الإجابة الأكثر مباشرة على هذا التساؤل هي بالإيجاب؛ فسوء إدارة الولايات المتحدة لأمن وصراعات المنطقة منح القوى الدولية المنافسة؛ أي الصين وروسيا الفرصة لتوسيع دوائر نفوذهما في المنطقة في ظل الانسحاب الأمريكي. إلا أن الإجابة الأعقد ستشير إلى عدة حقائق، أولها أن الولايات المتحدة لم تنسحب كليًّا من المنطقة، وأن الشرق الأوسط، كما النظام العالمي، يمر بمرحلة انتقالية لم تسفر بعد عن بنية أمنية مستقرة، وأن القوى المنافسة للولايات المتحدة، على الرغم مما حققته من تقدم ملحوظ في التأثير على صراعات المنطقة، إلا أنها لم تمتلك بعد استراتيجية شاملة وأدوات كافية للحلول محل الولايات المتحدة. الأهم من هذا أن تغير بنية النظام الإقليمي، وفي القلب منه دور الولايات المتحدة، قد يمنح دول المنطقة فرصة تاريخية لإعادة ترتيب أمنها وفقًا لضروراتها وحقائقها، لا على وقع صراعات القوى الدولية.
إرث الدور الأمريكي في المنطقة
من الحقائق التاريخية أن منطقة الشرق الأوسط قد ولدت وتسمت في ظل السياسة الاستعمارية للقوى الأوروبية خاصة بريطانيا وفرنسا منذ نهاية القرن التاسع عشر مرورًا بتفكيك إرث الدولة العثمانية والإمبراطورية القاجارية حتـى نهاية الحرب العالمية الثانية. كان الاستعمار الأوروبي هو من ابتكر الحدود الفاصلة التـي صنعت المشرق العربي، ووضعت تركيا على حافة أوروبا، وبين دول الجزيرة العربية، والعراق وفارس. وهو من ذرع إسرائيل في أرض فلسطين. كما أن الاستعمار البريطاني، وفي إطار ترتيبات نهاية الحرب العالمية الثانية كان الداعم لإنشاء منظمة إقليمية عربية، وانضمام الدول العربية المستقلة إلى المنظمة الأممية الوليدة، الأمم المتحدة. بشكل أو بآخر، نجح الاستعمار الأوروبي في التأسيس لبنية النظام الإٌقليمي في المنطقة.
بعد سبعة عقود من نهاية الاستعمار الغربي في المنطقة، وانخراط الولايات المتحدة في شؤونها أثناء وبعد الحرب الباردة، يكلل الإخفاق إرث واشنطن في المنطقة. لم تفلح سياسات الولايات المتحدة في المنطقة في بناء نظام أمنـي مستقر، كما لم تتمكن من حل أزماتها المستعصية التي ربما ساهمت في تعميقها. والأخطر من ذلك أن محاولاتها للتدخل المباشر لإعادة هيكلة المنطقة أنتج سياسات عكسية لم يكن يتخيلها مصممو سياسات الشرق الأوسط الكبير أو الجديد. أما أبرز نجاحات الولايات المتحدة كان آلية حفظ توازنات المنطقة، من خلال مد مظلة الحماية لحلفائها، ودعمهم عسكريًّا واحتواء خصومها، خاصة إيران. وفي هذا الصدد، لم يكن نجاح الولايات المتحدة بالكبير، إذ سرعان ما ثبت فشل احتواء المد الإيراني، وعدم ثقة الحلفاء في نوايا واشنطن.
