التحالف الثلاثي بين عامي 1956 و1979، والذي من خلاله شاركت إسرائيل معلومات استخباراتية مع إيران وتركيا على نطاق لم يسبق له مثيل منذ ذلك الحين، كان أحد إنجازات السياسة الخارجية الأكثر تأثيرًا وعُمقًا لإسرائيل. قدّم هذا التحالف طليعة عقيدة إسرائيل للتعامل مع جيرانها، واستراتيجية كبرى للمرة الأولى منذ إنشائها. علاقة القدس بطهران استمرت لأكثر من 20 عامًا، حتى سقوط شاه إيران محمد رضا بهلوي في عام 1979.
واستمرت علاقة إسرائيل الاستراتيجية مع تركيا على نحو متقطع لعدة عقود، وانتهت بتصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اللاذعة في قمة دافوس عام 2009.
وعلى الرغم من طموح هذا التحالف الثلاثي؛ إلّا أنّه كان ضمن سلسلة من المحاولات الإسرائيلية لإيجاد أرضية مشتركة مع معظم الحلفاء من غير العرب
صوّتت إيران وتركيا ضد قيام دولة إسرائيل من قِبل الأمم المتحدة في عام 1947، ولم يدعما طلب إسرائيل لعضوية الأمم المتحدة في عام 1949. ومع ذلك، كلاهما شرع في الاعتراف بإسرائيل على أساس الأمر الواقع، وإقامة علاقات سرية على مستوى منخفض من خلال البعثات التجارية. وكان لدى إيران وتركيا عدد من الدوافع للدخول في علاقات مع إسرائيل والحفاظ عليها عند مستويات منخفضة، يمكن إنكارها. كما كانت علاقات تلك البلدين مع جيرانهما العرب متوترة في كثير من الأحيان، وكانت العلاقات الدافئة أو الفاترة بمثابة النفوذ المؤثر لصالح إسرائيل.
بالإضافة إلى ذلك، كان هناك البُعد الأمريكي: رئيس الوزراء الإسرائيلي “ديفيد بن غوريون” سوّق هذا التحالف الثلاثي إلى واشنطن كعنصر داعم للغرب ضد الغارات السوفيتية في الشرق الأوسط وكقوة لمكافحة التطرف العربي. فهمت إيران وتركيا النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة وأدركتا أنّ وجود علاقة وثيقة مع إسرائيل يعني أن اللوبي اليهودي الأمريكي سينقل احتياجاتهما إلى واشنطن.
كما أثار التحالف الحوافز الإقليمية الجيوستراتيجية. إنجازات إسرائيل في حملة سيناء عام 1956، نظام جمال عبد الناصر الفاسد في مصر، الانقلاب العراقي في عام 1958، تزايد المخاوف من اجتياح الاتحاد السوفيتي؛ كل هذه الأمور جمعت إيران وإسرائيل وتركيا في علاقة استخباراتية تشكّلت في سلسلة من الاجتماعات المنفصلة في أوروبا وأنقرة وطهران من عام 1956 إلى عام 1958. وفي الجلسة الثلاثية الأولى، وضع رؤساء كل جهاز استخبارات وطني مجموعة من المشاريع المخابراتية التعاونية، أدى بعضها إلى مشاريع تخريب موجهة ضد الناصريين والنفوذ الإقليمي السوفيتي.
في تلك الأيام، كان الجانب الإسرائيلي الإيراني من العلاقة الثلاثية أكثر نشاطًا من البُعد الإسرائيلي التركي، وكان اليهود العراقيون الذين فروا من نظام بغداد إلى كردستان العراق قادرين بعد ذلك على الهجرة إلى إسرائيل وغيرها عن طريق إيران.
وقام الضباط الإسرائيليون بتدريب القوات الإيرانية، وباعت إسرائيل الأسلحة لنظام الشاه. وعلى الجانب الآخر، استندت علاقة إسرائيل مع تركيا على تعاون تاريخي: كانت تركيا ملجئًا لليهود خلال محاكم التفتيش الإسبانية والاحتلال النازي لأوروبا. لكنّ قرار أنقرة بالدخول في اتفاق كان سببه مخاوف الحرب الباردة من الشيوعية الإقليمية والغضب من دعم العربي لليونان في قبرص.
منذ الأيام الأولى من التحالف الثلاثي، تراجعت علاقة أنقرة وطهران مع إسرائيل بشكل مؤقت في ظل الضغط العربي القوي. أساء كل من تركيا وإيران للمشاعر الإسرائيلية؛ واعتقد كلا البلدين أنّ إسرائيل بحاجة لعلاقات سرية معهما أكثر من حاجتهما لإقامة علاقات مع إسرائيل.
