تراجعت حظوظ القارة الأفريقية كقوة اقتصادية وسياسية صاعدة على خلفية احتدام الصراعات والأزمات الدولية في السنوات الأخيرة لاسيما مع تفشي جائحة كوفيد-19 وتداعياتها، والأزمة الروسية الأوكرانية والتوتر الأمريكي- الصيني في تايوان ومآلاته المرتقبة؛ وبينما كشف هذا التراجع عن استدامة أزمات هيكلية في بناء الدولة الأفريقية “بعد الاستقلال” فإنه أعاد ترسيخ صورة القارة التقليدية كساحة خلفية للصراعات الدولية سواء بدافع من التكالب على موارد القارة الطبيعية والبشرية كمُدخل هام لاستمرار نمو اقتصادات الدول المتصارعة، أم لضمان عدم المساس بخطوط الهيمنة المفروضة على القارة وقواعدها منذ عقود.
وبينما كانت عقود الحرب الباردة والتنافس الأمريكي السوفييتي (أو المعسكران الغربي والشرقي) على القارة تجسيدًا لرؤى دولتية شاملة للصراع والهيمنة والتقاطع وفق خطوط أيديولوجية (حقيقية أو متخيلة) فإن الصراع الدائر بين الولايات المتحدة والصين وروسيا على النفوذ في القارة، وسط تصورات بتغيرات جذرية في ديناميات العلاقات الدولية ستؤثر حتمًا على دول أفريقيا، أصبح يعبر عن أدوار فاعلين بأدوات وتوجهات مغايرة تسبق في بعض الحالات سياسات “دولتية” وتحظى باستجابة أفريقية “مرنة” تعكس، أكثر ما تعكس، رغبة قادة وحكومات دول القارة في الاستفادة من هامش مناورة يتزايد يومًا بعد آخر ويتيح لهذه الدول خيارات ومواقف لم تكن متخيلة قبل سنوات قليلة، سواء في مواجهة علاقاتها وارتباطاتها بقوى تقليدية (مثل فرنسا والولايات المتحدة) أو في الجرأة في توظيف خطابات “ثورية” مناهضة “للهيمنة” الغربية دون أن يكون لذلك تأثير فعلي على مسارات التحول الديمقراطي أو إرساء “الحكم الرشيد” في القارة، إن لم يتجاوز ذلك إلى تكريس الاستبداد والجمود السياسي وتشوه العدالة الاجتماعية في المراحل المقبلة.
أفريقيا ومداخل النفوذ الدولي
يمكن فرز مداخل النفوذ الدولي في أفريقيا وفق تفاعلات الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا والصين على النحو التالي:
-
الصين: المدخل الاقتصادي
تمكنت الصين في العقد الأخير من تثبيت مدخل نفوذها الاقتصادي في القارة، مع تعظيم نفوذها السياسي في الأعوام الأخيرة وتوقعات بتعميق هذا التوجه في ظل المنافسة الجارية مع الولايات المتحدة في القارة. وأصبحت الصين الشريك التجاري الأول والمصدر الأكبر للاستثمارات الخارجية لأفريقيا بعد أن كانت هذه الاستثمارات تقف عند 210 مليون دولار في العام 2000 ووصلت إلى 3.17 بليون دولار في العام 2011([1])، ثم تضاعف في العام 2015 إلى 55 بليون دولار (قبل أن تتراجع في العامين 2019 و2020 إلى 2.7 و 4.2 بليون دولار على الترتيب)، وتوصلت دراسة أجريت على ارتباط الاستثمارات الصينية بتحقيق النفوذ داخل القارة الأفريقية (2001-2018) إلى أن كل بليون دولار من الاستثمارات الخارجية المباشرة أسهم في زيادة قدرت بنسبة 8% في الانحياز السياسي مع الصين، وتراجع ملحوظ في نفس المؤشر بالنسبة لعلاقات الدول الأفريقية مع الولايات المتحدة([2]).
