تلعب أجهزة الاستخبارات الأوروبية أدوارًا تقليدية في أفريقيا تتعلق بالأساس بالاستئثار بالفرص التي توفرها الأخيرة واستدامة الصلات مع نخبها الحاكمة وتوفير دعم معرفي لنجاعة سياسات الدول الأوروبية في أفريقيا وضمان حصة أوروبا مستقبلًا في مناطق نفوذها التقليدية في مواجهة توسع صيني ملفت، وروسي أقل قوة لكن يحدو كل منهم طموح استخباراتي وأمني في أفريقيا على نحو غير مسبوق.
أدوات النفوذ الأوروبية في أفريقيا
حضرت أفريقيا في تصورات وأنشطة أجهزة الاستخبارات الأوروبية، لاسيما الفرنسية والبريطانية، بحكم الشراكات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تربط بين القارتين، كما تصدرت أفريقيا أولويات أوروبا الموحدة 2024 وفق مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المكونة من أربعة نقاط رئيسة تعلقت النقطة الأولى منها بضمان الجوانب الأمنية، وحاجة أوروبا لتكوين قوة تدخل، وموازنة دفاع، وتطبيق آليات صندوق الدفاع الأوروبي. أما فيما يخص مسألة محاربة الإرهاب فرأت المبادرة حاجة اوروبا لصلات أوثق بين أجهزة استخباراتها عبر تكوين “أكاديمية استخبارات أوروبية”. وإلى جانب هذه الخطط الطموحة، التي لم يحظ بعضها بدعم ألماني صريح، تملك أوروبا العديد من أدوات النفوذ المؤسساتية والسياسية أهمها:
أجهزة الاستخبارات
يبرز في هذا السياق جهازا الاستخبارات الفرنسية والبريطانية كأنشط أجهزة الاستخبارات الأوروبي عملًا في أفريقيا. وقد تشكلت الإدارة العامة للأمن الخارجي الفرنسية بشكلها الحالي في العام 1982 بعد عام من فوز الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران وما تردد عن عدم ثقته في جهاز الاستخبارات الفرنسية حينذاك. وتميز جهاز الاستخبارات الفرنسي بإفادة الشركات الفرنسية العاملة في أفريقيا بشكل ملحوظ؛ بفضل حجم المعلومات الهائلة المتاحة، ومكانة المؤسسات الفرنسية كنقطة مرجعية دولية للاستخبارات الاقتصادية في أفريقيا، وكذلك انتقال عدد من كبار المسئولين بالاستخبارات العسكرية الفرنسية إلى الشركات الكبرى. وفي مواجهة الخطط الفرنسية الطموحة رفضت ألمانيا مرارًا فكرة تكوين وكالة استخبارات أوروبية “موحدة” ورأت الاكتفاء باليوروبول Europol المعني بفرض القانون، ومركز الاتحاد الأوروبي للاستخبارات المعني بتقديم التحليلات الاستخباراتية والإنذار المبكر للمسئولين الأوروبيين.
وفي سياق التنافس البريطاني- الفرنسي التقليدي شكل استهداف المخابرات البريطانية لدبلوماسيين ومسئولين ومنظمات دولية وغير حكومية في أفريقيا تقليدًا راسخًا. وقد كشفت اختبارات فنية فرنسية تجسس بريطانيا على السفارة الفرنسية في انجامينا بالنيجر. كما تتبعت بريطانيا بانتظام أنشطة شركة أريفا Areva الفرنسية في أفريقيا لاسيما عقب توقيعها اتفاقًا للشراكة مع النيجر لاستغلال مناجم اليورانيوم، واتفاقًا مماثلًا مع كينشاسا، إلى جانب الاستهداف المنتظم لشركة توتال الفرنسية.
ويتوقع أن ترتفع حدة المنافسة “الاستخباراتية” الفرنسية- البريطانية في ظل عدة تطورات منها تراجع فرنسا اقتصاديًا، وتصاعد التحديات التي تواجه دورها، مقابل إعادة توجيه بريطانيا سياساتها، لاسيما الاقتصادية، تجاه أفريقيا عقب القمة البريطانية الأفريقية التي جرت مطلع العام الجاري.