لماذا أخفقت واشنطن في المنطقة؟
«في الحقيقة، فإن الأمل والتفاؤل مكونات أساسية للبراءة التـي تشكل منطق انخراط الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط. فلما نشغل أنفسنا بتغيير مثل هذه المنطقة المضطربة لما لم نعتقد أنه بإمكاننا، ومن الضروري، القيام بذلك؟ إلا أن الجانب المظلم للتفاؤل يتمثل في السذاجة النابعة من الجهل والغرور وهو ما يجعلنا عاجزين دائمًا عن الفهم.» يلخص هذا المقطع من كتاب الدبلوماسي الأمريكي المخضرم مارتن إنديك “أبرياء في الخارج: رواية شخصية لدبلوماسية السلام الأمريكية في الشرق الأوسط” الكثير عن جوهر أزمة السياسات الأمريكية في المنطقة، البراءة المتولدة عن الغرور والجهل الذي يؤدي دائمًا إلى سياسات خاطئة، إن لم تكن كارثية. فتدمير المنطقة أو إشاعة الفوضـى فيها كان آخر أمنيات الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ نهاية الحرب الباردة، خلا بعض السياسيين الذين يشاركون اليمين المسيحي المتطرف تصوراته عن نهاية العالم. ويمكن إيضاح أسباب الفشل الأمريكي في المنطقة في التالي:
- الجهل العميق بمجتمعات وتاريخ المنطقة: على النقيض من القوى الاستعمارية الغربية، لم تفلح الولايات المتحدة في تكوين معرفة حقيقية بالتاريخ المعقد للمنطقة. في المقابل، قادت الولايات المتحدة تصورات استشراقية عامة عن دور الدين في مجتمعات الشرق الأوسط، وموقفها من العلمانية على نحو جعل هندسة الدستور العراقي تحت الاحتلال أقرب إلى الدستور الإسلامي، وجعل من الإسلاميين المعتدلين طرفًا رئيسًا في تصورات واشنطن عن نمط الديمقراطية الملائم لشعوب المنطقة، أو دور السياسات الطائفية. لم يكن الأمر مجرد جهل مبسط بتاريخ المنطقة بل رفض متعمد للتعقيدات التاريخية. يروى عن وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر أن عبارة “اللي فات مات” كانت أول ما نطق به لدى وصوله مطار القاهرة أثناء حرب أكتوبر 1973. وكان هذا المنطق المعادي للتاريخ أوضح ما يكون في مبادرة ترامب للسلام المعلنة في يناير 2020 والتـي تجاوزت تعقيدات التاريخ والجغرافيا معًا وعبرت عن رفض للثوابت القانونية التي شكلت أساس الموقف الأمريكي منذ صدور القرار الأممي 242 في 1967. المفارقة أن هذا الجهل يتناقض مع تقدم الجامعات الأمريكية في دراسات الشرق الأوسط، والكم الهائل من التقارير التي أصدرتها وتصدرها مراكز الفكر الأمريكي.
- أولوية الأمن على الاقتصاد: يعتبر السلام الاقتصادي أحد المكونات الرسمية لسياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة. إلا أنها في الحقيقة لم تستثمر في اقتصادات أو تنمية المنطقة، إذا ما استثنينا اهتمام الشركات الأمريكية المبكر ببترول الجزيرة العربية وبرنامج المساعدات الأمريكية لدول المنطقة النامية. اعتمدت واشنطن في هذا الجانب على حلفائها الأوروبيين، كما تصورت لاحقًا أن تمول بلدان الخليج تصورها عن السلام الاقتصادي في فلسطين. في المقابل، تفرغت واشنطن لتصدير السلاح للمنطقة، حيث ما زالت هي المصدر الأول للسلاح تأتي بعدها روسيا وفرنسا بفارق شاسع. لم تكن نتيجة هذا القصور اقتصادية فحسب بل أيضًا ثقافية إذ أصبحت الولايات المتحدة في معظم تصورات شعوب المنطقة مجرد قوة عسكرية غاشمة لا تسعى إلا إلى ابتلاع ثروات المنطقة واستدامة الصراعات. وهي صورة لم تستطع قوة الثقافة الأمريكية أن تقصيها.
- استحالة القيام بدور “الهيمنة” على المنطقة: من الصعب لأية دولة، مهما كانت قوتها، أن تلعب دور الإله على الأرض. تصورت الولايات المتحدة ضمن الحرب على الإرهاب إمكانية القيام بمهام مركبة تضمنت، مكافحة الإرهاب، وهدم وإعادة بناء الدول والأمم ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وغير ذلك. إلا أن تجربة الاحتلال المباشر للعراق أوضحت استحالة القيام بكل هذه المهام حتـى على نطاق البلد الواحد. لقد أدى الاحتلال إلى الفوضـي الأمنية ومزيد من الحركات الإرهابية بداية من القاعدة وصولاً إلى داعش. ولم تفرز الديمقراطية الانتخابية إلا محاصصة طائفية هشة وفساد وضعف للدولة على نحو أضعف حتـى دعاوى التحول الديمقراطي في بقية بلدان المنطقة. والمفارقة أن الاحتلال لم يؤد إلى ردع خصوم واشنطن بل عزز من موقفهم، وهو ما أدى اختلال التوازن الذي حافظ عليه وجود دولة قوية في العراق في مواجهة إيران.