ويمثل مدخل الصين الاقتصادي لترسيخ النفوذ في القارة الأفريقية المقاربة الأكثر نجاعة أفريقيًا لعدة عوامل ملحوظة أبرزها عدم وجود مشروطيات سياسية متلازمة (من قبيل سجل حقوق الإنسان أو ضبط مسار التحول الديمقراطي)، وتلبية بكين لمخاوف الكثير من الدول الأفريقية (أو نظم الحكم بها) إزاء مزيد من التفكك والتداعي على خلفيات أزمات إثنية وسياسية وأمنية شاملة (كما برز في الحالة الإثيوبية منذ نهاية العام 2020 على الأقل). غير أنه ثمة إشارات مهمة لوجود انتكاسات في نجاح هذا المدخل الاقتصادي بالتزامن مع تصاعد “التنافس” الدولي الراهن على حصص النفوذ في القارة، أو ما رصده تحليل مؤخر نشرته “فورين بوليسي” من أن احد أهم مخاوف الولايات المتحدة منذ إدارة باراك أوباما إزاء النفوذ الصيني يتمثل في تصدير نموذجها السياسي لأفريقيا([3])، إذ تعيد عدد من الدول الأفريقية النظر في علاقاتها مع الصين فيما علقت دولًا أخرى تعاقدات مع شركات صينية في الفترة 2020-2022 بسبب الافتقار للشفافية في حالات معينة أو لغموض في بعض بنود مبادرة الحزام والطريق؛ من ذلك إلغاء محكمة كينية عليا في يوليو 2020 عقدًا بقيمة 3.2 بليون دولار بين كينيا والصين لتشييد خط سكك حديدية Standard Gauge Railway بوصفه “غير قانوني” لأن شركة السكك الحديدية الحكومية في كينيا لم تلتزم بقوانين التعاقد للدولة. كما ألغت غانا في العام الماضي (2021) عقدًا بقيمة 236 مليون دولار مع شركة Beijing Everyway Traffic and Lighting Tech لتطوير نظام إدارة مرورية ذكي، فيما تراجع جمهورية الكونغو الديمقراطية (التي كانت ضمن محطات جولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أغسطس الجاري) اتفاق تعدين بقيمة 6 بليون دولار مع مستثمرين صينيين حسبما أوردت رويترز في نهاية العام 2021([4]).
-
روسيا- المدخل الأمني والعسكري
أما روسيا فإن مدخل نفوذها الرئيس للقارة الأفريقية يتمثل في الدعم الأمني والعسكري، مع ملاحظة هامشية نفوذها الاقتصادي في القارة وأن أغلب استثماراتها عبارة عن طروحات أولية معلقة أو غير واقعية في أحيان أخرى (مثل مقترحات مشاريع الطاقة النووية في عدد من دول أفريقيا جنوب الصحراء بقيم تتجاوز أحيان الناتج المحلي الإجمالي السنوي لهذه الدول وغلبة الطابع الدعائي والسياسي عليها). وإلى جانب الدور الروسي في مناطق أزمات متفرقة مثل ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى والسودان.
يتصاعد هذا الدور بشكل ملحوظ في الشهور الأخيرة في حالتي مالي واوغندا؛ فقد بادرت موسكو بتعزيز موقفها الداعم لنظام عاصمي غويتا مطلع أغسطس الجاري بإرسال خمسة طائرات مقاتلة وطائرة هليكوبتر قتالية إضافة إلى العديد من طائرات L-39 وسوخوي-25 وطائرة هيلوكوبتر من طراز Mi-24P بعد صفقة مشابهة تمت بالفعل في أبريل الماضي شملت تقديم موسكو لباماكو طائرتي هيلوكوبتر من طراز Mi-24P، عززت بدورها قدرات الجيش المالي على مواجهة التحديات الأمنية الخطيرة التي تضرب البلاد منذ عهد الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا المعروف بصلاته الوطيدة مع باريس والذي عزل على خلفية اتهامات بالفساد والتواطؤ مع باريس لاستمرار أزمات البلاد المزمنة (ووصلت إلى اتهامات مالية رسمية للقوات الفرنسية في مالي بدعم جماعات إرهابية في شمالي شرقي البلاد نهاية العام 2021) وسط تأكيدات من كبار المسئولين الماليين (لاسيما الرئيس غويتا ووزير دفاعه ساديو كمارا) باستمرار الشراكة مع الاتحاد الروسي على أساس الفوز المتبادل([5]).
