على صناع السياسة الأمريكية أن يعدلوا من قوة الزعامة إلى قوة القيادة ومن السلطة القسرية إلى التخطيط الاستراتيجي والمناورة. تفتقر الولايات المتحدة ببساطة إلى القوة العسكرية والاقتصادية النسبية التي كانت تتمتع بها في القرن العشرين. وإنه لوضع عصي على الفهم، أن تكون معظم الصراعات والمشاكل الدولية الآن تحدث داخل الدول أكثر مما يحدث بين الدول بعضها بعضًا. والهجمات الإرهابية والحروب الأهلية أكثر مراوغة من الأهداف العسكرية للقوات النظامية. كما أن التعامل مع الأوضاع الاقتصادية والسياسية الداخلية أكثر إرباكًا من أن تملي على الحكومات بكل بساطة ما يجب أن تقوم به.
لم تفلح مؤسسات السياسية والسياسة الخارجية في تفسير هذه الظروف الجديدة أو توضيح ما تحتاج إليه واشنطن لإدارتها. وبدلا من ذلك، فالكثير منها تطلق تصريحات في الهواء حول الشأن الدبلوماسي أو العسكري. ومعظمها لم يعمل بجد وعن قناعة لعرض ما سيفعلونه وكيف ستنجح خططهم. للأسف، تخلى قادتنا عن الحس السليم الذي جعل أمريكا بلدًا عظيمًا لمجرد الفقاعات التي لا تسعد سوى مذيعي البرامج التلفزيونية وأنصار المنظرين. والرهانات عالية في السماء، ولكن ردود فعلنا لا تنصفنا أو تنصف أمتنا كما ينبغي.
ولكن تظل الحقيقة أن الولايات المتحدة لا تزال القوة رقم واحد في العالم، وإذا لم نتمكن من معرفة طرق معالجة وحل المشاكل الدولية، فإن هذه المشاكل لن يتم معالجتها أو حلها. بل إنها سوف تزداد سوءًا. ولذلك فإننا بحاجة إلى قادة يعرفون كيفية القيادة وصناعة الاستراتيجية.
بالطبع، ففي صناعة الاستراتيجية يمكن بل يجب أن نتحدث حول الفائدة النسبية من الإجبار في الحالات المختلفة. إن من السخافة الاعتقاد بأن هذا الضغط لم يعد يعول عليه . ولكن تقريبا في كل ظرف يمكن تصوره، فإنه من الصعب أن نرى الولايات المتحدة بمفردها. لأنها ستحتاج إلى حلفاء، وهو ما يعني وجود استراتيجية تمثل مصالحهم وكذلك مصالحنا. وهو ما يدعو مرة أخرى لضرورة وجود استراتيجية. وفيما يلي بعض الأمثلة المختصرة:
* روسيا لا تنوي أن تخرج من أوكرانيا بسبب الضغوط الاقتصادية أو العسكرية. رغم أن موسكو كانت في وضع اقتصادي سيء قبل العقوبات الغربية وتحولت إلى وضع أسوأ – نوعا ما – بعد ذلك. ومن المستبعد أن يتم التوافق على مثل هذه العقوبات بين القادة الأوروبيين. ومن المتوقع أن يتم التحرك قريبا لإضعاف تلك العقوبات. أما فيما يخص تعزيز الضغوط العسكرية الغربية، فهذا ينبغي أن ينفذ كجزء من استراتيجية جديدة شاملة، ولكنها لن تجبر موسكو على التراجع. والحقيقة المحزنة ، والمعترف بها لدى القادة العسكريين لحلف الناتو، هي أن روسيا لديها ميزة عسكرية في أوكرانيا ومنطقة البلطيق، وأيضا لديها تفوق تصاعدي. وإذا أضفت أسلحة موسكو النووية الجديدة إلى هذا المزيج، فإن أي تحركات عسكرية عدوانية لحلف الناتو من المؤكد أن تأتي بنتائج عكسية.
الأمر الذي يؤدي إلى مسار عمل يفوق التفكير الطبيعي لليبراليين والمحافظين الجدد. وهذا يعني استخدام القوة الأمريكية لتشكيل علاقة شاملة جديدة مع روسيا. وهذه الاستراتيجية تعطي فلاديمير بوتين ما رغب فيه باستماتة وهو الاعتراف بروسيا كقوة عظمى، كما سيتيح لواشنطن الطريق الصحيح لتحقيق أهدافها حيث ستسحب موسكو تهديداتها لأوكرانيا ودول البلطيق وكسب تعاون بوتين في مناطق أخرى، كما هو الحال في سوريا والعراق. كما أنها الطريق الوحيد أمام بوتين لاستعادة علاقات اقتصادية لائقة مع الغرب. في الواقع، فإن تعاملنا مع روسيا كقوة عظمى في مقابل تعاون روسي ملموس في منطقة الشرق الأوسط وفي مكافحة الانتشار النووي والإرهاب.
