وسط الأراضي الخضراء، والنيل ينساب من تحتك، وفي مواجهة الجبل الذي يفرض جماله الوقور، لكنه لا يخفي الصحراء التي تطل من خلفه، سيتجلى أمامك بعض جمال ريف المنيا الساحر. يبدو الناظر لهذا المشهد وكأنه احتوى بعض أجمل المناظر الطبيعية في مصر، وأنها اخُتزلت في منظر واحد يخطف الألباب.
تلك هي طبيعة المناظر التي يمكن لك أن تراها في العديد من قرى المنيا وغيرها في المحافظات المختلفة، والتي لا تدرج على قوائم المناطق السياحية، إذ يظل مصطلح السياحة الريفية غائب عن أذهان صناع السياحة في مصر، المحصورة في أماكن بعينها لا تتغير في برامج الدعاية التي تتجاهل رحلات اليوم الواحد، والعطل الأسبوعية، والإجازة السنوية.
المحافظات المصرية تضم أماكن ساحرة الجمال بين تلافيف الريف؛ الذي لا يزال ينبض بالحياة، تقدم تجربة فريدة في التفاعل مع مكونات مختلفة من عناصر المكان وطابعه الإقليمي والريفي وتفاعل البشر من حوله، لتكون لوحة شديدة التنوع لإمكانات هذا البلد المهدرة.
هنا لا نتوقف عند التعامل السطحي مع السياحة بترويج ما هو مروج بالفعل على المستوى العالمي، ففكرة السياحة الأثرية وترويج المواقع الأثرية في الجيزة والأقصر وأسوان أو السياحة الشاطئية في شرم الشيخ والغردقة، تكاد تكون الصورة الثابتة والذهنية عن مصر في أي ترويج سياحي، لكن هذه الصورة رغم عظمتها تهدر فرصة الترويج لتنوع هائل في ما تستطيع مختلف المحافظات المصرية تقديمه؛ بعيدا عن التعامل الجامد والتقليدي مع السياحة.
وتعد السياحة من أهم مكونات الاقتصاد المصري، وفي مقدمة مداخيل العملة الأجنبية لدولة تعاني في توفير الدولار لمواجهة فاتورة الاستيراد السنوية، إذ وصلت إيرادات السياحة في العام 2019 (عام ما قبل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية) إلى 13.9 مليار دولار وهو أعلى إيراد سنوي من السياحة بحسب تقرير الاتحاد المصري للغرف السياحية، بينما أظهرت بيانات البنك المركزي المصري، أن إيرادات السياحة ارتفعت خلال أول ثلاثة أشهر من العام المالي 2021/ 2022، لتسجل 2.84 مليار دولار مقابل 801 مليون دولار في نفس الفترة من العام المالي السابق عليه، وهي نتيجة طبيعية لتعافي قطاع السياحة عالميا بعد تقليص الإجراءات الاحترازية لوباء كورونا. هنا ومن خلال الكلمات سنتجول في سياحة أخرى بين مدن مصر وقراها، لنقدم الدليل الحي على أن الديار المصرية لديها فرصة ذهبية لمضاعفة هذه المداخيل عبر تنشيط نقاط القوى المهملة والمهدرة.
وجبة سياحية دسمة في المنيا.. نيل وجبل وطعام وسكان
إذا ذهبت إلى المنيا فقد تخطف نظرك في الوهلة الأولى الأماكن الأثرية ذائعة الصيت في عروس الصعيد، مثل مقابر بني حسن أو تل العمارنة أو تونة الجبل، أو مقابر البهنسا (البقيع الثاني)، أو دير جبل الطير ومغارة العائلة المقدسة، لكن هذا الزخم كله لا يختصر قصة المنيا التي تمتلك مقومات المحافظة السياحية المتكاملة، فالجمال المبثوث في ثنايا المحافظة الممتدة على ضفتي نهر النيل يبهر في تفاصيله، ففوق الجبل الشرقي عند طهنا الجبل، ترى الطبيعة الساحرة تمتد أمامك بين خضرة يقطعها انسياب نهر النيل، وتحت الجبل تقبع قرية تحتفظ ببعض معالم الريف المصري التقليدي بتفاصيله البديعة.
وهو نفس المشهد الذي تراه في قلب مدينة المنيا وصولا إلى جنوب المحافظة حيث قرية البرشا غير بعيدة عن بقايا مدينة أخيتاتون، لكن هنا في البرشا والأجزاء المحيطة بها نجد الطبيعة الريفية البكر التي لو أحسن استغلالها لقدمت سياحة من نوع مختلف، تربط مكونات الطبيعة مع مفردات الحياة اليومية في المناطق الريفية مع وجبات تراثية تعبر عن هوية المكان، إذ تتميز هذه المنطقة بصناعة نوع مخصوص من الجبنة البيضاء محلة شهرة واسعة في صعيد مصر.
