تلعب التكنولوجيا دورًا حاسمًا في أغلب الصراعات المسلحة، ودائمًا ما أدى تفوق أحد الأطراف في تطوير التكنولوجيا وتطويعها إلى ميل ميزان القوى لصالحه. لقد حوّلت الثورة الصناعية استراتيجيات الحروب وأدواتها، ولعبت دورًا رئيسًا في هيمنة الإمبراطورية البريطانية على بقاع كثيرة من العالم، وكانت الحرب العالمية الثانية مسرحًا لاستعراض التقدم التكنولوجي؛ وهي المسألة التي تم حسمها بعد تفوق دول الحلفاء على المحور في مجال السيادة الجوية، واستخدام الولايات المتحدة للقنبلة النووية، في مشهد حاسم صاغ مُقدمات المرحلة التالية لصالح أكثر الأطراف تطورًا من الناحية التكنولوجية.
لم يكن الشرق الأوسط بعيدًا عن هذه التطورات التقنية، وربما كان الصراع بين بلدان المنطقة والغرب منذ الحقبة الاستعمارية امتدادًا للخلل في الميزان التكنولوجي بين الشرق الذي وقع ضحية للغزو والغرب الغازي. كذلك انعكست حقبة السلاح النووي على الشرق الأوسط أيضاً، وبعد قرون من سيطرة قوى أجنبية على السُلطة في الإقليم، ظهرت موجة الدول المُستقلة الجديدة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كما ظهرت إسرائيل كقوة نووية تَتفوّق في موازين القوى بالمنطقة، ثم أدى تطور تكنولوجي في مجال التنقيب عن النفط إلى تحقيق تغيير جديد في موازين القوى؛ حيث أصبحت المنطقة الغربية أسيرة لميزان قوة تُسيطر فيه القوى النفطية على مساحة ليست بقليلة، ونستطيع أن نلمس اليوم مدى تأثير دول مجلس التعاون الخليجي على بؤر الصراع المُختلفة بالشرق الأوسط، وهو صراع ما زال تقليديًا؛ حيث يقوم بالأساس على المواجهات العسكرية، ويتضمن كذلك أدوات أخرى تلعب أدوارًا مُكمًّلة مثل الاقتصاد والأسلحة الكيمائية وحروب المعلومات والسيبرانية؛ في نمط يُفضل البعض تسميته بـ “الحرب الهجينة Hybrid war””.
ألقت أزمة فيروس كورونا بظلالها على صراعات المنطقة؛ لتفتح الباب أمام أسئلة جديدة حول التحولات التـي قد تطرأ على طبيعة الصراعات في المستقبل القريب؛ ومنها أسئلة حول الحروب البيولوجية ومستقبل النفط واقتصاديات المنطقة، وكان من الأسئلة الأكثر رواجاً هي المُتعلقة بقضية الذكاء الاصطناعي، سيما مع قيام العديد من الدول بالترويج لاستخدام هذه التكنولوجيا في مواجهة الفيروس، ومنها؛ حيث كثفت الأزمة من اتجاه لدول المنطقة لتقنيات وآليات ذكية للتعامل مع تداعيات الأزمة، وهو ما يعنـي إمكانية نقلها إلى المجال العسكري. وبالتالي أصبح استشراف مدى تأثير هذه التكنولوجيا على مستقبل الصراعات في المنطقة قضية ضرورية، سواء على صعيد طبيعة الصراع وأطرافه، أو أدواته وتقنياته، وهو ما نحاول تطبيقه في هذا المقال بشكل مبدئي باستخدام السيناريوهات المستقبلية الحدسية، والتي تقوم على محاولة استشراف المستقبل في ضوء تحليل المعطيات الحالية.
معطيات الوضع الراهن للعلاقة بين الذكاء الاصطناعي والصراع في الشرق الأوسط
تتعدد تعريفات الذكاء الاصطناعي، وهو ببساطة محاكاة عمل الذهن البشري في وسيط آلي، وعرّفته مؤسسة راند للأبحاث على سبيل المثال بانه نظام تَعلُّم مستقل غير بيولوجي، ويعكس التعريف الأخير الموجة الحالية من الذكاء الاصطناعي القائمة على تقنية تعلُّم الآلة “Machine learning”. وتقوم هذه التقنية على تخزين عدد كبير من البيانات وربطها جميعًا بخوارزميات مُعينة تحاول الوصول إلى استنتاجات صحيحة، وتعمل الآلة تلقائيا على تصحيح محاولاتها الخاطئة، في تطبيق لمنهج التجربة والخطأ الذي يعتمده العقل البيولوجي، ومن أشهر تطبيقات هذه التقنية هو التعرُّف التلقائي على الوجوه، فتتم هذه العملية من خلال عدد كبير من الصور لنفس الشخص، ومن خلال تخزين بيانات الوجه وأبعاده وتنميطها؛ تستطيع الآلة التعرُف على الشخص دونما مساعدة خارجية في أي صورة أخرى.
