لقد فهم رجل الدولة شيئا لم يفهمه معظم الدبلوماسيين: إنه التاريخ وكيفية تطبيقه.
في سيرته الذاتية عن هنري كيسنجر، يتذكر المؤرخ نيل فيرجسون أن في منتصف طريق ما أصبح مشروع بحث لمدة ثماني سنوات. ومن خلال تتبع قصة شاب من ألمانيا النازية تمكن من أن يصبح أعظم رجل دولة حي في أمريكا، لم يكتشف فيرجسون جوهر فن الحكم لدى كيسنجر فقط، ولكنه اكتشف هذا الجين المفقود في الدبلوماسية الأمريكية الحديثة، ألا وهو: فهم التاريخ.
لقد كان هذا وحيًا متواضعًا لفيرجسون. حيث يعترف في مقدمة كيسنجر: “في البحث عن حياة وأوقات هنري كيسنجر، أدركت أن توجهي كان غير دقيق. وعلى وجه الخصوص، لقد غاب عني أهمية حاسمة حول عجز السياسة الخارجية الأمريكية عن فهم التاريخ، وهي: حقيقة أن صانعي القرار الكبار لا يعرفون شيئا تقريبًا عن ماض الدول الأخرى فقط، ولكن أيضًا لا يعرفون شيئًا عن تاريخ بلادهم. والأسوأ من ذلك، فإنهم غالبا لا يرون في جهلهم أي خطأ”.
ذكرتني ملاحظة فيرجسون بمناسبة حدثت قبل ثلاث سنوات عندماعاد كيسنجر – بعد غياب دام أربعة عقود – إلى جامعة هارفارد. وردًّا على سؤال أحد الطلاب عما يدرسه شخص ما يأمل في الحصول على مثل وظيفته، فأجاب كيسنجر: “التاريخ والفلسفة” مادتان يلاحظ غيابهم في معظم مدارس السياسة العامة الأمريكية.
كيف استعدَّ كيسنجر لأول وظيفة كبرى له في حكومة الولايات المتحدة كمستشار للأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون؟ من خلال كلماته: “عندما دخلت المكتب، أحضرت معي الفلسفة التي شكلها عقدان من دراسة التاريخ”. كشف فيرجسون جزء رائعًا لدى أحد معاصري كيسنجر عندما كانوا طلابًا في الدراسات العليا في السنة الأولى في جامعة هارفارد. حيث تذكر جون ستوسنجر كلمات كيسنجر “أهمية الالتزام بالتاريخ بكل قوة”. وفي هذه الحوارات، قال ستوسنجر: لقد استشهد كيسنجر بتأكيد المؤرخ اليوناني القديم ثيوسيديدز بأنه: “في حين لا يكرر الزمن الحاضر الماضي بالضبط، فإنه يجب أن يشبهه حتمًا. وبالتالي، يجب أن يكون المستقبل كذلك”.
وأضاف كيسنجر أنه: “ينبغي علينا دراسة التاريخ من أجل أن نرى أسباب نجاح الأمم والرجال وأسباب فشلهم”.
وقد وضع فيرجسون كتابه عن سيرة كيسنجر الذاتية ليس فقط كرواية قطعية لمغامرة شخصية وفكرية لا تصدق، ولكن أيضًا باعتبارها فرصة لبدء نقاش حول أهمية التاريخ في فن الحكم. لقد وضع الكتاب إشارة لمشروع حول “التاريخ التطبيقي”، والذي اختمر في أذهاننا – أنا وهو – عندما كنا جامعة هارفارد لعدة سنوات. ونعني بالتاريخ التطبيقي أنه محاولة صريحة لتسليط الضوء على التحديات السياسة الحالية من خلال تحليل سوابقها التاريخية ونظائرها. متتبعين في ذك خطى الكتاب الكلاسيكي “التفكير في الوقت الصحيح” الصادر عام 1986 للكاتبين إرنست ماي وريتشارد فاينر، هادفين إلى إعادة إحياء التاريخ التطبيقي كتخصص في الجامعة وكفن في ممارسة الحكم.
كيف يطبق كيسنجر التاريخ؟ بمهارة وحذر، مع الاعتراف بأن تطبيقه السليم يتطلب ضرورة وجود كلا من الخيال والحكم. كما قال كيسنجر، “التاريخ ليس … كتاب طبخ يطرح وصفات سابقة التذوق. إنه يعلم بالقياس، وليس بالأقوال المأثورة”. التاريخ “يمكن أن يضيء عواقب إجراءات معينة في حالات مماثلة”، ولكن – وهنا المفتاح – للقيام بذلك، ” على كل جيل أن يكتشف بنفسه ما هي الحالات التي يمكن مقارنتها”.