الاتصالات وبرمجيات الذكاء الاصطناعي
تنشط عدة شركات فرنسية بارزة في مجال تكنولوجيا التجسس في أفريقيا مثل شركة Amesys وشركة Ercom and Suneris Solutions. كما نشرت فرنسا منذ العام 2010 برمجيات ” سيريبرو” Cerebro من إنتاج شركة أميسيس في عدة دول أفريقية. وتستحوذ إركوم (التي يقع مقرها وأغلب الشركات المشابهة على بعد خطوات من مقر قيادة العمليات الخاصة بالجيش الفرنسي في ضاحية فيلاكولبلاي Villacoulblay بجنوب غرب باريس)على حصة معتبرة في السوق الأفريقي. كما افتتحت فرنسا في نوفمبر 2018 مدرسة متخصصة في تدريب المسئولين الأفارقة في مجال الأمن السيبراني في العاصمة السنغالية داكار ، وجهزت المدرسة شركة Thales وبدعم من وزير الدفاع الأسبق شارل ميلون C. Millon (1995-1997)، ومبعوث Suneris في الوقت نفسه.
وفي ظل حضور إسرائيلي ملفت في قطاع الأمن السيبراني، شكلت المنافسة الأوروبية عنصرًا فاعلًا فقد نجح بريطانيون ودانماركيون بشركة BAE Systems في إيجاد مواطئ قدم في جنوب افريقيا والجزائر والمغرب وتونس. كما توصلت Gamma Group الإنجليزية- الألمانية إلى عقود في كينيا ونيجيريا وجنوب أفريقيا وانجولا ومصر والمغرب، بينما رسخت Trovicor -التي استحوذت عليها شركة نيكسا Nexa Technologies الفرنسية- حضورها أفريقيًا. وتمكن الإيطاليون بشركة Hacking Team من فتح منافذ لهم في عدة دول أفريقية.
ويشكل النفوذ السيبراني الأمريكي والصيني في إقليم الساحل تهديدًا لمكانة فرنسا، وعلى سبيل المثال فقد اعتمد قائد القوات الخاصة الفرنسية في المنطقة في مايو 2019 على أحد الأقمار الصناعية الأمريكية في إطلاق عملية استعادة أحد الأسرى، كما قرر الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا مؤخرًا التعاون مع الشركاء الصينيون “الأكثر انفتاحًا في مشاركة المعلومات” مقارنة بالفرنسيين. فيما قررت فرنسا منذ منتصف ديسمبر 2019 استخدام المسيرات العسكرية أمريكية الصنع عبر نشر مسيرات ريبر Reaper (التي كانت تستخدم لتقديم دعم تجسسي للبعثة منذ العام 2014 لكنها طورت أمريكيًا بحيث تكون قادرة على ضرب أهداف بشرية دقيقة) المجهزة بصواريخ موجهة بالليزر.
مسارات الهيمنة
تتنوع مسارات الهيمنة في أنشطة الاستخبارات الأوروبية في أفريقيا في علاقة عضوية وتبادلية:
“لعنة الموارد” ومكافحة الهجرة
يشكل السعي وراء الموارد الأفريقية مسارًا هامًا في عمليات أجهزة الاستخبارات الأوروبية. وقد تركز اهتمام فرنسا في جمهورية أفريقيا الوسطى (كما الحال في النيجر ومالي) الغنية بالماس والذهب واليورانيوم، وكذلك مواجهة أية دولة أخرى تسعى لاقتسام حصتها في الدولة الأفريقية؛ ولذلك كونت فرنسا شبكة سرية شملت سياسيون ورجال أعمال ووكلاء لأجهزة الاستخبارات لحماية مصالحها؛ وتمكنت بمساعدتهم من الاستحواذ على أغلب مواردها.