-
هل انسحبت الولايات المتحدة من المنطقة؟
لم تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية من المنطقة كليًّا، إذا كنا نتحدث عن انسحاب كالذي وقع مع تصفية الاستعمار الغربي وانسحاب بريطانيا من محمياتها شرق السويس في الخليج العربي وعدن. لكن ما يحدث يجدر وصفه بانسحاب واشنطن من التزاماتها تجاه صراعات المنطقة، وتغير دورها كالمهيمن على بنية الأمن الإقليمي. منذ عهد إدارة أوباما، حددت واشنطن التزاماتها تجاه المنطقة بالعناصر التالية:
- حماية إمدادات البترول من المنطقة إلى العالم؛
- الحفاظ على أمن الممرات المائية عبر المنطقة؛
- الحفاظ على أمن إسرائيل؛
- الحفاظ على منع الانتشار النووي؛
- مكافحة الشبكات الإرهابية.
ليس من بين هذه الأولويات حل الصراعات الجارية والمزمنة في المنطقة. ومع ذلك، طرأت تغيرات على هذه الأولويات. لم تعد واشنطن ترى أن من واجبها الحصري الدفاع عن إمدادات البترول وأمن الممرات المائية وأن القوى الدولية الأخرى صاحبة المصالح عليها أن تقوم بدورها في هذا الصدد بدلاً من الاتكال على القوة الأمريكية. كذلك أصبحت أكثر أمنًا وأقل اعتمادًا على مظلة الحماية الأمريكية. وبالتالي لم يبق من أولويات غير مكافحة الإرهاب والحفاظ على منع الانتشار النووي، وهي أولويات تستلزم التعاون بين الأطراف الدولية والإقليمية، وبتني دبلوماسية متعددة الأطراف.
وعلى الرغم من انسحاب الولايات المتحدة عسكريًّا من العراق في 2011، وعدم التزامها بالتواجد العسكري الدائم، إلا أنها حريصة على الإبقاء على قواعدها العسكرية عبر المنطقة، في الخليج والقرن الأفريقي والبحر المتوسط، وهي نقاط تماس مع خصومها، الصين وروسيا وإيران، ومن الصعب التخلي عنها على الأقل في الأمد المنظور. كذلك، لم تراجع الولايات المتحدة خطط تسليح جيوش المنطقة، وعلى الأرجح أنها ستظل المورد الرئيس لسلاح المنطقة، وربما ستقاتل للحفاظ على هذا المركز المتقدم الذي يتيح لها التأثير في بعض نقاط القرار. كذلك، طورت إسرائيل مع واشنطن علاقات دفاعية متبادلة يصعب التملص منها نظرًا لعوائدها على صناعة السلاح الأمريكي.
ما هي حدود الدورين الصينـي والروسـي في المنطقة؟
لا شك أن تغير الدور الأمريكي يمنح منافسيها فرصة أكبر لملء الفراغ الذي تتركه في المنطقة. وهو ما اتضح في الدور الكبير الي أصبحت تلعبه موسكو في إدارة الصراع في سوريا مع الشركاء الإقليميين خاصة إيران وتركيا، وكذلك دورها المؤثر على ساحة الصراع الليبي، وسعيها إلى بناء شركات مع حلفاء واشنطن التقليديين؛ في الخليج وإسرائيل، وزيادة اهتمامها بملفات الطاقة في المنطقة الممتدة من شمالي العراق إلى جنوب ليبيا مرورًا بشرق المتوسط. كذلك، برزت في الآونة الأخيرة زيادة الاهتمام الصيني بالمنطقة على أساس جيواقتصادي يرتكز على محورية النفط والطاقة بالنسبة لسياسة الصين الشرق الأوسطية بالإضافة إلى وقوع ممرات المنطقة في القلب من مبادرة الحزام والطريق. فضلاً عن هذا، تراكمت إشارات عن اهتمام الصين بأمن المنطقة الذي قد يتماس مع مصالحها الاقتصادية الرئيسة فيها.
ومع ذلك، لا تسعى أي من القوتين إلى الهيمنة على المنطقة أو لعب الدور الذي قامت به الولايات المتحدة، أو بمعنى آخر، ارتكاب الأخطاء التـي ارتكبتها واشنطن، حتـى لو امتلكت كل منهما الأدوات اللازمة لذلك. وفي الحقيقة، تفتقد كلتا القوتين لمثل هذه الأدوات والموارد اللازمة للقيام بدور المهيمن. فمن ناحية، وكما أوضحنا في موضع آخر، لا تمتلك موسكو القوة الاقتصادية الكافية لدعم اقتصادات المنطقة خاصة تلك في البلاد الممزقة بسبب الصراعات. ومن ناحية أخرى، تفتقد بيجين القوة العسكرية الضرورية لفرض السلام أو حل الأزمات، أو الرغبة في إنفاق الموارد الاقتصادية في منطقة لا تتماس مباشرة مع حدود أمنها القومي. على الأرجح أن كلتا القوتين ستسعيان للحفاظ على مصالحهما في المنطقة دون تجاوز ذلك لمحاولة إعادة تشكيل المنطقة.