وفي المجال السياسي، يلعب الذكاء الاصطناعي أدواراً متعددة، منها الدور الاستشرافي التحليلي الذي يقوم على تحديد الاتجاهات التي سيتخذها أحد الأطراف من بين اختيارات متعددة، وفقاً لتحليل البيانات السابقة المتوفرة عن الحالة المدروسة.
كما يمتد تأثير هذه التقنية إلى جميع مجالات الحرب ومستوياتها بلا مبالغة، ويتم إدخالها خلال المرحلة الراهنة في الآليات التي تعمل بدون قائد مثل الطائرات بدون طيار، بالإضافة إلى نظم المراقبة والأمن السيبراني والداخلي والخدمات اللوجستية، فضلاً عن مساعي تطوير الآلي المُقاتل أو “الروبوت”.
ويميز الخبراء بين ثلاثة أنماط من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، الأول هو التوجيه الإنساني للآلة Man in The Loop، والثاني هو الإشراف من بعيد وتصحيح الأخطاء حال حدوثها Man on The loop، أما النمط الثالث هو Man out The loop والذي يُشير إلى غياب كامل لدور الإنسان، ولازال النمط الأخير بعيد المنال. ومن المُستهدف أن تحل الأنظمة المستقلة محل البشر في المهام التي تعتبر خطيرة، مثل الكشف عن الألغام أو جمع المعلومات أو العمليات الانتحارية، فضلاً عن تسريع عملية اتخاذ القرار اثناء المعركة، وربما اتخاذ القرار في الأنظمة كاملة الاستقلالية.
ومن أشهر التطبيقات العسكرية الراهنة للذكاء الاصطناعي مشروع Maven والذي نفذه الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط بنسبة نجاح 80%، وهو مشروع تعاون فيه مع شركة Google لتطوير تعرّف الطائرات بدون طيار على الأهداف الإرهابية، كما استطاع الجيش الأمريكي تنفيذ هبوط الطائرة بدون طيار X-47B التابعة للبحرية الأمريكية بشكل مستقل، ونجحت هذه الطائرة في التزود بالوقود بشكل آلي أيضاً، واقتصر التدخل البشري على إعطاء الأمر فقط. وبالمقابل، نجحت الصين في تنفيذ تحليق جوي لـعدد 119 طائرة بدون طيار متصلة في نفس الوقت.
وتملك دول بالشرق الأوسط طموحًا كبيرًا في هذا الصدد، ومنها إسرائيل التي قطعت أشواط في مجال التطبيقات الأمنية والعسكرية، ومن أشهر مُنتجاتها طائرة Harpy، والتي اقتربت إلى حد كبير من التخلي عن التدخل البشري، ويُترك لها تحديد الأهداف ومهاجمتها على عكس الطائرات بدون طيار الأخرى، وصُممت الطائرة لتدمير الدفاعات الجوية بشكل انتحاري.
وتعمل في إسرائيل حاليًا أكثر من 950 شركة ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، ونجحت بالفعل في تحقيق تفوق نسبي في تقنية التَعرُّف على الوجه، ما دفع شركة إنتل الأمريكية الشهيرة في ديسمبر 2019 إلى شراء أحد شركات التقنية الإسرائيلية مقابل 2 مليار دولار، وتعمل الشركة الأميركية بإسرائيل منذ عام 1974، ويصل إجمالي موظفيها حالياً هناك 12800 شخص بإجمالي استثمارات يتخطى 10 مليار دولار. واعترضت الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة على التعاون الصيني الإسرائيلي في بعض مجالات الذكاء الاصطناعي تخوفاً من حيازة الصين تكنولوجيا مُتقدمة؛ ما يعني أن إسرائيل باتت تملك تأثيراً واضحاً على هرمية القوى في النظام الدولي بسبب تفوقها في هذا المجال.
