في كتابه “فرنسا الروسية: البحث عن شبكات بوتين”، يروي نيكولاس هينين، في سياق استقصائه لما أسماه شبكات الكريملين في فرنسا، حادثة هامة وذات دلالة كبيرة نقلها له أحد المسئولين في الرئاسة الفرنسية إبان فترة الرئيس نيكولا ساركوزي، وأكدتها مصادر أخرى بعد ذلك. فمع بداية فترة نيكولا ساركوزي وخلال اجتماعات قمة الثمان الكبرى في ألمانيا في صيف 2007، التقى ساركوزي في اجتماع مغلق بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبدت ويكأنها جلسة تأنيب وتقريظ لبوتين على سياساته الخشنة على الجبهة الشيشانية وكذلك تلويمه على مقتل ناشطة حقوق الإنسان البارزة آنا بوليتكوفسكايا وقال أن مثل هذه الأمور لن تمر بعد ذلك. لم يقاطعه بوتين، وفقا لما ذكره هينين، وتحلى بالصمت حتى انتهى من كلامه ثم قال له بوتين: أيها الرئيس انظر لحجم دولتك وحجم دولتي. أمامك خياران: أن تواصل انتقاداتك ونبرتك تلك وسأسحقك أو أن تهدأ وتغير من نبرتك تلك وسأجعل منك ملكا على أوروبا كلها. ظهر ساركوزي بعدها في المؤتمر الصحفي غير قادر على التنفس بشكل طبيعي وغير مرتب الكلام وشارد الذهن ظنه الكثيرين في هذه اللحظة أنه سكران لكنه من الواضح أن هذا السلوك الغريب كان بسبب كلمات بوتين. ومنذ ذلك اليوم تحول نيكولا ساركوزي من ناقد لسياسات بوتين لأشد المؤيدين له داخل المجموعة الأوروبية.
هذا الموقف يمكن أن يميط اللثام عن بعض جوانب عقلية ضابط الاستخبارات السابق فلاديمير فلاديمروفيتش بوتين والتي تحاول جاهدة، وبأدوات الاستخبارات الروسية ، أن تعيد لروسيا مكانتها في النظام الدولي وتغييره ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
دور جديد للاستخبارات مع انهيار الاتحاد السوفييتي
مع تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991 ووصول الرئيس بوريس يلتسن لسدة الحكم في روسيا، سادت حالة من القلق والإحباط داخل الدولة الجديدة على الأصعدة الخارجية والداخلية. على الصعيد الخارجي، عانت موسكو من موجات الانفصال التي اشتعلت قبيل تفكك الإتحاد وبدأت مع بولندا ثم امتدت لتشمل مناطق القوقاز وشرق أوروبا والبلطيق. كذلك، كابدت موسكو الحروب التي أعملت الطعان في الدب المريض على أكثر من جبهة لتصل إلى عشرة حروب في عقد واحد على رأسها حروب البلقان التي أسقطت في النهاية أكبر حليف سلافي لموسكو في أوروبا وبيد غريم موسكو التقليدي (الناتو).
داخليا، اشتعلت الأوضاع بسبب سياسات الخصخصة التي تبنتها حكومة يلتسن ودخلت البلاد في أتون أزمة دستورية كبرى نشأت عن قرار يلتسن حل مجلس السوفييت الأعلى مما أدى لثورة مسلحة تم قمعها عن طريق قوات الأمن الفيدرالي بعد ذلك. طرح يلتسن دستورا جديدا يدعم الليبرالية الاقتصادية والخصخصة وسياسات السوق كخيار استراتيجي للدولة الروسية الجديدة.
بدا الأمر وكأن روسيا ذلك القطب الكبير في السياسة العالمية تكافح فقط من أجل وجودها. في وجه هذه التحديات، كانت هنالك مرتكزات أساسية للدولة الجديدة تقوم بشكل أساسي على التسليم بانتهاء الامبراطورية السوفييتية بكل أبهتها وإخفاقاتها ومحاولة الحفاظ على ما تبقى من تلك الإمبراطوية لاسيما دولاب موسكو البيروقراطي القوي، وفي نفس الوقت الاعتقاد في أهمية استعادة الصورة القيصرية لروسيا عن طريق إحياء القومية الروسية وطرح الدولة الجديدة باعتبارها استكمالا لمسيرة دولة القيصر وأركانها، حتى تلك الأركان غير المرغوب فيها في تلك الفترة مثل الكنيسة الأرثودوكسية في وقت خاصمت فيه روسيا بالكاد الشيوعية. ويمكن اعتبار هذا التوجه من إحدى العوامل التي أدت لخروج روسيا من دوامة الضغوط الغربية عليها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، من حيث حشد قدرات ومشاعر الأمة الروسية نحو معاني قومية مألوفة لها على مر الأجيال.