فرصة تاريخية أمام المنطقة
بالنسبة للكثيرين قد يبدو الدور المتغير للقوى الدولية في المنطقة بمثابة “أخبار سيئة”، فالولايات المتحدة تود الانسحاب من التزاماتها تجاه الشرق الأوسط، فيما لا ترغب ولا تقدر كل من روسيا والصين على ملء هذا الفراغ، أو معالجة الأزمات التـي خلقتها السياسة الأمريكية والغربية في المنطقة. بالنسبة لهؤلاء، فإن هذه الوضعية ستديم حالة الفراغ الأمني التي تعاني منها المنطقة وتعمق الفوضـى الأمنية التي تضرب جنباتها. إلا أنه في الحقيقة أن هذا الفراغ يمثل فرصة تاريخية أمام قوى المنطقة العربية وغير العربية لإعادة صياغة النظام الإقليمي على أساس يعكس مصالح هذه القوى بدلاً من أن يخضع أمن المنطقة لديناميات الصراع والتعاون بين القوى الدولية. ومنذ نشأة النظام الإقليمي على خلفية تفكك الدولة العثمانية واقتسام الاستعمار لبلدان المنطقة، لم تشهد المنطقة لحظة تحرر من تأثير القوى الغربية مثل اللحظة الجارية. حتـى مع التأثير الكبير الذي أحدثته الحركة القومية العربية وتصفية الاستعمار في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كانت ظلال الحرب الباردة ثقيلة ومؤثرة على تفاعلات المنقطة.
وفي الحقيقة، أن هذه الإمكانية تأخذ في التحقق شيئًا فشيئًا، ويمكن أن نرصد مؤشراتها في عدد من التحولات:
- تزايد اتجاه النخبة الجديدة في دول الخليج للاعتماد على الذات في تحقيق أمنها بدلاً من الاعتماد كليًّا على الولايات المتحدة. يتضح هذا في سياسات التسلح والتدخل العسكري المباشر في صراعات مثل اليمن وليبيا.
- مبادرة دول المنطقة لبناء منظمات لأمن بعض المناطق الفرعية. والمثالان الأبرز لذلك منظمة منتدى غاز شرق المتوسط بمبادرة مصرية في يناير 2019، ومنظمة الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن بمبادرة سعودية.
- مبادرات للتعاون الإقليمي والتكامل الاقتصادي، والمثال الأبرز على هذه المبادرة مشروع التعاون الثلاثي بين مصر والعراق والأردن، المعروف بالشام الجديد، والذي ينتظر التوسع ليضم سوريا ولبنان، وربما غيرهما.
- الاتجاه المتزايد نحو تهدئة الصراعات الجارية، ونشهد ذلك في آلية التهدئة في سوريا برعاية روسية وتركية وإيرانية، ومسار التسوية في ليبيا المتفق عليه منذ أكتوبر 2020، ونهاية الأزمة القطرية مع الرباعي العربي مع بداية العام الجاري.
- الانحسار الملحوظ لمخاطر الإرهاب على أمن وسلامة بلدان المنطقة. سواء كان هذا بفعل الهزيمة العسكرية لداعش والقاعدة في العراق وسوريا أو تراجع تأثير الدعاية المتطرفة، فإنه يمنح المنطقة فرصة لالتقاط الأنفاس والتهدئة.
بالطبع قد تفوق الحقائق المركبة للصراعات مثل هذه التحولات الإيجابية، إلا أن هناك فرصة لائحة للبناء عليها وتأسيس بنية أمن إقليمية أكثر شمولاً واستقرارًا من تلك التـي حاولت الولايات المتحدة فرضها بناء على أساس الموازنات والاحتواء وحصار الخصوم. وربما كان مؤتمر الأمن والتعاون الإقليمي في بغداد في أغسطس 2021 انعكاسًا لتوافق دول المنطقة على عدد من المبادئ الضرورية للتعايش. لا يعنـي هذا بالطبع أن امتلاك قوى المنطقة لقياد الإقليم أن دور الخارج سينتهي، بل سيظل حاضرًا ومؤثرًا ولكن بحدود تعكس مصالح الأمن الجماعي للإقليم.