ليست إسرائيل وحدها التي تملك مشروعًا طموحًا في هذا الصدد، تمتلك دولة الإمارات أيضاً استراتيجية كُبرى تم الكشف عنها في عام 2017، وتستهدف الوصول لإجمالي استثمارات بحلول عام 2025 إلى 50 مليار دولار أمريكي، بغية جعل الإمارات رائدة إقليميًا وعالميًا في هذا المجال. وقامت الحكومة الإماراتية بتعيين أول وزير للذكاء الاصطناعي في العالم لتحقيق هذا الغرض، كما تم الإعلان عن جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي كأول جامعة عالمية متخصصة، وتسعى الاستراتيجية الإماراتية لتحسين العديد من القطاعات الحياتية عبر دمج حلول الذكاء الاصطناعي.
وتتبنى دولة السعودية بدورها مشروع “نيوم” باستثمارات تصل إلى 500 مليار دولار ضمن استراتيجية المملكة خلال العقد الحالي. ويتضمن المشروع إنشاء مدينة للذكاء الاصطناعي في تعاون مشترك مع دولتي مصر والأردن، كما تهتم الرياض باستخدامات الذكاء الاصطناعي العسكرية، وتتعاون مع الصين في مجال الطائرات بدون طيار Pterodactyl.
ولا تبدو إيران بعيدة عن المنافسة الإقليمية والعالمية، ووفق تقديرات صحيفة Nature البريطانية احتلت إيران المركز السابع عالميًا من حيث إنتاج المقالات العلمية في هذا المجال. وقارعت التكنولوجيا الإيرانية نظيرتها الأمريكية في المجالات العسكرية، وشهد عام 2011 إعلان الأولى سيطرتها على إحدى طائرات التجسس الأميركية بدون طيار. ومن المُفيد القول بأن هذه التقنيات ليست حكرًا على الدولة في إقليم الشرق الأوسط، وسبق وأن أعلنت الميليشيات الحوثية مسئوليتها عن استخدام طائرات بدون طيار من طراز دلتا الأمريكي في شن هجمات جوية على السعودية.
هل سيغير الذكاء الاصطناعي طبيعة الصراعات في الشرق الأوسط
بعد هذا الاستعراض الموجز، يتضح أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي سيكون لها أثار متعددة على المجالات السياسية والعسكرية، لما تسببه من تطوير في أدوات الصراع، ودورها في استبدال العامل البشري بغية الوصول لنتائج أكثر دقة وسرعة وانضباطًا بالشكل الذي قد يساهم في منح ميزة نسبية لأحد الأطراف. وهو ما سيترك أثرًا على خريطة الصراع. وقد يمتد التأثير إلى طبيعة الصراع نفسه في ظل اتساع نطاق التأثيرات المتوقعة لهذه التكنولوجيا على مجالات مختلفة من الحياة، سيما في حال التوسع في تمكين الآلات داخل العمليات العسكرية، كما أصبح السعي نحو امتلاك البيانات والعقول والمواد اللازمة مجالاً جديداً للتصارع في عالم الذكاء الاصطناعي، ليضيف بذلك إلى معايير القوة الشاملة النسبية معيارًا جديداً.
وزمنيًا، من الممكن تقسيم مراحل الصراع إلى مرحلتين رئيسيتين، الأولى تتعلق بمرحلة التنافس على حيازة التكنولوجيا الأعلى ويمكن ان نُطلق عليها المرحلة التأسيسية، والمرحلة التالية هي المرحلة التطبيقية والتي سيتم خلالها التوسع في إنتاج التطبيقات العسكرية والاقتصادية والمجالات الحياتية الأخرى. وتستهدف الدول أن تنتهي الملامح التأسيسية لهذا الصراع خلال العقد الحالي.
كما يُمكن التمييز بين ثلاثة مستويات رئيسية ستتأثر بتطورات المرحلتين السابقتين، الأول هو مستوى العلاقة مع القوى الدولية، سيما مع وقوع الإقليم مرمي المنافسة بين الولايات المتحدة والصين؛ والمستوى الثاني هو موازين القوى الإقليمية؛ والمستوى الأخير يتعلق بتطورات العملية السياسية محلياً.