تقدم سيرة فيرجسون مجموعة من الأمثلة عندما كان كيسنجر يقارن وقائع مماثلة من التاريخ لتسليط الضوء على القضايا المعاصرة وطرح الخيارات. فعلى سبيل المثال طرح أفكارًا للتعامل مع سلوك الرئيس الفرنسي شارل ديغول شديد الإحباط في الستينات، حيث اتجه كيسنجر إلى التفكير في الزعيم الألماني أوتو فون بسمارك. وردًا على تحركات ديغول نحو الاتحاد الأوروبي بعيدًا عن النفوذ الأمريكي، أشار كيسنجر إلى أن “دبلوماسية الرئيس الفرنسي كانت بأسلوب بسمارك، الذي حاول بكل ما أوتي من قوة تحقيق ما اعتبره مكانة بروسيا الصحيحة، ولكنه بعد ذلك حاول الحفاظ على توازن جديد من خلال الحكمة وضبط النفس والاعتدال”. هذه الرؤية أدت إلى استنتاج كيسنجر بأن ديغول كان زعيمًا ذا مصلحة ذاتية ولكنه معقول، يمكن أن تتعامل معه الولايات المتحدة، في وقت كان هناك الكثيرون على استعداد لوصم ديغول بأنه من المتعاطفين مع الشيوعية؛ كونه أول زعيم غربي بعترف بالصين الماوية في عام 1964.
وفي الخمسينات، عندما كان تيار المحافظين مختلفًا حول انتقادات السيناتور جوزيف مكارثي ضد المتعاطفين مع الشيوعية المزعومة في وزارة الخارجية وفي المجتمع الأميركي، سعى كيسنجر لتذكيرهم برضا الألمان خلال سنوات حكم أدولف هتلر الأولى. حيث كتب: “لقد تكبد الأمر خسارة عددًا من أفضل العناصر في ألمانيا، إلا أنه بعد ست سنوات من تولي هتلر الحكم اكتشفوا أن مجرمًا يدير بلادهم التي كانوا فخورين جدا بها ويعتبرونها دولة أخلاقية”. إن التحدي يكمن في “إقناع التيارالمحافظ بأن المحافظة الحقيقية في الوقت الراهن تتطلب … معارضة مكارثي”. وباستخدام نسخة مبكرة مما قد يطلق عليه المؤرخون التطبيقيون اسم “أسلوب مايو” فقد كتب كيسنجر – في عام 1951 – إلى المنظر الرائد في الحرب النفسية لدى وكالة الاستخبارات المركزية كي يحدد أوجه التشابه و – بنفس القدر من الأهمية – الاختلافات بين عام 1951، عندما كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وأوروبا الغربية تناضل من أجل تحقيق الاستقرار في النظام العالمي في إطار الحرب الباردة، وبين عام 1815 عندما أنشأت الدول الأوروبية توازن دائم للسلطة في مؤتمر فيينا .
ومن الاستدلال من التاريخ، يفسر فيرجسون أن “الواقع المضاد – ما قد يكون وربما كان – هو دائمًا شيء حي في عقل كيسنجر رجل الدولة. فالسلام الذي يحققه هو دائمًا – بطبيعة الحال – كارثة تم تفاديها”. ويوضح فيرجسون هذه النقطة بسلسلة من الأمثلة المغايرة للواقع في كتابات كيسنجر – ولا شيء أكثر وضوحا من رد الغرب على هتلر:” إذا كانت الديمقراطيات قد انتقلت ضد هتلر في عام 1936، على سبيل المثال، فأننا لن نعرف اليوم ما إذا كان هتلر قوميًّا أسيء فهمه أم كان مجنونًا في الواقع. علمت الديمقراطيات أنه كان مجنونًا في الحقيقة. كان لديهم يقين في ذلك، ولكن كان عليهم دفع ثمن ذلك .. بضعة ملايين من الأرواح”.
ويطلق فيرجسون على هذا المفهوم اسم “مشكلة التخمين” وهي تعني: من المؤكد أن التصرف قبل أحدهم يمكن أن يجنب العواقب المحتملة ولكنها غير مؤكدة. وهذا هو التحدي الذي يواجهه صناع القرار باستمرار، سواء كان التعامل مع فلاديمير بوتين أو تهديد الإرهاب النووي من داعش أو تنظيم القاعدة. ما هو الثمن الذي نحن على استعداد لدفعه مقابل يقين أكبر حول نوايا وقدرات للعدو؟ ففي حالة الجماعات الإرهابية، إذا لم نستطع هزيمتها اليوم، وهي في مراحلها الأولية، فإننا نخاطر بالسماح لها حتى تنضج إلى مرحلة يمكنها أن تشن غدًا هجمات على غرار هجمات باريس أو حتى 11/9 آخر.
وبالتركيز في فن الحكم لدى كيسنجر، استطاع فيرجسون أن يصيغ سيرة كيسنجر الذاتية ببراعة، حيث كانت قدرته على تحقيق معرفة عميقة في التاريخ للتأثير على القضايا السياسة التي واجهها. في القيام بذلك، أثبت كيسنجر – كما لاحظ ونستون تشرشل – أنه ” كلما أطلت النظر إلى الوراء، كلما أحسنت النظر إلى الأمام”.