وعلى الرغم من ازدهار هذا التحالف بشكل سري، إلّا أنّ تركيا كانت تلْفِت أو تصرف الانتباه عن علاقتها العلنية مع إسرائيل وفقًا لحساسيات الضغوط العربية على القضية الفلسطينية.
وخلال الحروب العربية الإسرائيلية عام 1967 وعام 1973، رفضت تركيا السماح لمساعي الولايات المتحدة بإعادة التجهيز العسكري لاستخدام القواعد التركية أو مجالها الجوي من أجل مساعدة إسرائيل.
وفي عام 1975، صوّتت أنقرة لقرار “الصهيونية هي العنصرية” الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة. في عام 1991، عندما تم إلغاء القرار، امتنعت تركيا عن التصويت. وحتى عندما رفعت تركيا العلاقات مع إسرائيل إلى مستوى السفراء في عام 1991، بعد فترة طويلة من التحالف الثلاثي، وازنت هذه الخطوة من خلال الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كدولة.
وبحلول عام 1979، تغيّرت المواقف في طهران، وانتهى التحالف الثلاثي. خلال حرب يوم الغفران، أكتوبر 1973، انضم الشاه إلى الحظر النفطي من منظمة “أوبك لمعاقبة الدول المرتبطة بإسرائيل ووقف شحنات النفط إلى إسرائيل. في عام 1975، قام بهلوي بمقابلة كاشفة اعترف فيها علانيةً بالعلاقات العسكرية والمخابراتية بين إيران وإسرائيل، وتبريرها من حيث العداء العربي خلال فترة عبد الناصر.
وقال بهلوي: “لكن الوضع تغيّر الآن“. وأضاف: “وسائل الإعلام الإسرائيلية تهاجمنا بقوة … نصحنا إسرائيل أنّه لا يمكنها غزو العالم العربي بأسره. وللقيام بذلك، فهي تحتاج إلى عدد سكّان يتراوح بين 20-30 مليون شخص على الأقل … تستحوذ إسرائيل على اهتمام جميع الدول العربية. ولست على يقين من أنّ هناك حلًا نهائيًا لمشكلة هذه المواجهة“.
بعد سقوط الشاه وانهيار التحالف الثلاثي، حافظت تركيا وإسرائيل على علاقاتهما المتقلبة، بالتوازي مع أزمات ونجاحات تركيا مع العالم العربي. وبعد تراجع العلاقات في أواخر الثمانينيات، استثمر كبار المسؤولين الإسرائيليين بشكل كبير في إعادة بناء العلاقة، بما في ذلك مساعدة تركيا في مواجهة اللوبي الأرميني في واشنطن.
وحدث تطور استراتيجي كبير في العلاقات الإسرائيلية التركية خلال فترة التسعينيات، بقيادة القوات المسلحة التركية. أنهت تركيا مبيعات الأسلحة مع إسرائيل، وزار القادة الأتراك إسرائيل.
وفي نهاية المطاف، صعود حزب العدالة والتنمية التركي إلى السُلطة في عام 2002 تحت قيادة أردوغان بَشّر بموجة هبوطية جديدة في العلاقات مع إسرائيل. وكانت العلاقة بينهما في الحضيض بعد حادثة “مافي مرمرة” عام 2010، والتي قتل فيها قوات الكوماندوز البحرية الإسرائيلية تسعة من الإسلاميين الأتراك في المياه الدولية؛ في سياق عملية اعتراض فاشلة لسفينة مساعدات تركية متجهة إلى قطاع غزة.
من وجهة نظر إسرائيل، كان التحالف الثلاثي تحالفًا استخباراتيًا غير متوازن تحت حاشية بروتوكول مُنَمَّقُ؛ حيث قدّمت إسرائيل معلومات استخباراتية هامة أكثر من المعلومات التي حصلت عليها في المقابل. وعلى الرغم من افتقاره لجوهر حقيقي على المستوى الثلاثي؛ إلّا أنّ هذا التحالف أرسل رسالة مهمة للأمريكان، والسوفييت، والعرب، وهي: “إنّ إسرائيل ليست وحدها؛ فهي لديها حلفاء مهمون في المنطقة”.
وكان لانتهاء عزلة إسرائيل الحادة في الخمسينيات أهمية كبيرة؛ إذ أدى إلى الردع، والاستمرارية، والاستقرار في فترة وجدت إسرائيل نفسها ضائعة في فضاء أوسع من الأعداء.