لكن بداية العقد الأول من القرن العشرين ليست كبداية العقد العاشر، فعلى الرغم من الضغوط التي كانت تواجه القيصر نيكولاس الثاني لكنه استطاع أن يتخطاها جميعا بفضل قوة روسيا وتموقعها القوي في المنظومة الدولية آنذاك حيث كانت روسيا في العقد الأول في سدة تلك المنظومة أما في العقد التاسع فإنها بالكاد كانت تنشد النجاة.
لكنه رغم وضوح الهدف لدى يلتسن، إلا أنه كان قاصرا عن استبصار مفردات هذا التوجه وممكنات تثبيته تدريجيا وفقا لأولويات المرحلة نظرا للضغوط الشديدة التي واجهها ونظرا لضعف عملية التثقيف التي اضطلع بها الحزب الشيوعي إبان الحقبة السوفييتية وضعف الحالة الثقافية والفكرية التي اكتسحت الاتحاد السوفييتي منذ منتصف السبعينيات في خضم شروعه وتعاطيه مع إعلان هلسنكي 1975 والذي أحدث فوضى استراتيجية كبرى داخل الحزب ومجلس السوفييت الأعلى تعاظمت مع مرور الوقت.
خلال ذلك الوقت ظهر فلاديمير بوتين من بين ركام البيروقراطية الأمنية ليقود البلاد نحو تحقيق تلك الرؤية.
كيف أثرت مسيرة الاتحاد السوفييتي في تشكيل شخصية بوتين الاستخباراتيه؟
عندما يأتي ذكر بوتين، تذكر مباشرة الاستخبارات الروسية. فشخصية بوتين تتلبس بشكل كبير بعالم الاستخبارات أكثر من أي قائد أو زعيم آخر منذ فترة طويلة. لذا، فإنه من أجل تفكيك البوتينية والوصول إلى فهم أعمق لشخصية بوتين وطبيعة معتقداته والأسس التي تسير عليها ممارساته الخارجية والداخلية، يجب الوقوف على مراحل ثلاثة أثرت في شخصيته حتى أصبح رئيس روسيا الأقوى في مراحلها الأخيرة والأقوى في إدارة وقيادة جهاز الدولة الروسي بعد ذلك وهي:
- لينينجراد – من منتصف الخمسينيات حتى منتصف السبعينيات: ولد فلاديمير بوتين في لينينجراد (سانت بطرسبرج سابقا – عاصمة القيصر) وتربى في حواريها الفقيرة وانتمى في فترة بلوغه لعالم لينينجراد السفلي مما أكسبه جانبا مهما من شخصيته بعد ذلك. كان انتماء فلاديمير بوتين للينينجراد بمثابة انتماء لحلم روسيا القيصرية قبل أي شيء، وشفقة على المدينة التي تحولت من أبهة القيصرية إلى خرائب يشيع في جوانبها الفقر والعصابات. كما أنه في هذه المرحلة تعلم كثيرا من قساوة الفقر وهو ما أثر بعد ذلك في سياساته الاقتصادية في المقام الأول، وإن كان بالعكس. فقد حابى الأوليجاركيين بعد أن كسر شوكتهم وسيطر عليهم بفضل ما تعلمه من عصابات سانت بطرسبرج التي تعرف عليها في فترة بلوغه. كذلك، تعلم بوتين في سانت بطرسبرج السياسة عندما عاد إليها بعد استقالته من KGB بعد تفكك الاتحاد السوفييتي لكنها مرحلة لم تطل حيث استدعي لمنصب كبير في ديوان الرئيس بوريس يلتسن مع منتصف التسعينيات.