ما نراه في المنيا من لوحة جمالية مصنوعة من حضور النيل القوي والجبل المهيمن مع مزيج من أخضر الأراضي الزراعية وأصفر الصحراء المترامية، يصنع مساحات يمكن استغلالها لخلق إطلالات شديدة الثراء لمن يبحث عن الاسترخاء والبعد عن ضوضاء المدن وخصوصا القاهرة، والاستمتاع بتجارب مختلفة في تذوق طعم حياة الريف، وهي تجربة لكي تنجح يجب أن تقوم أساسا على الاستعانة بالعناصر المحلية مع تدريبهم ودمجهم في أنشطة اقتصادية تحقق لهم المكسب والدافع للحفاظ على نمط حياتهم، وطريقة أكلهم، فالهدف الرئيس من هكذا فكر هو التنمية المحلية بشكل أساسي، بطريقة خلاقة ومراعية للخصوصية الإقليمية لكل منطقة.
إذا تركنا المنيا خلفنا واتجهنا جنوبًا، سنجد الكثير من الأماكن التي يمكن استغلالها بنفس المنطق في محافظات سوهاج وأسيوط وقنا، والأخيرة تحديدا لا تزال تحتفظ بالكثير من بكارتها، وإذا زرت قرية دندرة ستجد حالة من التداخل والتعايش بين أهالي القرية المعاصرين مع تراث أجدادهم الشامخ والمتجلي في صورة معبد دندرة الشهير.
هنا في قرية دندرة التي لا تبعد كثيرا عن مدينة قنا، يمكن استغلال الحياة الريفية والطبيعة الخلابة مع آثار معبد دندرة في إقامة سياحة متكاملة، تتضمن إقامة في القرية في منازل مبنية على الطراز الصعيدي بعناصر صديقة للبيئة، مع إمكانية إعادة بعث أنشطة تراثية من قلب المكان مثل إقامة سهرات للربابة وإلقاء أشعار الهلالية، أو سهرات الإنشاد الديني الذي تتميز به مدن الصعيد، فضلا عن إقامة حفلات للتحطيب والمرماح.
وفي إدفو بمحافظة أسوان، سنجد جبل السيوطي بالقرب من نجع المفالسة، والذي يفصل النيل عن القرى خلفه، فضمن لها في الماضي أن تعيش في ظله غير خائفة من سطوة الفيضان، والآن يطل الجبل على مشهد بديع الجمال ربما لا يتكرر في نيل مصر كلها، إذ يتقدم الجبل ليجبر النيل على الالتفاف من حوله، فيعطي بانوراما نيلية تقع خلفها مساحات من الأراضي الزراعية التابعة لمدينة إدفو، وهو مشهد ترى فيه ألوان بديعة عند شروق الشمس وغروبها.
يزيد من جمال هذا المشهد أن نقاء مياه النيل ترتفع في هذه المنطقة بفعل وجود الجبل الذي يعمل كفلتر طبيعي، لذا يلجأ بعض أبناء القرى المجاورة لهذه المنطقة أسفل الجبل في الجزء المطل على النيل للسباحة وقضاء الأمسيات وتناول مشروب الشاي المعد من مياه النيل مباشرة.
وإذ ذكر النيل يجب أن نقر حقيقة أننا لم نستغل هذا المجري المائي العظيم كما يجب، فمفهوم الرحلات النيلية شبه معدوم، ويكاد يقتصر على الأجانب، خصوصا أن الخدمة المتوفرة حاليا مرتفعة التكلفة ولا يقدر عليها إلا الأثرياء، على الرغم من أنه يمكن من خلال إدارة احترافية أن يتحول النيل إلى واحد من أهم المقاصد السياحية في ذاته، إذ توفرت الدعاية الكافية للجولات النيلية التي تنطلق من القناطر الخيرية حيث الحدائق الغناء غير المستغلة بالشكل الأمثل، مرروا بمعالم القاهرة إلى محافظات الصعيد المختلفة وصولا إلى أسوان، مع التوقف عند المعالم المختلفة في كل محافظة سواء كانت أثرية أو طبيعية أو ريفية، مع توفير رحلات أقصر في المسافة والزمن لكي تكون هناك مرونة كافية في الأسعار تناسب مختلف الشرائح.