أما أوغندا، التي كانت إحدى محطات جولة سيرجي لافروف الأخيرة في أفريقيا، فإنها تتمتع بدعم عسكري روسي، وإن كان في حده الأدنى راهنًا وقاصرًا على معدات نقل وتتبع. وتخشى الولايات المتحدة من تمدد روسيا في هذه الدول المهمة، واتضح ذلك في إرسال واشنطن سفيرتها في الأمم المتحدة ليندا توماس جرينفيلد لكمبالا بعد نحو أسبوع من مغادرة لافروف الأراضي الأوغندية وتحذيرها الملفت للحكومة الأوغندية بضرورة عدم “خرق العقوبات المفروضة على روسيا” والامتناع “مثالًا” عن استيراد شحنات وقود روسية([6]).
وهكذا بينما تراقب الدول الغربية ما تعتبره مساع روسية حثيثة “من ليبيا إلى نيجيريا، ومن إثيوبيا إلى مالي” لبناء تحالفات عسكرية استراتيجية رئيسة ونيل مقبولية متزايدة وسط شعوب القارة الأفريقية، فإن هذه الدول لا تزال تنظر باستخفاف لطبيعة مخاوف الدول الأفريقية من قضايا الإرهاب وعدم الأمن او عدم الاستقرار أو حتى تهديدات وقوع انقلابات عسكرية على خلفية ضعف الأداء الحكومي في هذه الملفات. وعلى سبيل المثال فإن نيجيريا (التي وقعت معها موسكو منتصف العام الماضي اتفاقًا عسكريًا هو الأهم إلى جانب اتفاق مماثل مع أديس أبابا في توقيت متزامن) واجهت مرة أخرى سحب الولايات المتحدة خطط دعمها عسكريًا بمعدات لمواجهة الإرهاب في يوليو 2021 عندما أوقف المشرعون الأمريكيون صفقة بقيمة بليون دولار لنظام محمد بخاري “على خلفية اتهامات للحكومة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان”([7])؛ الأمر الذي لم تتم مراجعته وترك المجال مفتوحًا أمام مزيد من ترسخ مدخل روسيا الأمني والعسكري في القارة الأفريقية.
-
الولايات المتحدة- المقاربة الشاملة
تملك الولايات المتحدة حزمة متكاملة من الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية وربما الشعبية في مقاربتها الأفريقية والمراكمة المستدامة على تراث ممتد من النفوذ الأمريكي في القارة في أغلب أرجائها. كما أن القطاع الخاص الأمريكي يعزز بقوة هذه المقاربة “الأكثر اكتمالًا”. وفي مسعى لتعويض التجاهل الأمريكي لأفريقيا، والذي تعاظم في ظل إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، بدأت الإدارة الأمريكية، متأخرة نسبيًا وبدافع أساسي من مواجهة النفوذ الصيني والروسي المتعاظم في القارة مما يهدد جدية المساعي الأمريكي على المدى البعيد، في إطلاق خطة طارئة للتكيف والصمود Emergency Plan for Adaptation and Resilience أقر بموجبها الكونجرس الأمريكي تخصيص 3 بليون دولار سنويًا (بدءًا من العام 2024) لتمويل مشروعات التكيف المناخي في القارة، كما عزز برنامج Power Africa الذي دشنته إدارة بايدن الحضور الأمريكي في القارة من بوابته الأثيرة: “المعونات التنموية” إذ ربط البرنامج نحو 25 مليون منزل وشركة بشبكات الكهرباء القائمة في 80% منها على مصدر طاقة متجدد.
