وأنت تمضي في شوارع مدينة بني سويف قد تفاجئك رؤية محالات صناعة “الكريب” منتشرة بكثرة، ذلك العجين الذي يغزو مدن مصر وقراها، وبات أحد أشهر الوجبات الوافدة على المصريين وأكثرها انتشارا في الألفية الجديدة، لكنك في نفس اللحظة لن ترى أي محل يقدم أكلات تعبر عن هوية بني سويف، وهي ظاهرة متكررة في العديد من المدن المصرية؛ في الصعيد كما الدلتا، فالمطابخ المصرية المتعددة والمتنوعة لا تجد من يقدمها ويظهر تفردها، فتتوارى رغم أن حقها أن تتصدر كتراث حي.
لن يكون غريبا أن ترى الكثير من محلات “الكريب” في طول مصر وعرضها، فنحن لم نستطع أن نطور أي من الأكلات الشعبية وتحويلها إلى منتج جذاب للمصريين أولًا ولزوارهم ثانيًا، فمصر تمتلك ثروة غير مستغلة من مكونات المطابخ الجهوية المختلفة والمتنوعة، والتي إذا أحسن استغلالها فستكون واحدة من المكونات المميزة للترويج لمصر ثقافيا وحضاريا وسياحيا، وتعبيرا عن هويتنا وربط الأجيال الشابة بها.
مع المذاق المحايد للكريب وأمثاله من الوجبات السريعة غربية المنشأ، ضاعت على أجيال من الشباب والمراهقين القدرة على تذوق الأكلات المصرية الشعبية والتقليدية والاستمتاع بها، والتي ينظرون إليها الآن بنوع من أنواع الاستعلاء، بل يتفاخر البعض منهم أنه لم يعد يأكل الوجبات التي تذكره بالماضي، قال لي أحد شباب الصعيد مفتخرًا: “لا أكل الكشك.. أكلة قديمة.. أحب البانيه والمكرونة!”.
لكن هذا الشاب العشريني لم يدرك وهو يعطي ظهره للأكلات الشعبية أنه يقطع الجذور مع أهله وناسه، فالطعام ليس فقط معبرا عن الرغبة في سد وجع الجوع، بل عملية أكثر تعقيدًا تعبر عن معطيات ثقافية واجتماعية، كأحد تجليات الهوية المكانية والتعبير عن تفاعل الإنسان مع الطبيعة من حوله.
هنا سنركز على إعادة اكتشاف الأكلات المصرية على محورين؛ الأول كمكون للهوية المصرية وإعادة ربط الأجيال الشابة بأصولهم ومجتمعاتهم، والمحور الثاني هو تقديم تجارب يمكن استغلالها بشكل استثماري لتقديم تجارب طبخ محلية ونشرها عالميا لتكون محل جذب ومكون أساسي في المشهد السياحي في مصر، ما سيجعلها محل فخر للمصريين لا محل للدونية فيها.
البداية.. هيا بنا ننسف مقولة “المطبخ المصري فقير”
الحديث عن المطبخ المصري يجب أن يبدأ أولا بنسف مقولة شائعة تكرس شعور الدونية، تقول إن “المطبخ المصري فقير”، وأنه بلا هوية، وأن معظم أكلاته تأتي من مطابخ أخرى. معلومات تسربت إلى وجدان المصريين بلا أي دليل، فالواقع يقول إن هناك أكثر من مطبخ مصري، بسبب التنوع الإقليمي بين الصعيد والدلتا، ومدن الساحل ومدن الداخل، وبين إقليم القناة وإقليم القاهرة.
فنحن نتحدث في الواقع عن مطابخ مصرية متنوعة تقدم أكلات مختلفة، ما نراه مثلا في كتاب “طبيخ الصعايدة” لدرويش الأسيوطي، والمكرس لرصد أكلات محافظات الصعيد الأوسط؛ المنيا وسوهاج وأسيوط، إذ قدم تجربة شديدة الذكاء تربط بين مفهوم الوطنية والانتماء والأكلات المرتبطة بهذا الأقليم، والكتاب خطوة على طريق طويلة لتوثيق المطابخ المصرية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، وكذلك في محاولة كتاب “الطبخ أصله مصري” لسميرة عبد القادر.
