيد، فتتحول إلى كرنفال حقيقي يشارك فيه الجميع ويتمسكون بالحفاظ على تفاصيله كأحد أهم الاحتفالات المميزة لمحافظات قنا والأقصر وأسوان.
أما الذكر الليثي فهو من الأمور التي تختص بها مراكز محافظة أسوان، وهو عادة شعبية يمزج بين الرقص الإيقاعي والذكر بقواعد خاصة بالرجال تظهر في مباريات تشهد إقبالا في حفلات الزواج، ولا تقوم الرقصة الخاصة بالذكر الليثي الذي تشبه حركاته الكثير من نقوش حركات الراقصين على جدران المعابد القديمة، على التمايل فقط، فالرقصة تنقسم بين فريقين متنافسين، كل فريق يضم سبعة أفراد يقوده راقص كبير في السن على درجة عالية من الخبرة والتمكن في أداء الذكر الليثي؛ الذي يتضمن الرقص على أنغام الدف والناي، وأشعار متوارثة مخصوصة، والتصفيق باليدين بإيقاع معين، ولا يشترط أن تؤدي الفرقتين نفس الرقصة، بل أن كل فرقة تقدم استعراضها بالشكل الذي ترتضيه تحت قيادة قائد الفريق، وتفوز الفرقة التي تقدم استعراضا أكثر انسجاما بين أعضائها بعد عرض يستمر لنحو النصف ساعة.
موكب الخليفة.. احتفالية كرنفالية تغيب عن شوارع القاهرة
وللقاهرة نصيب من هذه الاحتفالات التي تعيش عليها الكثير من المدن المصرية، ففي القاهرة موالد آل البيت، سيدنا الحسين بن علي، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة، وزين العابدين، فضلا عن احتفالات الطرق الصوفية المميزة بما في ذلك موكب الخليفة الذي يميز كل طريقة صوفية، وهو طقس يمتد في جذوره إلى العهد الفاطمي، فالموكب الصوفي ما هو إلا الموكب الذي كان يتقدمه الخليفة الفاطمي في الاحتفالات الأسطورية التي شملت القاهرة في العصر الفاطمي، وهي احتفالية تميزت بمشاركة الكثير من الفرق الاستعراضية من كبار رجال الدولة بملابس مميزة وفقا لترتيب برتوكولي معين تميز بالبذخ والتنظيم الشديدين، في العديد من الاحتفالات الدينية خصوصا احتفال أول العام الهجري.
لكن ما المانع من استعادة هذا الاحتفال بشكل فلكلوري تشرف عليه الدولة ليكون حدثا نستعيد فيه زخم التاريخ من أجل إثراء الحاضر، فيتم العمل على إحياء هذا الموكب المذكور في كتب التاريخ بتفصيل شديد، ويتم إعادة تمثيله في حاضرنا في مطلع كل عام هجري مثلا، ويكون هذا الموكب الكرنفالي المكون من فرق تمثل طوائف المجتمع بملابس مميزة بشكل تراثي حي يقدمه في شكل كرنفال باسم القاهرة ويمتلك القدرة على جذب السياح بشكل سنوي.
ويبدأ مسار ذلك الموكب من باب الفتوح شمال القاهرة التاريخية ويشق المدينة حتى باب زويلة، في مهرجان احتفالي يعيد الزخم التراثي ويكون محل جذب لحركة سياحة تحبذ الاشتراك في مثل هكذا أشكال كرنفالية من ناحية، ونعيد ربط أهالي المدينة بتراثها المديد من ناحية أخرى، ففي النهاية سيظل التراث منجما نستطيع النهل منه وإعادة تمثيله بأشكال مختلفة لإغناء الحاضر مرة بتقديم أشكال كرنفالية قادرة على جذب المزيد من السياح، ومرة أخرى بتقديم احتفالات قادرة على إعادة ربط الأجيال الشابة بتراث بلدهم وتعريفهم به بشكل جذاب.
هذه الأفكار لكي تتحول إلى واقع تحتاج إلى عقليات أكثر انفتاحا لا تكتفي بما تتحصل عليه مصر من مردود سياحي من خلال السياحة التقليدية، أو الكيفية التي تدار بها الشؤون التراثية في البلاد حاليا، فنحن نحتاج إلى تطوير الأنظمة والهيئات القائمة على الحفاظ على التراث من ناحية، وكذلك تطوير الهيئات المعنية بالسياحة وتنشيطها من ناحية أخرى، فالعقول يجب أن تكون أكثر انفتاحا ومرونة في البحث عن أشكال جديدة من السياحة الكرنفالية التي تعتمد أساسا على الرعاية بالبشر من أصحاب المكان وحماة التراث الحي في قلب الريف المصري سواء في الصعيد أو الدلتا، فأي مشروع في هذا الصدد يجب أن يعتمد أولا وأخيرا على العنصر البشري، أي ابن المكان الذي يستطيع وحده أن يستخرج لنا روائع التراث المصري بشكل حي ومنتمي لبيئته.