كما دعمت هيئة تمويل التنمية DFC مشروعات طاقة متجددة في أفريقيا (لاسيما في نيجيريا والسنغال وكينيا)، عوضًا عن عودة واشنطن القوية لغرب أفريقيا من بوابة نيجيريا بتوقيع اتفاق مساعدات تنموية مع الأخيرة بقيمة 2.1 بليون دولار لدعم قطاعات الصحة والتعليم والزراعة والحكم الرشيد. وتعزز إدارة بايدن مبادرة “أفريقيا المزدهرة” الهادفة لتعزيز التجارة والاستثمار مع أفريقيا. وتدعم واشنطن سياسات البنك الدولي لاسيما تخصيصه 93 بليون دولار في برنامجه العالمي للأعوام الثلاثة المقبلة (2022-2024) ويوجه ثلثاه للقرة الأفريقية وحدها يتم توجيهها عبر “مؤسسة التنمية الدولية” International Development Association (IDA) (أكبر مصدر عالمي للمخصصات الشاملة للمنح للدول ذات الدخل المنخفض)([8]).
وكشفت استراتيجية إدارة بايدن الأفريقية التي أعلن أنتوني بلينكن خطوطها العريضة خلال وجوده في جنوب أفريقيا (8 أغسطس) عن سعي واشنطن استعادة نفوذها المتآكل في القارة عبر سياسات عملية على خلفية “جائحة كوفيد-19، والحرب في أوكرانيا، والبطء الاقتصادي العالمي” (والتي تلت خططًا أمريكية مشابهة بخصوص أمريكا اللاتينية ومنطقة الهندي- الباسيفيك مما يضع الاستراتيجية في سياق توجه أمريكي عام). وصاغت الاستراتيجية “شراكة أمريكية أفريقية في القرن الحادي والعشرين، في دلالة رمزية متهافتة في واقع الأمر بعد مرور 22 عامًا على بداية القرن، قوامها الاستجابة للتغيرات العالمية الهائلة وترجمة أهمية أفريقيا في أولويات الولايات المتحدة العالمية (مثل سوقها الكبير وكونها موقعًا لأكبر الكتل التجارية في العالم ومواردها الطبيعية الغنية وحجم كتلتها التصويتية في الأمم المتحدة، حسبما ورد في الاستراتيجية)، وإعادة تموضع الولايات المتحدة في السباق الدولي الراهن على النفوذ في القارة مع الصين وروسيا (الذي وصفته الاستراتيجية بالضار والمضلل).
كما حددت الاستراتيجية أربعة أهداف رئيسة ستحكم السياسات الأمريكية تجاه أفريقيا في الفترة المقبلة: التكيف المناخي، وجهود التعافي الاقتصادي بعد جائحة كوفيد-19 إضافة إلى الأهداف بعيدة الأجل من أولويتي الحوكمة الشفافة والديمقراطية، والمقاربة الأمنية. ورأت الاستراتيجية أنه لتحقيق هذه الأهداف فإن الشراكة ستركز على توسيع الجهود والأدوات الجديدة لإعادة ضبط العلاقة الأمريكية- الأفريقية عبر مشاركة ودعم المجتمع المدني والشتات الأفريقي في أمريكا ودعم دور القطاع الخاص وإعادة التوازن للمناطق العمرانية من طريق دعم البنية التحتية للمناطق العمرانية والريفية([9]).
تقاطعات الصراع في أفريقيا والاستجابة الأفريقية
لا تعكس مداخل النفوذ السابقة –بطبيعة الحال- محددات حصرية لنفوذ الدول الثلاثة المعنية بقدر ما أنها تضع هذه المداخل في سياق أولوياتي؛ ويبدو ذلك جليًا عن تلمس تقاطعات هذا الصراع/ التكالب والاستجابة الأفريقية إزائه. ففيما ركز سيرجي لافروف جولته الأفريقية الأخيرة نهاية يوليو الماضي على زيارة مصر وإثيوبيا وأوغندا والكونغو (برازافيل) لتعكس تطلعات روسية حقيقية لاستعادة النفوذ “السوفيياتي” في القارة عبر مصر الكبيرة (الشريك التجاري الأول لروسيا) وإثيوبيا ذات المكانة الثابتة لدى غالبية دول أفريقيا جنوب الصحراء “كنموذج” أفريقي، جاءت زيارة نظيره الأمريكي لجنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية ورواندا (في تكريس للفصل الأمريكي التقليدي بين شمال القارة وجنوبها في رؤية المؤسسات الدبلوماسية الأمريكية) لتكشف رغبة أمريكية في دعم أدوار الشركات الأمريكية في جنوب أفريقيا (الشريك التجاري الأول لواشنطن) ومحاولة حل خلافات جذرية بين اثنين من أهم حلفاء واشنطن في أفريقيا جنوب الصحراء: رواندا والكونغو.