وإذ ذكر التاريخ فالشواهد فيه على عراقة المطبخ المصري أكثر من أن تحصى، سواء على جدران المعابد التي سجل عليها المصريون القدماء الكثير من أكلاتهم، مرورا بتأليف الكتب في العصور الإسلامية مثل كتاب “كنز الفوائد في تنويع الموائد”، و”وصف الأطعمة المعتادة”، وكلاهما لمؤلفين مصريين من العصور الوسطى.
كما يذكر ابن خلدون في كتابه “العبر” معلومة تاريخية عن تفوق المطبخ المصري في العصر الفاطمي، إذ أرسل صاحب ديار بكر (جنوب شرق تركيا حاليا)، طباخين إلى الديار المصرية، لتعلم الطبخ هناك. هذا الخبر التاريخي يكشف عن تقدم فنون الطبخ في مصر الفاطمية، حتى أصبح المطبخ المصري المثل والرمز الذي يسعى الجميع لتقليده والنقل منه وعنه، حتى أن صاحب ديار بكر لم يجد في مطابخ الشام ولا العراق ما يسد حاجته في فنون الطبيخ إلا في قاهرة الفاطميين.
على البحر المالح.. ملوخية بالجمبري وصيادية
إذ تركنا التاريخ يروي قصص العراقة، وذهبنا في رحلة إلى أرض الواقع لمدن الساحل المصري، سنجد بعض أروع الأطباق التي يمكن أن يقابلها المرء، فالبحر يجود بكل ما هو طيب، والإنسان المصري يتفاعل مع عطايا البحر، فأبدعت مدن الساحل مثل الإسكندرية ودمياط وبورسعيد والسويس والإسماعيلية في طبخ أنواع مختلفة من الأسماك، فمن ينكر أصالة أكلة مثل الملوخية بالجمبري، والصيادية، وطواجن السمك المختلف ذات النفس المصري المميز؟
وتتميز كل منطقة ساحلية بتتبيلة خاصة، فهناك تتبيلة الإسكندرية المميزة، أما دمياط فتشتهر بالمدفونة والمكونة من الجمبري المدفون في طاجن الأرز، وهي وجبة معروفة أيضا في مدن القناة، بينما تختص بورسعيد بأكلة سمك الشبار وتتبيلته المخصوصة، كما تتميز مدن القناة ودمياط بطريقة شوي تعرف بفرن طاقة (بلاطة)، وهي تجربة مختلفة، وتعطي للسمك نكهة فريدة، لكن الشوي بهذه الطريقة في طور الانقراض حاليا، ما يعني أن الحاجة ماسة للمحافظة على هذه التجربة التراثية.
ويركز المطبخ المصري في مدن الساحل على استهلاك الأسماك بطرق مختلفة ومبدعة، وهنا لا بد من تسجيل هذا التراث الحي، وتكوين هوية بصرية لكل محافظة أو مجموعة محافظات في ما يخص الأكلات المتشابهة، والعمل على نشر القصص الملهمة والناجحة في مجال ترك بصمته على الطعام المحلي التقليدي، والنجاح في تقديمه بشكل حديث يناسب الأذواق الحالية دون أن يفقد أصالته وارتباطه بجذوره، مع تكثيف الدعاية له.
محشي الكرنب سيد الدلتا المتوج
إذا انتقلنا إلى الداخل أكثر، فسنجد أن معظم محافظات الدلتا تعشق المحشي بأنواعه المختلفة، ويكاد يكون محشي الكرنب وورق العنب في مرتبة المقدس لأهالي هذه المحافظات، وهي أكلة تقدم بنكهات وتتبيلات مصرية مختلفة لكنها تتفق على استخدام السمن الطبيعي ومرق الطيور لإعطاء مذاق مميز للمحشي.
ويقبل أهالي محافظات الدلتا على تناول الطيور المختلفة بشكل أساسي، كما تتميز هذه المحافظات، خصوصا المنوفية، بصناعة وجبة الكسكسي على الطريقة المصرية المختلفة عن مثيلاتها في بلدان المغرب العربي، كما تتميز المنوفية أيضا بصناعة الفطير المشلتت ومنتجات الألبان من الجبنة القريش والقشطة، رغم منافسة محافظات الدلتا لها.
وتعد الفتة المصرية من أبرز مميزات المائدة المصرية، رغم أنها تصنع بطرق مختلفة في طول مصر وعرضها، لكنها بكل الوصفات مصرية ومتميزة عن غيرها في البلدان العربية المجاورة، حتى أن المطاعم السورية عندما بدأت الانتشار في مصر، قدمت طبقا يتماشى مع الذوق المصري؛ عبارة عن فتة شاورما.