ووفقًا لما سبق، تتوقف درجة تأثير الذكاء الاصطناعي على الصراع بالشرق الأوسط على أربعة محددات رئيسية وهي؛ مدى نجاح دولة أو أكثر في حيازة مصادر القوة خلال المرحلة التأسيسية ومدى توسعها في استخدام التطبيقات؛ موقف القوى الدولية من عملية التطوير والتنافس المُتعلقة بحيازة هذه المصادر؛ الجدوى السياسية والعسكرية والاقتصادية جراء عملية التطوير؛ وأخيرًا استخدامات الفاعلين من غير الدول لتقنيات الذكاء الاصطناعي. وهو ما يقودنا إلى توقع ثلاثة سيناريوهات لمستقبل تأثير الذكاء الاصطناعي على الصراع بالشرق الأوسط.
السيناريو الأول: تحولات جذرية لطبيعة وأدوات الصراع في ظل الذكاء الاصطناعي
يفترض هذا السيناريو أن تقود تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مختلف المجريات لتغيير موازين القوى الراهنة بالمنطقة، ويتطلب هذا التوسع في استخدام تطبيقات هذه التقنية، وتحقيق تفوق لإحدى دول الإقليم غير المُهيمنة حاليًا، بالشكل الذي يمنحها نقاط قوة في مواجهة التفوق النووي الإسرائيلي على سبيل المثال، أو تحقيق تفوق اقتصادي غير قائم على إنتاج الطاقة. ويندرج تحت هذا السيناريو أيضًا تطوير أدوات الفاعلين من غير الدولة في مجال الذكاء الاصطناعي، بالشكل الذي يجعل من الإقليم ساحة تطبيقية للاستخدامات العسكرية لمُنتجات هذه التكنولوجيا.
وربما ينعكس هذا السيناريو على ملامح الصراع في الشرق الأوسط بظهور أقطاب تكنولوجية في المنطقة، وانبثاق نمط جديد من التحالفات الإقليمية مثل التحالفات التي قامت على أساس المؤيدين والمُعارضين لظهور قوى نووية جديدة بالمنطقة بخلاف إسرائيل، بالشكل الذي يقود لبناء مجال جديد من الاستقطاب الإقليمي، ويتطلب هذا السيناريو عدم ممانعة القوى الدولية كالصين وأمريكا لتفوق إحدى الدول في هذا المجال.
وعلى صعيد أدوات الصراع، يقود هذا السيناريو إلى انتشار استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتشمل مجالات مثل السيطرة على مساحات الفضاء الإلكتروني للتأثير في الرأي العام لمواطني الإقليم بصفة عامة. وقد يتضمن هذا السيناريو أيضًا إلى تواري نمط الحروب الحالي في الإقليم لحساب الحروب المعرفية، بالشكل الذي يُحرر القدرات المعرفية من الهيمنة العسكرية التقليدية المُتمثلة في القوة المادية الملموسة، فتعطيل الامدادات الكهربائية داخل إحدى الدول من الممكن حدوثه عن بُعد، وقد يُسبب خسائر في الأرواح والاقتصاد ربما تكون أكبر من الهجمات العسكرية.
وبالمقابل، يتقيد هذا السيناريو بسيطرة النمط العسكري التقليدي على مجالات الصراع، وعجز أغلب الدول عن توظيف قدراتها المحلية في هذا الغرض بسبب عدم حيازتها حالياً لجميع مصادر القوة اللازمة. فضلاً عن إظهار القوى الدولية كالصين وأمريكا رغبتهما باحتكار التفوق في هذه التكنولوجيا، كما ينتج عن هذا السيناريو بعض المخاطر التي تتعلق باتساع التهديدات التي تتعلق بالأمن القومي والإقليمي.
السيناريو الثاني: انخفاض تأثير الذكاء الاصطناعي على الصراعات بالإقليم
يتمثل هذا السيناريو في استمرار النمط المُعاصر من الصراع كنتيجة لتخلي الدول عن تطوير هذه التكنولوجيا، بسبب عوامل مثل ارتفاع التكلفة عن العائد، أو تزايُد ضغوط القوى الدولية، أو ظهور بعض المخاطر العسكرية المتمثلة في عجز الآلات عن تنفيذ المهام الموكلة إليها، وهو ما يمكن حدوثه نتيجة القراءة الخاطئة للبيانات، أو وقوع خرق تقنـي في منظمومة أمن البيانات العسكرية من قبل الأطراف الخارجية المسيطرة على إنتاج المنظومة العسكرية الإلكترونية. وقد تصل عواقب مثل هذا الاختراق إلى حد الكوارث الأمنية.