- ألمانيا الشرقية – 1975/1991: انتمى فلاديمير بوتين لصفوف المخابرات السوفييتية KGB خلال تلك الفترة وقضى معظمها في خدمة الاستخبارات السوفييتية في ألمانيا الشرقية حيث رأس محطة درسدن الاستخباراتية في منتصف الثمانينيات وفقا لمذكرات روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكي السابق الذي كان مديرا لمحطة المخابرات المركزية الأمريكية في ألمانيا الغربية في تلك الأيام وجمعته بفلاديمير بوتين مواقف خلال تلك الفترة. خرج فلاديمير بوتين من الخدمة في عام 1991 إبان تصفية جهاز الاستخبارات السوفييتية KGB بسبب دعم الجهاز للانقلاب الفاشل ضد جورباتشوف والذي انتهى بسقوط الاتحاد. لكنه مع كل ذلك، هذه الفترة من حياة بوتين من أهم الفترات في صقل شخصيته حيث تعرف فيها على الدول وسياساتها وتقييم مواقفها وأفكارها والمنظمات الدولية والمجتمع الدولي من وراء العدسات الغليظة لخدمة الاستخبارات السوفييتية.
- موسكو – 1996/1999: هذه المرحلة كانت أهم مراحل فلاديمير بوتين على الإطلاق. انتقل بوتين في عام 1996 إلى موسكو للعمل في ديوان يلتسن في وظيفة مستشار أمني فما لبث أن أعجب به يلتسن وعينه رئيسا لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي FSB الذي جاء خلفا للجنة أمن الدولة في الاتحاد السوفييتي، رغم صغر سن بوتين الذي بدء بالكاد في عقده الرابع. على الرغم من ذلك، في غضون أشهر عينه بوريس يلتسن رئيسا للوزراء ثم لم يلبث أن عينه قائما بأعمال الرئيس في 31 ديسمبر 1999 واعتبره باعث روسيا الجديدة.
هذا الترقي السريع لبوتين يمكن فهمه في إطار غياب البوصلة والصدمة التي أخذت كل مأخذ من ساسة موسكو وحضورها في نفس الوقت لدى بوتين الذي درس جيدا الخطة التي سيعيد بها روسيا لمربع العمليات الدولية بمنتهى السرعة، والقوة، بل والقسوة أحيانا.
القوة الحادة…. نصل الاستخبارات الذي ينال به بوتين من أعدائه
مع التغير الكبير الذي حصل في المنظومة الدولية إبان انهيار الاتحاد السوفييتي، انهارت القدرات الناعمة لموسكو وأخذت القوة الخشنة هي الأخرى في الانهيار. وطوال فترة بوريس يلتسن لم تتوقف معدلات ذلك الانهيار وإن زادت لدرجة أن حكومة موسكو لم تستطع أن تحسم خمس حروب على التوالي لصالحها. لذلك كان لابد من حل لهذا التأزم الذي تعاني منه الدولة الروسية وكان هذا الحل في يد رئيس الوزراء المفوض حديثا بإدارة شئون الدولة لحين إجراء الانتخابات. إنه الاستثمار في القوة الحادة Sharp Power التي تملك روسيا منها الكثير.
القوة الحادة هي تلك القوة النوعية التي تستهدف بذكاء وتحت ستار السرية عمق المركز الاستراتيجي للدولة العدو بدون التورط في عمليات ذات تكاليف مادية أو معنوية ضخمة. ومن أشكال القوة الحادة التلاعب في النظام السياسي للبلاد عن طريق جماعات الضغط أو تمويل طيف من أطياف المعارضة أو تسريب معلومات مضللة لإعلام تلك الدولة العدو وكذلك عمليات الاستخبارات الاقتصادية والتلاعب بأسهم بورصات سوق المال أو الاختراق الالكتروني واسع المدى وتسييل البيانات شديدة الأهمية أو الاستحواذ عليها وكذلك التلاعب بالقوى الناعمة لتلك البلد لحين انهيارها أو تبدل حالها، إلى جانب عمليات مكافحة الجاسوسية. وعلى نحو طبيعي، تدير كافة هذه الأنشطة أجهزة الاستخبارات.
استطاعت الاستخبارات الروسية استغلال قدراتها النوعية بشكل جيد وفي صالحها تماما. فقامت روسيا، حسب اتهامات أمريكية، بالتلاعب في النظام السياسي الأمريكي عن طريق التلاعب في الأصوات ويحذر سياسيون بالكونجرس الأمريكي من احتمال تكرار نفس ذلك الحدث خلال الانتخابات الأمريكية المزمع عقدها أواخر هذا العام. كذلك، تورطت روسيا حسب اتهامات في اختراقات الكترونية كثيرة مثل ويكيليكس وغيرها. وكذلك من بين الحروب القوية التي تشنها الاستخبارات تمويل المعارضة.