وتتواجد عدة قرى متخصصة في تقديم نوع واحد من الأكل مثل قرية العزيزية بالشرقية التي يتخصص أهلها في صناعة الحواوشي، بينما تقدم قرية كرداسة بالجيزة تجربة متخصصة في تقديم الكبدة الجملي والسمان، ومثل هذه التجارب تحتاج إلى الدعاية المكثفة، ونشر قصصها بشكل يركز على الهوية الذاتية من جانب، وجلب مزيد من الزبائن من جانب آخر.
الصعيد فسيفساء من عوالم الطبخ
في الجنوب حيث الصعيد، نجد التنوع أكثر قوة وتفردًا، فبالعودة إلى كتاب “طبيخ الصعايدة” نجد رصدا لمعظم الأكلات في محافظات المنيا وسوهاج وأسيوط، بداية من الأدوات المستخدمة والمصنوعة من الفخار والخشب، بما يعطي تجربة بصرية مميزة لعملية الطبخ بالأساس، مرورا بأنواع الخبز؛ المرحرح والشمسي، وصولا إلى الأكلات الأساسية في الصعيد مثل: الكشك والمخروطة والويكا والشلولو والمديدة والسخينة، وينتشر في الصعيد عادة حشو الطيور بالفريك.
وبينما تحتفظ أقاليم الأطراف في سيناء والوادي الجديد وجنوب البحر الأحمر بمطابخ ذات شخصية منفصلة، تتميز أكلات الأقصر خصوصا في البر الغربي بالبساطة، فالأكل هنا يطبخ بأقل التوابل سواء كنت تأكل الفول والطعمية أو المشويات والأرز أو الطبيخ، فكل شيء يصنع ببساطة آسرة، وعلى العكس تجد التنوع في مدينة أسوان التي تشتهر بتوابلها قوية المذاق، وتنوع مطبخها لتنوع أصول قاطنيها بين عرب ونوبة وصعايدة، إذ يتميز المطبخ النوبي بمكوناته الخاصة كأحد أبرز المطابخ الإقليمية في مصر.
ويقدم المطبخ النوبي فرصة ذهبية لتسويق تجربة تراثية حية بشكل متكامل، ففي بيوت طينية بألوان مبهجة تقدم أكلات شعبية في أجواء ساحرة لا ينقصها إلا الدعاية والترويج لها، فهنا يقدم العيش الشمسي، وخبز (الكابد)، والذي يعد على صاج على النار حتى ينضج بطريقة مخصوصة متوارثة من آلاف السنين، وهو يشبه عجينة الكريب لكنه أكثر سماكة، ويؤكل مع (الإتر) وهي السبانخ الخضراء المضاف إليها البامية الناشفة، وتعد (الإتر) مع خبز (الكابد) من أشهر الوجبات النوبية، ولا ننسى (الأبريه) المشروب الرسمي في قرى النوبة.
تنوع مبهر لكن ماذا بعد؟
العرض السريع الذي مررنا من خلاله على معظم المحافظات المصرية لا يستهدف حصر أو تقديم قائمة كاملة بما تملكه كل محافظة من أكلات شعبية متفردة، لكن الغرض هو إعطاء لمحة تنفي بشكل عملي مقولة إن المطبخ المصري فقير، وتثبت أن المصريين لديهم مطابخ متعددة ومتنوعة وشديدة الثراء تحتاج فقط من يسلط الضوء عليها، ويعيد استخدامها بشكل حديث.
فلو نظرنا إليها بالتقدير اللازم، وعملنا على تقديم الأكلات المصرية بشكل جذاب يناسب العصر الحالي القائم على الإبهار والدعاية، دون أن نفقد عنصر الأصالة، سنكسب الكثير من النقاط إذا أعدنا الاعتبار إلى المطابخ المصرية والأكلات التقليدية، فهنا لن يتحول التقليد إلى سبة، بل إلى أداة فخر للحفاظ على الهوية الإقليمية والريفية للكثير من الأماكن التي يشارك الجميع الآن في تشويهها والتخلص من تراثها.