ومع ارتقاء مسألة الهجرة قمة أجندات قادة أوروبا وتبني خيارات مواجهة موجاتها، استخدم جزء كبير من موازنة معونات الاتحاد الأوروبي واتفاقات التعاون الخارجية لتشجيع الدول الأخرى (خاصة الأفريقية) وتمكينها من مراقبة أوثق لمواطنيها وتعزيز السيطرة السياسية. واقترحت المفوضية الأوروبية في العام 2018 مسودة لإدارة حزمة المساعدات في الفترة 2021-2027 شملت مخصصات ضخمة لخفض الهجرة القادمة من أفريقيا كأولوية قصوى. بينما يمول صندوق ائتمان الاتحاد الأوروبي لأفريقيا (الذي وصلت موازنته في منتصف العام 2019 إلى 4.6 بليون دولار) العديد من مشروعات المراقبة لوقف الهجرات العشوائية إلى أوروبا.
احتواء النخبة السياسية والسلطات المحلية
تستهدف أنشطة الاستخبارات الأوروبية في أفريقيا استمالة النخب الحاكمة واحتواءها بشكل واضح؛ لمواجهة ما تعتبره تهديدات لأمن الدول. وتعمل شركة Suneris الفرنسية على تطوير نظم التنصت على الهواتف لصالح حكومات دول أفريقية. كما توظف شركات إسرائيلية بارزة في تقديم تكنولوجيا المعلومات لدول أفريقية العديد من المسئولين الاستخباراتيين الفرنسيين؛ فقد استخدمت NSO Group –على سبيل المثال- السفير الفرنسي الأسبق في تل أبيب جيرارد أرود G. Araud (2003-2006) مستشارًا لها “لحماية حقوق الإنسان والخصوصية.” فيما تواجه الشركة انتقادات منذ العام 2016 لتطويرها برنامج “بيجاسوس” للتجسس الذي يسمح لمستخدميه بالتجسس على هواتف دعاة حقوق الإنسان وأعضاء المعارضة في رواندا والمغرب وأوغندا.
وتعزيزًا لدورها في دعم النخب الحاكمة والحفاظ على مؤسساتها ومواجهة التهديدات، سعت الاستخبارات العسكرية الفرنسية DRM بقوة وراء التكنولوجيا الحديثة لدعم القوات المسلحة في المجال، والاستفادة من قدرتها لمساعدة المحللين في تقييم التهديدات. كما تسعى الاستخبارات إلى القيام بدراسات أكاديمية لفهم أفضل للخلفية السوسيولوجية والثقافية للمقاتلين المناوئين. وتقدم المخابرات العسكرية تدريبات للنظراء على أساس ثنائي في قوة الساحل G5 في إقليم الساحل وتتطلع إلى تعاون أوثق والوصول إلى اتفاق حول “السيطرة الدائمة على الحدود” بين دول قوة G5 (بوركينا فاسو، موريتانيا، النيجر، تشاد، مالي)، وتعزيز منتجاتها الاستحباراتية في عملية براخان (وعملية تاكوبا Takuba المقررة في العام الجاري)، إضافة إلى دول أخرى.
ورغم التقدم الأوروبي في مجال العمل الاستخباراتي في أفريقيا فقد ظهرت مخاوف أوروبية حقيقية تلت كشف شركة PROTEI الروسية (التي تسوق منتجات طورها جهاز الأمن الفيدرالي الروسي) خلال قمة روسيا- أفريقيا في سوتشي (أكتوبر 2019) عن خططها التوسع في أفريقيا، إضافة إلى نشاطها الملموس في دبي صاحبة المصالح الهائلة في أفريقيا. لكن فرنسا تحديدًا تتخوف بشكل أكبر من الوجود الصيني في غرب أفريقيا حيث تهيمن شركة هواوي على شبكة الاتصالات في الإقليم، وفق ما رصدته تقارير إعلامية (أغسطس 2019) عن كيفية مساعدتها للسلطات المحلية في زامبيا واوغندا في التجسس على مناوئيها.
