يبدو أن حالة السلام الطويل التـي يعيشها العالم الغربي منذ نهاية الحرب الباردة خادعة للغاية؛ لقد جعلت بعض الكتاب والمفكرين، خاصة ذوي التوجهات الليبرالية، من إشاعة الاعتقاد الخاطئ بأن الحرب ليست إلا انحرافًا عن مسيرة التاريخ البشري، وأنها في طور الاختفاء. في الحقيقة، ليس ضجيج الحرب نشازًا عن نغمة التاريخ، بل إن أصداؤه ما زالت مسموعة حتـى اليوم.
تمثل هذه المقولة الأساس الذي بنت عليه الكاتبة الكندية مارغريت ماكميلان تاريخها للحرب والصراعات وتأثيرها في المجتمعات البشرية خاصة في الغرب في العصور الحديثة. تقول ماكميلان إن التأكيد الليبرالي على ديمومة السلام دفع بدراسات الحرب والصراع إلى مكانة أقل في الدوائر الأكاديمية الغربية. وهو اتجاه خاطئ، فإذا كنا نسعى إلى فعلاً إدامة السلام والقضاء على الحرب، فمن الضروري الاهتمام بدراسة الحرب، وتقصـى أسبابها وما تفضـي إليه من نتائج “خلاقة وتدميرية على السواء.” وهو الغرض من كتابها “الحرب وكيف شكلتنا الصراعات.”
تفتتح ماكميلان كتابها بمقولة الكاتبة الصحافية البيلاروسية ستينسلافا آلكيفيتش الحائزة على جائزة نوبل في الآداب، وصاحبة “أصوات من تشرنوبل” والتـي تقول فيها “إن الحرب كانت وستظل أكثر الشؤون البشرية إلغازًا.” ذلك لأن الحرب تحتوي على تناقضات تعكس تناقضات الوجود البشري. فنحن نخاف الحرب وما تجلبه من تدمير، إلا أننا ما زلنا نجلها، وما زالت تذهلنا بما تطلقه من ملكات الإبداع والتدمير، الوحشية والبطولة، البربرية والنبالة.
يميل علماء الأنثروبولوجيا إلى محاولة دراسة الصراع البشري من خلال مقارنة وضع الصراع الإنساني مع الرئيسيات العليا؛ وكذلك مقارنة الصراع في المجتمعات المعاصرة بالمجتمعات البدائية. في هذه المقارنة، يسيطر اتجاهان ظهرا مع عصر التنوير الأوروبي حول تفسير الوضع الإنساني. أسس للاتجاه الأول الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز، الذي رأى أن الحياة البشرية كانت وما زالت “قصيرة ووحشية ووحيدة ومزرية.” ومن هذا التصور ابتكر ضرورة وجود العقد الاجتماعي للحد من النزاعات التدميرية للإنسان، مقابل تخلي الإنسان عن حريته للدولة. أما الاتجاه الثاني، فيعبر عنه فيلسوف العقد الاجتماعي الفرنسـي جان جاك روسو، والذي تصور فيه المجتمعات الحديثة وقد فسدت عن حالة الطبيعة الأولى التـي كانت “مسالمة وأكثر حرية.”
ما زال الجدل مستمرًا، بل وينعكس في الجدل حول مستقبل البشرية، إن كان أكثر سلمًا وتعاونًا؛ أم حربًا وصراعًا. إلا أن ماكميلان تميل إلى تصور هوبز، وترصد الأخطاء العديد التـي وقع فيها علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخون الذين مالوا لرسم صورة رومانسية عن المجتمعات البدائية. إن أقدم مومياء بشرية مكتشفة، “إنسان أوتزي” هي لمحارب؛ وأقدم ما اكتشف من مخلفات الإنسان الأول كان سهامًا حجرية، وأدوات صيد وقتال. وبقدر حاجة الإنسان إلى التعاون لإقامة المجتمعات المستقرة، والانتقال من البداوة إلى الحضارة، بقدر ما لجأ إلى العنف مع التجمعات البشرية المنافسة.