لدينا الكثير من التجارب الناجحة لمئات من أصحاب مطاعم الأكل الشعبي، الذين نجحوا في تقديم تجارب مختلفة لإعادة استخدام تراث الأكل المصري بشكل حداثي، ينقص فقط التسويق لمثل هذه التجارب وربطها بحملات الدعاية السياحية داخل مصر وخارجها، فلا يعقل أن تسارع العديد من شعوب المنطقة بحق وبدون حق إلى محاولة تسجيل الكثير من الأكلات ذات الأصل المصري كتراث خاص بها، في وقت تظل مصر واقفة بلا حراك.
يرتبط إحياء المطابخ المصرية وتوثيقها والدعاية لها والعمل على تقديم الدعم للمبادرات المعنية بتشجيع الطباخين المحليين للحفاظ على تراث مصر من الأكل وفنون الطهي، ليس ترفًا، بل يرتبط بمنظور أعمق يهتم بالهوية من ناحية والجانب الاقتصادي من ناحية أخرى، فلا تفريط هنا بالتراث المحلي من أجل المكسب، بل على العكس الاستثمار فيه في ضوء الاهتمام بمفهوم السياحة الريفية ككل، ووقتها سيكون الرابح الأول هو المواطن المقيم في المناطق الريفية التي تمتلك عدة ثقيلة من التقاليد المتعلقة بالأكل وفنون الطبخ.
أين هي هيئة الطهي المصري؟
يحق لنا الآن أن نسأل: أين هي هيئة الطهي المصرية؟ مؤسسة رسمية معنية بالتركيز على الأكلات المصرية ورعايتها والعمل على تسجيلها، لتكون بمثابة المرجعية الشاملة عند الحديث عن المطابخ المصرية والتعريف بها محليا وعالميا، وإقامة العديد من المبادرات والفعاليات الخاصة بنشر التثقيف والوعي بأهمية الطهي المصري ونشر ثقافة الاعتزاز به.
والعمل على تكوين هوية للمطابخ الإقليمية في أقاليم مصر المختلفة، ورعاية المواهب الخاصة بتقديم أكلات من قلب الريف، حيث تحرس النساء الريفيات هذا التراث العظيم الذي بات على وشك الانقراض، والأهم تطوير ما هو موجود وتقديمه في شكل حديث لا يؤثر على مضمونه وجودته وأصالته.
هنا سيكون الإحياء من خلال مفهوم السياحية الريفية الشامل، إذ يرمي هذا المفهوم إلى إقامة أماكن في قلب الريف معدة لاستقبال السياح والمواطنين بأشكال تحافظ على الخصوصية الإقليمية وتنتصر لمفهوم التنمية المحلية باستخدام عناصر من أهل المكان ذاته للحفاظ على هويته، ومن ضمن مكونات التجربة هو الحصول على تجربة تناول طعام محلي يعبر عن خصوصية المكان.
ستكون أول مهمة لتلك الهيئة حال خروجها إلى النور يومًا، هي التأكيد على هوية المطابخ المصرية وأصالتها، مع ترسيخ ثقافة الطهي المصري في الوجدان، وتحويلها إلى شكل من أشكل الجذب السياحي والعالمي، أي تحويل الأكلات المصرية إلى مصدر دخل لأصحابها، فهنا تلعب الأكلات دورا مكملا مع الأماكن السياحية، عبر إقناع الهيئة للفنادق بعدم الاكتفاء بتقديم أكلات يمكن أن تجدها في أي مكان في العالم، بل تقديم أكلات مصرية بشكل حداثي.
ستكون تجربة مدهشة أن نرى مثل تلك الهيئة وهي تحافظ على الأكلات المصرية، وتسعى إلى تحويلها لمنتج يحقق الدخل لمواطنين في القرى والنجوع، وتمنحهم صك الاعتراف بهويتهم وتعمل على تسجيل تجاربهم كنوع من أنواع الافتخار بالهوية المحلية والتمسك بها، وتحويلها في الآن ذاته إلى مصدر دخل، عبر الاعتماد على مفهوم سياحة الطعام كشكل من أشكال السياحة الجديدة غير التقليدية.
نتخيل أن يأتي اليوم ويكون من بين برامج السياح، أنه بعد مشاهدة آثار الأقصر البديعة يتجهون صوب إحدى القرى القريبة لتناول الوجبات الشعبية الخارجة من جدران المعابد لتتجسد على طبلية المصريين المعاصرين.