وبالمثل، فإنه يدفع إلى التفكير في احتمالات إيجاد نهج استراتيجي لهزيمة داعش في سوريا والعراق. وللأسف، فإن السياسة المعتادة تدعو إلى تنحي الرئيس الأسد، وإلى أن تقوم الولايات المتحدة بتسليح المقاتلين . حتى بعد عدة سنوات من الفشل، فإنه من الواضح عدم جدوى هذا المسار لأن فرص نجاحه شبه معدومة. فالأسد لن يتنحى دون مقابل. كما ينبغي أن نتذكر أنه عندما أعطت الولايات المتحدة الأسلحة في المرة الأخيرة للثوار الأحرار، قام هؤلاء ببيع معظم هذه الأسلحة إلى الإرهابيين.
قد يأتي اليوم الذي يدرك فيه خبراء واشنطن أن أكبر تهديد للمصالح الغربية يأتي من داعش وليس من الأسد. ورغم أنه وحش، فإن السياسة الحصيفة يجب تفكر في كيفية إزاحته من السلطة ولكن بعد زوال تهديد داعش. ولكن لن يجرؤ أي رئيس أمريكي ولا الكونجرس على إرسال قوات أمريكية كافية سواء لهزيمة الإرهابيين أو الإطاحة بالأسد.
هذا هو أقرب توصيف للحقيقة الصادمة كما تسمح السياسة الخارجية. وسيحتاج الأمر إلى نوع من الترتيبات التعاونية مع روسيا وإيران وتركيا والسعودية ونظام الأسد لضمان هزيمة داعش. ويمكن ترتيب هذا الوضع ضمن إطار المصالح المشتركة لجميع تلك الدول التي تهدف جميعها إلى قطع رأس التنين الإرهابي. وفي غضون ذلك، يمكن لموسكو وطهران أن ترتب طريقة ما لرحيل الأسد، طالما أن العلويين يمكنهم الاحتفاظ بنقاط قوة رئيسية. وهنا يمكن لواشنطن فقط أن تؤلف هذه الموسيقى الاستراتيجية.
* الصين تمثل مهمة أكثر تعقيدًا لقوة الولايات المتحدة وذلك لأن قوة بكين الشاملة في منطقة آسيا تساوي القوة الأمريكية أو أقوى منها. وتستند قوة الصين على دورها الرائد في مجال التجارة والاستثمار في المنطقة. وعلى حدودها، كما أن بكين تتفوق عسكريًّا على جيرانها والولايات المتحدة. وبالتالي، فإن التراجع سيكون مستحيلاً وخطيرًا، كما أن الاحتواء لن يكون سهلاً. والخدعة هنا هي منع بكين من تخويف جيرانها، ولم يثم أحد بإيجاد صيغة جيدة للقيام بذلك.
والحقيقة المحزنة الأساسية لاستخدام القوة الأمريكية على نحو فعال لحل المشاكل الصعبة في عالم اليوم هي أنه، في جميع الاحتمالات، لن يتم استخدامها جيدًا. ذلك أن الضروريات الأساسية للقوة الاستراتيجية يتم إدارتها ضد طبيعة بلدنا. ففي المقام الأول، تعني القوة الاستراتيجية قبول حقيقة أنه حتى اللاعبين الأكثر سوءًا، حتى الأشرار جدا، ليسوا جميعًا سيئين. وهو ما يعني قبول حقيقة أن معظم الخصوم منهم الأشرار والأخيار وما بينهما. وتدعو إلى محاول العمل مع الأخيار لتحقيق الفوائد من العلاقات الجيدة مع واشنطن. وهو ما يعني أن نتفهم أنه حتى الدول التي يديرها الأشرار لها مصالح قد تتزامن أو تتقاطع مع المصالح الأمريكية. فعلى سبيل المثال، مصالح روسيا في قتال الإرهابيين في سوريا تهدف إلى طرد الإرهاب من داخل روسيا. إلا أن الأمريكيون قلقون بشدة بشأن التعامل مع هذه الحقائق. غير أن الأشياء إما جيدة أو سيئة.
وتتطلب القوة الاستراتيجية من الأمريكيين أيضًا أن يدركوا أن أيام ما كانوا قادرين على سحق الأعداء عسكريا أو تخويفهم اقتصاديا ولت دون رجعة، ولكن لا تزال قيادتنا السياسية تصر على كلامها المنمق. فيما لا يؤدي من يفهمون عملهم بطريقة جيدة ليشرحوا الحقائق الجديدة للأمريكيين. ولكن للأسف يبدو أن الأمريكيين قد نسوا كيفية القراءة، كما يبدو أن الخبراء أيضًا نادرًا ما يقرأون، لدرجة أنهم أصبحوا لا يفهمون بعضهم البعض.
حتى في الأيام التي كانت قوة القيادة في أوجها، كان هناك في إدارة ترومان مَن أخذ بناصية القيادة الاستراتيجية باحتراف، ودرس الصفات المختلفة لمعظم المعارضين وتعقيداتها وكيفية استخدام القوة من خلال الحس السليم. وكذلك فعل الرئيس نيكسون وهنري كيسنجر وبرنت سكوكروفت وجيمس بيكر. هؤلاء من الصعب أن تجد لهم خلفاء.