بين مواجهة الإرهاب وصناعة العدو
تواجه جهود فرنسا لمواجهة الإرهاب، والتي تقوم في شق كبير منها على أدوار الاستخبارات الفرنسية، في إقليم الساحل تحديدًا صعوبات متزايدة دفعت الرئيس الفرنسي ماكرون إلى تبني مبادرة “الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في الساحل.” بهدف زيادة فعالية الجهود في مجالي الدفاع والأمن الداخلي والترتيبات عبر الحدود القائمة (قوة مهام الساحل G5). وإقرار شراكة دينار Partnership of Dinard (المعلنة في فرنسا في أبريل 2019) بهدف مواجهة التهريب في الساحل بالتوافق مع الشراكة من أجل الأمن والاستقرار.
وفي المقابل تواجه فرنسا اتهامات أفريقية متصاعدة بالتخاذل أو بضلوعها في دعم أنشطة إرهابية. وعلى سبيل المثال فقد اتهم رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى بوستين- أرشينج تواديرا – عبر قناة فرانس 24- الفرنسي كريستوف ريناتو C. Renato (المسئول السابق بالإدارة العامة للأمن الخارجي DGSES) بالنشاط الإرهابي وصلاته القوية مع جماعات المعارضة شبه المسلحة وتنظيم عملية إرهابية في كاتدرائية فوستينا بتنسيق مع جماعة السيليكا Seleka الإسلاموية المسلحة في مايو 2018 ومقتل 26 مواطنًا؛ عطفًا على تأكيد مصادر محلية تكوين الاستخبارات الفرنسية جماعة سيليكا ودعمها بأكثر من مائتي موجه لتدريب مسلحيها.
خلاصة
تعزز أجهزة الاستخبارات الأوروبية استدامة مصالح دولها في القارة الأفريقية عبر ضمان تدفق الموارد منها بشروط تقليدية، واستمالة النخب الحاكمة والحفاظ عليها، ويتم ذلك عبر أدوات نفوذ تقليدية تجنح إلى استخدام تقنيات متطورة لبقاء هذه الأدوار ومردوداتها لصالح مزيد من الهيمنة وصيانة المصالح المتبادلة.
مراجع:
- President Macron’s Initiative for Europe: A sovereign, united, democratic Europe, France Diplomatie, https://www.diplomatie.gouv.fr/en/french-foreign-policy/europe/president-macron-s-initiative-for-europe-a-sovereign-united-democratic-europe/
- Philip Kaleta, Germany rejects creating European intelligence agency, October 5, 2017 https://www.politico.eu/article/germany-rejects-creating-european-intelligence-agency/
- Africa: France Supporting Terrorism in Africa? Ghanaian times, December 4, 2019 http://www.ghanaiantimes.com.gh/france-supporting-terrorism-in-africa/
- The terrorist threat and France’s action in the Sahel, France Diplomatie, https://www.diplomatie.gouv.fr/en/french-foreign-policy/security-disarmament-and-non-proliferation/terrorism-france-s-international-action/article/the-terrorist-threat-and-france-s-action-in-the-sahel
- France and economic intelligence, Tarlogic, November 6, 2019 https://www.tarlogic.com/en/blog/france-and-economic-intelligence/
- Simon Piel et Joan Tilouine, British tapped UN and NGO phones and emails in Nigeria and Congo, Le Monde Afrique, December 8, 2016 https://www.lemonde.fr/afrique/article/2016/12/08/british-tapped-un-and-ngo-phones-and-emails-in-nigeria-and-congo_5045681_3212.html
- Mathieu Olivier, Inside Africa’s increasingly lucrative Surveillance Market, Belt & Road, February 5, 2020 https://www.theafricareport.com/22841/inside-africas-increasingly-lucrative-surveillance-market/
- The EU Funds Surveillance Around the World: Here’s What Must be Done About it, Privacy International, September 18, 2019 https://privacyinternational.org/long-read/3221/eu-funds-surveillance-around-world-heres-what-must-be-done-about-it
- Pierre Tran, French intelligence agency wants AI to help sort masses of raw data, C41SRNET, February 5, 2020 https://www.c4isrnet.com/global/europe/2018/02/05/french-intelligence-agency-seeks-ai-to-support-analysts/
- France deploys armed drones in the Sahel region, DW, December 19, 2019 https://www.dw.com/en/france-deploys-armed-drones-in-the-sahel-region/a-51744023