لا تزال هناك فرصة أخيرة في الجيزة..التفكير في ترويض عِمارة الريف على الواجهة النيلية
وإذا تكلمنا على الجمال الريفي حيث الطبيعة المتفجرة، يمكن أن نضع قرية القطا الواقعة بأقصى شمال الجيزة كنموذج حي للجمال الذي تحتضنه الطبيعة، فالمنطقة المعروفة في القرية باسم “الباسطة” هي أرض طرح نهر، أي تكونت من تراكم طمي النيل في سنوات الفيضان قبل بناء السد العالي، لذا تتميز بخصوبتها الشديدة، وبإطلالتها على فرع رشيد، فكأنها في حضن النيل، وتطل على الأراضي الزراعية في الجهة الأخرى من فرع رشيد وهي أراضي واقعة في محافظة المنوفية.
والجمال الرباني هنا في القطا يمكن استغلاله بإقامة بيوت ريفية صغيرة ذات بساطة آسرة، وإشراك الأهالي بتقديم الأطباق الريفية المميزة من فطير مشلتت وأنواع من الجبن المصنوعة يدويا والقشطة البلدي، لمن يأتي لزيارة هذه البيوت المزروعة بين جنان المانجو والعنب والموز واليوسفي، وهي تجربة يمكن استكمالها بتوفير جولة نيلية في فرع رشيد المحاط بمساحات خضراء وريف بكر على مرمى البصر بداية من حدائق القناطر الخيرية الشهيرة.
لكن الاستفادة من هذا الجمال المختبئ يجب أن تسبقه خطة متعددة المستويات، أولها العناية بالطرق الداخلية الموصلة لهذه الأماكن التي تقع في مناطق التي تخدمها شبكة طرق متهالكة، لأن ثورة الطرق الحالية تركز على الطرق الإقليمية بشكل أساسي، فالطرق الداخلية تحتاج إلى عناية شاملة لكي تيسر من إمكانية الوصول إليها بشكل مريح، كما يجب أن يتم إعداد كل تلك المناطق لكي تستقبل أنشطة سياحية سواء كانت السياحة من الخارج أو الداخل.
ولا يتوقف الإعداد على الجوانب الخاصة بالبنية التحتية فقط، بل يجب أن تمتد إلى الإنسان لأن معظم تلك الأماكن تقع داخل أو بالقرب من كتل سكانية، يجب إشراك أهلها في عوائد السياحة لأنها ستقوم بهم، فإذا ما شعروا بأن القادمين لزيارة هذه الأماكن يحملون الخير والمكسب لأهالي تلك الأماكن فإنهم لا محالة سينخرطون في الحفاظ على تراثهم طالما يمكن تسويقه والاعتماد عليه كمصدر للفخر وليس نقطة ضعف يتم التخلص منها بتبني قيما أكثر حداثة.
ضمان الاستدامة.. الكرنفالات الريفية كعائد استثماري سنوي
بعض المناطق الريفية تتميز بإنتاج محاصيل بعينها يمكن تسويقها بشكل جذاب وكرنفالي، ففي محافظة الإسماعيلية انطلق مهرجان المانجو بشكل متواضع هذا العام، وكان بسيطا في فعالياته، لكننا نستطيع أن نحوله إلى كرنفال دولي بشكل مميز وفعاليات لا تنتهي، يمزج فيها الاحتفال بالمانجو كفاكهة تلقى محبة مختلف الأجيال، وبين الفلكلور الخاص بمدينة الإسماعيلية والمتمثل في السمسمية، وتحتفل المحافظة بمهرجان الفراولة، وهما معا من الممكن تدشينهما كبداية لنوع مختلف من الاحتفالات الكرنفالية في مختلف المحافظات، خصوصا أن مدينة الإسماعيلية تمتلك طبيعة ساحرة بنسبة تشجير مرتفعة، بالإضافة إلى أنه يمكن استغلال الكثير من المباني الخشبية الجميلة التي تعود إلى سنوات تأسيس المدينة كأماكن لمبيت السياح، وهي خاضعة لهيئة قناة السويس، لذا يمكن أن تستفيد منها الأخيرة في الترويج السياحي للمدينة ذات الهواء النقي بشكل استثنائي، وهناك ميزة إضافية وهي أن الإسماعيلية بفضل ثورة الطرق الأخيرة لم تعد تبعد عن القاهرة بأكثر من ساعة واحدة، ما يجعلها مناسبة لرحلات اليوم الواحد.
وإذا ذهبنا إلى أسيوط سنجد مركز البداري المتخصص في زراعة الرمان، تلك الفاكهة الحمراء لذيذة الطعم، فلماذا لا يقام مهرجان يستمر لمدة أسبوع بفعاليات لا تنتهي ليكون نقطة جذب لأهالي قرى المركز وكلها تمتلك مساحات زراعية وريف يتميز بمكوناته البكر، بينما بشيء من البساطة إعداد كرنفال التوابل في مدينة أسوان الشهيرة بأسواق التوابل مختلفة الألوان، سيكون هذا الكرنفال نقطة جذب قوية للمدينة الوادعة في الجنوب، والتي تمتلك الكثير من الجمال الهادئ الذي يجبر الجميع على الوقوع في عشق هذه المدينة، التي تمتلك بعض الجزر في المنطقة الواقعة بين سد أسوان والسد العالي تكاد تكون من أجمل ما تراه العين في العالم، فهنا بالقرب من جزيرة هيسا النوبية الواقعة، هناك ستشرب من نهر النيل مباشرة بدون وساطة.