دور التحديات السياسية التي واجهت بوتين في تشكيل نهجه السياسي.
تعتبر التحديات التي واجهت بوتين إحدى المداخل المهمة لفهم سياساته. كان تركيز بوتين منصب بشكل كبير على جهود مكافحة الإرهاب. ففي فترة رئاسة للوزراء، شهد اندلاع الحرب الشيشانية الثانية بعد أن قام اللواء الإسلامي الدولي بإعلان داغستان جمهورية مستقلة مما استدعى من موسكو إجراءا حيال هذا التمرد الكبير في إحدى أهم مناطق الإتحاد الروسي وخاصرته الرخوة الغنية بالنفط والواصلة جغرافيا بين بحر قزوين والبحر الأسود.
كما شهدت بدايات حكمه حادث تفجير الشقق الروسية وكذلك خطف رهائن المسرح الروسي لكنه تعامل معها جميعا بأدوات الاستخبارات وقضى عليها لاسيما بعد نجاح الاستخبارات الروسية في تصفية الحرب الشيشانية الثانية عن طريق تعيين أحمد قاديروف رئيسا للشيشان بعد أن صك اتفاقات مع المخابرات العسكرية الروسية لتصفية جيوب الأفغان العرب والتمرد الشيشاني بشكل عام.
ثاني أهم النجاحات التي حققها بوتين هي السيطرة على المقدرات المالية بالبلاد لتصبح قيد تصرفه بشكل كبير. فقد أدت سياسات يلتسن في التحول من الاشتراكية إلى الليبرالية الاقتصادية إلى ازدهار الأوليجاركية في البلاد وظهور عالم فاحشي الثروة والثراء في حين أن كثير من المدن الروسية تعج بالفقراء. عندما وصل بوتين إلى سدة السلطة، قام بمفاوضة الأوليجاركيين وسجن أيقونات الثروة والمال في البلاد حتى استسلم الباقين ودانوا له بالولاء.
كذلك من بين التحديات التي واجهها بوتين أنه في حملته الانتخابية وعد بإطلاق حريات وسائل الإعلام والمعارضة وهو ما تبدل بين عشية وضحاها بعدما وصل لسدى الرئاسة. بل والأدهى من ذلك أنه قام بتصفية ناشطي حقوق الإنسان والحريات المدنية مثل نيمتسوف وسيرجي ماجنيتسكي وغيرهم.
لكن من بين التحديات الكبرى التي واجهت بوتين في سياساته الشرق أوسطية كانت الحرب السورية. فموسكو كانت على وشك أن تخسر وجودها الأكبر في المتوسط لذلك سعت من كل ما أوتيت من قوة غاشمة وحادة وناعمة أن تحافظ على مرتكزها الأساسي في هذه المنطقة عبر قاعدتي طرطوس واللاذقية. وسجلت المخابرات الروسية نجاحا كبيرا في هذا الملف حيث أدارت عمليات الاتصال مع الجيش السوري والفصائل المؤيدة للرئيس بشار الأسد لاسيما الجماعة العلوية التي ينتمي إليها حيث استعانوا بها في تأمين قواعدهم التي تقع على البحر حيث يوجد العلويين.
لكنه في المقابل استغل بوتين كل فرصه من أجل النجاح والقفز ببلاده نحو آفاق جديدة. فقد استغل تغير النظام الاقتصادي بالبلاد نحو الليبرالية الاقتصادية في مضاعفة ثروات البلاد لاسيما في ظل ارتفاع أسعار النفط، كما أنه استغل الحرب السورية كفرصة جيدة لتسويق السلاح الروسي والذي تمكن من تحقيق مبيعات هائلة لم تصل إليها موسكو منذ الحرب الباردة.
يتمتع بوتين بشخصية عنيدة تسير باقتدار على شفير الهاوية بدون أن يمسها ضرر وكذا أجهزته التي تعلمت منه فنون ملاعبة الخصم على حافة جهنم. لذا، فإنه من الأوفق لأي دولة التعاون معه وعدم محاولة استفزاز الكبرياء الروسي فهذا بمفرده كفيل بأن تثير ذلك الدب ولتكن العواقب مهما تكون.