وفيما تشابكت جولتا لافروف وبلينكن في جغرافيًا وسط أفريقيا بشكل ملفت وخطير للغاية، جاءت جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة لتعزز هذه المخاوف؛ إذ جاءت زيارته للكاميرون –في مجملها- كمحاولة لإثناء ياوندي عن المضي قدمًا في تعاونها العسكري مع روسيا الذي انطلق رسميًا في ربيع العام الجاري، ثم زيارته لغينيا بيساو وبنين لتفادي أي وجود صيني اقتصادي أو عسكري محتمل في الدولتين الصغيرتين على خلفية تقارير عن عزم بكين إقامة قاعدتين بحريتين في غينيا بيساو وجزر القمر، ووقوع بنين على المسار المحتمل لنقل الغاز والبترول من نيجيريا إلى بقية دول غرب أفريقيا سواء على خليجي غينيا أم على المحيط الأطلسي ووجود مساعي صينية شبه مؤكدة للمشاركة في هذا المشروع.
وفي المجمل، فإن الاستجابة الأفريقية، كما يتضح من قراءة ردود أفعال أغلب دول القارة وقادتها، تظل في حدود الفهم التقليدي “لتصارع القوى الدولية” والخيارات الفردية للقادة واختزال الأدوار المؤسساتية المفترضة في الدولة، وتصورات وجود مدى متوسط أو بعيد للحالة الراهنة. وعلى سبيل المثال فقد مثلت استجابة الرئيس الكاميروني بول بيا (89 عامًا) ونظيريه البنيني باتريس تالون (الذي حاول تعديل الدستور في العام 2019 على نحو يتيح له الترشح مجددًا لرئاسة البلاد وسط رفض شعبي وذكرت زيارة ماكرون له بزيارة مماثلة للرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران في العام 1981 عززت استمرار رئيس بنين حينذاك ماثيو كيريكو في السلطة لعقد آخر بعد اعتذاره غير المباشر خلال الزيارة عن تورط فرنسا في عملية عسكرية لإسقاطه قبل أربعة أعوام) تجسيدًا لفكرة مقايضة التحيز في السياسات الخارجية بتكريس الهيمنة السياسية الداخلية وتفادي أية ضغوط “غربية” في ملفات حقوق الإنسان والممارسات الديمقراطية.
دور أفريقيا كنقطة ارتكاز في صراع القوى
يمكن الفصل هنا بين مسارين رئيسيين أولهما الصدام الغربي (الأمريكي)- الروسي على خلفية تقاطعات أصيلة يتوقع تصاعدها أوروبيًا وانعكاسها في القارة الأفريقية بشكل واضح وغير قابل للمساومة (راهنًا على الأقل) وصولًا ربما إلى صدامات مفتوحة على كل الاحتمالات، ومسار النفوذ الصيني في القارة والذي يمكن “توظيفه” والتعايش معه غربيًا طالما ظل في الحدود الآمنة (مثل وجود شراكات اقتصادية مع شركات غربية وفرنسية على وجه الخصوص في مناطق تنفيذ مشروعات مبادرة الحزام والطريق كما في أوغندا وإثيوبيا وعدد من دول غرب أفريقيا، وكذلك مساهمة الصين القوية في دعم المقاربة الفرنسية الأمنية في إقليم الساحل، ومقاربة السلم والأمن في القرن الأفريقي بما يتسق على نحو غير مباشر مع السياسات الأمريكية، وغير ذلك من الأدوار التي لا تتعارض مع استراتيجيات الولايات المتحدة وحلفائها في هذه المناطق).