حقول بني سويف مسؤولة عن تشغيل مصانع برلين.. الدور الذي قد يلعبه الريف في ربط مصر بسلاسل التوريد العالمية
نموذج آخر تقدمه قرية أبو مليح التابعة لمركز سمسطا بمحافظة بني سويف، إذ تتميز منشأة أبو مليح برائحة النباتات الطبية الفواحة التي تنبع من حقول النعناع والريحان واليانسون والبابونج وغيرها من النباتات الطبية الممتدة حقولها، والتي تشتهر بها القرية الواقعة في جنوبي محافظة بني سويف، والتي أصبحت ذات شهرة عالمية عبر تصدير النباتات الطبية إلى أوروبا عموماً وألمانيا خصوصاً، وتمتد فيها حقول النباتات بألوان مبهجة، وروائح فواحة، تنبع من محاصيل الشيح والبابونج والنعناع والبردقوش والريحان واليانسون والعتر وحشيشة الليمون، وهو ما يجعل الجولة بين هذه الحقول مختلفة الألوان تجربة “ترد الروح”، خصوصا مع الاستماع إلى قصص المزارعين الذين يفتخرون بزراعتهم الخاصة، وكيفية تجفيف النباتات العطرية في الجبل الغربي تمهيدا لتصديرها.
يمكن استغلال تفرد قرية منشأة أبو مليح في مجالها الزراعي أفضل استغلال من ناحية اقتصادية، عبر تنظيم مهرجان كرنفالي حول النباتات العطرية وتنظيم فعاليات متعددة تكون مصدر دخل لأهالي القرية، خاصة أن مصر تحتل المركز الرابع عالميا في إنتاج النباتات الطبية والعطرية، هنا تتفاعل مكونات المهرجان مع واقع الحياة الريفية التي يمكن تقديمها كداعم وكتجربة معيشية لمن يرغب بالتوازي مع الأجواء الاحتفالية التي يجب أن تستمر لأسبوع على الأقل.
وهي نفس الفكرة التي تسعى محافظة الفيوم لتبنيها لإقامة أول مهرجان للنباتات الطبية والعطرية، في أكتوبر المقبل، لكن فكرة المهرجان حتى الآن تدور حول فعاليات رسمية تدور حول أمور لا تجذب المواطنين من مختلف المحافظات لزيارة القرى المتخصصة في زراعة النباتات العطرية والطبية، فلا تتوقف هذه النوعية من المهرجانات على مجرد عرض المنتجات المختلفة، بل تتحول إلى احتفالية كرنفالية تتضمن الكثير من الأفكار المتعلقة بالتراث المحلي لأهالي تلك القرى، فضلا عن تجهيز أماكن للإقامة في هذه القرى لمن يرغب في إقامة في بيوت ريفية تطل على حقول نباتات عطرية فواحة مختلفة الألوان.
العوائد المالية والاجتماعية… السكان المحليين أولاً
عند البدء في جولة في محافظات مصر خلال العام الجاري، لاحظ المرء أن الكثير من الخصوصية الإقليمية للعديد من الأماكن في محافظات مصر، في طور الانهيار أمام مد الحداثة بصيغتها الأمريكية الكاسح، ففي محافظات الدلتا كما الصعيد ستجد إقبال الشباب والمراهقين على اعتناق قيم غربية، ومن ثم يتبرأون من القيم المجتمعية التي تربوا عليها، في محاولة لتغيير الجلد مع الشعور بنوع من أنواع الدونية والنقص أمام التراث المحلي، والذي لا يحافظ عليه الآن إلا كبار السن.
ومن هنا أهمية الحفاظ على التراث المحلي المعبر عن هوية المكان من خلال إعادة ربط الشباب بهذا التراث، عبر تقديمه بشكل ذكي يحافظ عليه ويقدمه في الآن نفسه بشكل يحقق الربح والدخل لأهالي تلك المناطق، بالاهتمام بها وإظهار خصوصية الجمال فيها، في إطار منظور أوسع لمفهوم السياحة يكون المستفيد الأول فيه هو أصحاب المكان، فأي مشروع يستبعد أبناء المكان منه سيحكم عليه بالفشل منذ البداية.