بهذا لم تتغير أسباب الحرب بين المجتمعات البدائية وتلك المعاصرة. فما زال الصراع يجري على الموارد، وبدواعي الشرف والانتقام، وخوفًا من القوة التـي يكتسبها المنافسون؛ وهو ما بات يطلق عليه حاليًا “فخ ثيوكيديدس”؛ نسبة إلى مؤرخ الحرب الشهيرة بين أثينا وأسبرطة. إلا أنه مع التطور، أصبح أصبحت هناك مساحة للأفكار والدين والأيديولوجيا في التحفيز على الحرب. إلا أنه غالبًا ما تختلط تلك المسببات، أو ربما الذرائع، بتلك المادية والشعورية. ذلك لأن الحرب معقدة وملغزة كما النفس البشرية.
عندما نبدأ التفكير في الحرب، غالبًا ما نتذكر أعباءها، وتكاليفها وإهدار الأرواح البشرية والموارد المادية؛ وعدم توقع مساراتها والفوضـى التـي تجلبها سواء في ميدان المعارك، أو في المجتمعات المبتلاة بالحرب. إلا أننا غالبًا ما نتغافل، تقول ماكميلان، عن الجانب المنظم فيها. فلننظر مثلاً إلى خطوط إنتاج آلات الحرب، تلك الأيادي الأنثوية الناعمة الواقفة على خطوط إنتاج القنابل في الحرب العالمية الثانية في أمريكا وألمانيا. أو لننظر إلى تقاليد الانضباط التـي تقوم عليها الجيوش الحديثة التـي تدار من خلال بيروقراطية عسكرية صلبة.
الأهم من هذا أن تلك “النظامية” قد امتدت من المعارك إلى بقية المجتمع؛ فإدارة الحرب تعنـي أيضًا إدارة الموارد البشرية والمادية الضرورية. لقد أدت الحروب المتتالية في أوروبا والغرب إلى إعادة تنظيم المجتمع من خلال إنهاء الجيوش الخاصة، والمليشيات الإقطاعية والمرتزقة، وتوسيع دائرة إنفاذ القانون. ونتج عن هذا تحسين التعليم وبنية الاقتصاد والرفاهة. بل إن الحرب كان لها عظيم الأثر في منح المرأة صوتًا وقوة لم تكن تحظى بهما في أوقات السلم والخمول في العصر الفيكتوري. خلال الحرب العالمية الأولى، ذابت في المعسكرات كثير من الفروق الطبقية بين الضباط والجنود؛ وأنتج الفريقان في كل الجيوش المتحاربة أدبًا يعكس أثر الحرب في تكوين الذات الإنسانية. ومع هزيمة روسيا أمام التحالف العثماني- الغربي في حرب القرم، لم يجد القيصر ألكسندر الثاني بدًا من تحرير الأقنان كبداية لإعادة تحديث الجيش الروسـي. فضلاً عن هذا، حققت الحرب تقدمًا هائلاً في التكنولوجيا والطب والصناعة، مع انتقال تقنياتها إلي الحياة المدنية.
في النهاية، كما يقول تشارلز تيللي، فالحرب والدولة الحديثة صنوان؛ وقد صنعت الحرب الحديثة الدولة، بقدر ما تشن الدول الحروب. لذا، ترى ماكميلان أنه من الساذج التبشير بنهاية الحرب. وهو اتجاه يركز على ما ينعم به الغرب من سلام طويل نسبيًّا، ويتغافل عما تعانيه مجتمعات أخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا والجنوب العالمي. تحاول ماكميلان في كتابها أن ترصد تخلل ظاهرة الحرب في الذاكرة الجماعية للمجتمعات الحديثة، والمسارات التـي تطورت خلالها خاصة في القرون الثلاثة الماضية، سواء في الأدوات أو في طرق القتال، وكذلك انعكاساتها على حياة المدنيين؛ ومحاولات البشر السيطرة على الحرب التـي تستعصـي على التطويع.