أما الولايات المتحدة، مدعومة في نفوذها في أفريقيا بسياسات كتلة الاتحاد الأوروبي واليابان على الأقل، فإنها لا تزال الشريك العسكري والأمني والتنموي والاقتصادي الأكثر شمولًا تجاه القارة الأفريقية ولا يمكن التعويل على التراجع الأخير للتنبؤ بمزيد من تآكل الدور الأمريكي في أفريقيا في الفترة المقبلة، وبين تحركات أمريكية نشيطة في أفريقيا الجنوبية من بوابة جنوب أفريقيا، وفي غرب أفريقيا من بوابة نيجيريا، ومساعي تعميق الحوار الاستراتيجي مع مصر (منذ نهاية العام 2021) في شمال القارة وبالتقاطع مع منطقة الشرق الأوسط (الأمر الذي تبلور قبيل منتصف أغسطس الجاري في محادثات بين وزيري الدفاع الأمريكي والمصري شملت ملفات عدة بينها مساعي روسيا تعميق نفوذها وربما على خلفية زيارة لافروف للقاهرة ضمن ولته الأفريقية) فإن واشنطن ستظل فاعلة في صراع النفوذ في القارة الأفريقية بأدوات مستدامة وروافع اقتصادية مهمة (مثل قانون الفرص والنمو وفتح الأسواق الأمريكية أمام المنتجات الأفريقية) وحشد سياسي دولي (غربي بالأساس) وراء خطط تنموية واقتصادية لصالح شعوب القارة ودولها.
ويظل “الصراع على أفريقيا”، مجددًا وكما كان الحال منذ نهاية القرن التاسع عشر على الأقل، رهنًا بتوازنات الصراع الدولي (هذه المرة بالأساس بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، بدلًا من بريطانيا وفرنسا وبلجيكا في مؤتمر برلين 1884-1885) ومخرجاته، وربما لاحقًا ضوابط السيطرة عليه وضمان عدم انفلاته، على نحو قد يكرر خيبات فوات الفرص وإهدارها في تحقيق مصالح شعوب القارة في سبيل توازنات وخيارات “نخبوية” أو فردية على نحو كامل.
الهوامش
[1] Juliet Lancey, Ominous, Auspicious… Or Something In Between: The Debate Surrounding China’s Role In Africa, The Organization for World Peace, August 12, 2022 https://theowp.org/reports/ominous-auspicious-or-something-in-between-the-debate-surrounding-chinas-role-in-africa/
[2] Carla D. Jones et al, Chinese Economic Engagement in Africa: Implications for U.S. Policy, Foreign Policy Research Institute, January 24, 2022 https://www.fpri.org/article/2022/01/chinese-economic-engagement-in-africa/
[3] Howard W. French, A Little Great-Power Competition Is Healthy for Africa, Foreign Policy, August 10, 2022 https://foreignpolicy.com/2022/08/10/us-china-africa-policy-competition-development-biden/
[4] Chinese Investment in Africa Rises as Project Values and Bilateral Trade Decline, International Institute for Sustainable Development, October 25, 2021 https://www.iisd.org/articles/chinese-investment-africa-bilateral-trade-decline
[5] Jaysim Hanspal, Mali: Under Putin, Russia strengthens relations with Goïta regime, promising military supplies, The Africa Report, August 11, 2022 https://www.theafricareport.com/231514/mali-under-putin-russia-strengthens-relations-with-goita-regime-promising-military-supplies/
[6] Geoffrey Omara, U.S. Cautions Uganda on Importing Fuel from Russia, Chimp Reports, August 5, 2022 https://chimpreports.com/u-s-cautions-uganda-on-importing-fuel-from-russia/
[7] Elliot Smith, Russia is building its military influence in Africa, challenging U.S. and French dominance, CNBC Africa, September 13, 2021 https://www.cnbc.com/2021/09/13/russia-is-building-military-influence-in-africa-challenging-us-france.html
[8] Kester Kenn Klomegah, Russia Scrambles for Higher Performance Marks in Africa, Modern Diplomacy, August 12, 2022 https://moderndiplomacy.eu/2022/08/12/russia-scrambles-for-higher-performance-marks-in-africa/
[9] Zainab Usman, The New U.S. Africa Strategy Breaks From the Status Quo—With Some Perplexing Stumbles, Carnegie Endowment for International Peace, August 11, 2022 https://carnegieendowment.org/2022/08/11/new-u.s.-africa-strategy-breaks-from-status-quo-with-some-perplexing-stumbles-pub-87666