وتتعزز احتمالات تحقيق هذا التوجه في حال ثبوت أن تقنيات الذكاء الاصطناعي لن تعطي إنتاجية أفضل من العنصر البشري، خاصة بالنسبة للدول التي تملك بالفعل أعداد كبيرة من المواطنين. ويبدو ذلك محتملاً بالفعل في مجال التوقعات الأمنية. على سبيل المثال، إذ طَبقَّت الولايات المتحدة تقنية يُمكن من خلالها توقُّع احتمال أن يلجأ أحد المسجونين مجدداً لمخالفة القانون في حال الإفراج عنه وفقاً لتحليل بيانات عن سجله الجنائي وسماته الشخصية، ولم يحقق الذكاء الاصطناعي في هذه القضية تفوقًا على العنصر البشري، وتقاربت نسبة النجاح في التوقع إلى حوالي 65% فقط، الأكثر أن هذه التقنية قد قادت إلى ارتفاع معدلات الجريمة في الولايات المتحدة بسبب الإفراج عن عناصر إجرامية لجأت إلى مخالفة القانون مجدداً بالرغم من أن الآلات قد توقعت عكس ذلك.
ولا يُعد هذا السيناريو مُستبعدًا تمامًا كما يبدو؛ فقد تراجعت بالفعل اهتمامات القطاعات العسكرية بالمنافسة في مجال تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي لصالح القطاعات التجارية المُختلفة، ونجد البنتاجون على سبيل المثال يلجأ إلى التعاون مع شركة جوجل لتطوير أنظمة الطائرات بدون طيار، كما تهتم شركات التكنولوجيا الفائقة بالمُنتجات ذات البُعد التجاري، خاصة فيما يتعلق بمجالات المعلومات والاتصالات والإنترنت، ويفتح ذلك الباب أمام تراجُع اهتمام المؤسسات الرسمية بالإنفاق على تقنيات الذكاء الاصطناعي.
غير أن هذا السيناريو يحتوي على العديد من المخاطر، ومن أبرزها احتمال وصول الجماعات الإرهابية لأي من منتجات الذكاء الاصطناعي، ومن ثم توجيهها ضد إحدى الدولة غير المستعدة تقنيًا. وبصفة عامة، يتقيد حدوث هذا السيناريو بعوامل مثل انطلاق التنافس بالفعل في الإقليم حول تطوير الذكاء الاصطناعي، وتعاون القوى الدولية مع دول الإقليم في تطوير هذه التكنولوجيا، كما أثبتت تقنيات الذكاء الاصطناعي بعض النجاحات في القطاعات العسكرية، وتلعب استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي عاملاً مُحفزًا لعدم التخلي عن هذه التقنية. وهو ما يقودنا إلى ترجيح السيناريو الثالث.
السيناريو الثالث-تأثير ات متفاوتة على الصراع بالشرق الأوسط
تعد مُساهمة الذكاء الاصطناعي في تطوير أدوات النمط الحالي من الصراع هي الملمح الرئيسي لهذا السيناريو، دون أن يمتد أثره على تغيير قضايا الصراع وطبيعته وأطرافه. ووفقًا لهذا، ستتجه الدول للتركيز على تطوير بعض التطبيقات أو استيراد بعضها بدلاً من إنتاجها، والاعتماد في هذا على التعاون مع الأطراف الخارجية في ظل استمرار النمط الحالي من مواقف القوى الدولية حيال عملية التطوير.
وترتفع احتمالات تحقق هذا السيناريو في حال انخفاض توقعات صُنَّاع القرار لفوائد الذكاء الاصطناعي كنتيجة لظهور بعض التباطؤ في تطوير هذه التقنيات، سيما مع استمرار عجز الأخيرة عن تصميم استجابات آلية تلقائية لبيئة فوضوية كالبيئة الطبيعية أو ما يُمكن تسميته “رد الفعل التلقائي”، وهي ميزة لازالت حصرية لدى العقل البيولوجي، حيث تُعيق عملية التنميط التي تتبعها هذه التقنيات تطوير مثل هذه الخاصية. وعلى سبيل المثال، لم يتم التوسع في استخدامات السيارة بدون سائق حتى الأن بسبب عدم القدرة على ضبط استجابات الآلة للعوارض المرورية المختلفة مثل مرور المارة المفاجئ.
ولازالت عملية محاكاة الذهن البشري على قدر كبير من التعقيد، وتصل تكلفة إنشاء تقنية تقوم بأربع عمليات في الثانية-على غرار العقل البشري-إلى أكثر من 200 مليون دولار بحجم قريب من مساحات غُرف المعيشة، وبطاقة كهربائية تصل تكلفتها إلى 5 مليون دولار سنوياً، ويتوقع الخبراء أن تصغير هذه الأحجام وصياغة خوارزميات أكثر كفاءة بشكل متسارع قد يصل إلى ذكاء اصطناعي يستطيع القيام بجميع المهام البشرية بحلول عام 2060، أو 2045 في أقصى السيناريوهات تفاؤلاً.
كما تزداد فُرص تحقيق هذا التباطؤ إذا استرشدنا بارتفاع التوقعات عن عمل الحاسب الآلي في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، إلا أن ثمة بطء في عملية التطور قادنا إلى تعميم استخدام التقنيات الإلكترونية في مطلع الألفية الجديدة، أي بعد خمسين عامًا تقريبًا.
وتدفع العوامل السابقة صناع القرار للتركيز على التطبيقات الأمنية والعسكرية أكثر من نظيرتها الاقتصادية أو الصحية، وذلك بسبب تزايد موجات الاحتجاج والاضطراب الأمني بالمنطقة خلال العقد الأخير من ناحية، ومن ناحية أخرى تتوفر هذه التقنيات بالفعل لدى دول مثل الصين وإسرائيل، وتتبنى الأخيرة حاليًا مشروعًا يرمي إلى السيطرة على الضفة الغربية أمنيًا عبر تتبع الفلسطينيين بتقنية التعرُّف على الوجوه، وتعتمد في ذلك على تركيب 1700 كاميرا مراقبة، كما تمتلاً شوارع ومنازل البلدان العربية حاليًا بكاميرات المُراقبة التي سُتيسر من مهام توظيفها أمنيًا، وتُبدى دول الإقليم اهتمامًا كبيرًا بتقنيات المراقبة الفردية والجماعية بصفة عامة. إلا أن هذا الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في المجال الأمني والعسكري سيمضي جنبًا إلى جنب مع تطوير العنصر البشري ولن يحل محله.
خاتمة
سعى هذا المقال إلى وضع ملامح تصور مبدئي لما يمكن أن تقود إليه تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الصراع داخل الإقليم، وذلك عبر استقراء موجز لتطورات الماضي والحاضر ووضع ملامح للمستقبل. وعلى الرغم من تفاوت التقديرات المتوقعة لمدى هذه التأثيرات، فمن المُرجّح أن يقود الذكاء الاصطناعي إلى إحداث اختلاف في درجة الصراعات وكثافتها وأدواتها؛ وموازين القوى في أقصى تقدير. لكن لن يمتد للتأثير في طبيعتها ومبادئها في المستقبل المنظور، ويظل ذلك رهينة لعدم التوسع في إخراج الإنسان من حلقة العمليات؛ سواء بسبب صعوبة تحقيق ذلك تكنولوجياً، أو حِرص العنصر البشري على استمرار هيمنته على المجالات العسكرية والسياسية.
ومن المتوقع ألا تتغير طبيعة الحرب كأحد أدوات السياسة في عصر الذكاء الاصطناعي، وقد تساهُم هذه التكنولوجيا فقط في تعزيز الضبط السياسي للأدوات العسكرية بسبب تخفيض دور العنصر البشري؛ بالإضافة إلى تحسين قدرات دول الإقليم في مواجهة نشاط الجماعات الإرهابية، بسبب تطوراتها المتعلقة بمجال الأمن والمراقبة. وبالمقابل، تُمثِّل هذه التقنية محل خطورة على أمن الدول، ويعود هذا إلى اتساع نطاق المخاطر، وتنويع أنماط الهجمات الضارة التي قد يقوم بها الخصوم.
وبالتالي، يجب على مختلف الدول عدم ترك ساحة التنافس في هذا المجال، وتطوير برامج تعاونية دولية تهدف إلى حيازة عناصر القوة اللازمة، وضبط استخدامات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى التوسع في إعداد الكادر البشري وتطوير البُنى التحتية بشكل يتيح تطوير هذه التقنيات وتطبيقاتها، وصياغة السياسات الاقتصادية التي تجذِّب الشركات الكُبرى العاملة في هذا المجال، فضلاً عن دعم دور المجتمع المدني والمنظمات الدولية في مراقبة استخدام هذه التقنيات، وطرح برامج بحثية لاستشراف مستقبل هذه التقنيات بغرض تخفيف تداعياتها غير المواتية.