يعرف علم الاقتصاد بأنه علم القيمة، وهو المفهوم الذي يدور حوله هذا الحقل بكافة فروعه سواء تلك التي تدرس الاقتصاد المحلي أم الدولي. يسعى هذا الكتاب إلى تقديم تحليل جذري لمفهوم القيمة، والتطور الذي طرأ عليه، مرتكزًا في ذلك على التحول الذي شهده الاقتصاد العالمي من مجتمع صانع للقيمة إلى مجتمع منتزع لها أو مستفيد منها.
ومؤلفة الكتاب هي عالمة الاقتصاد الإيطالية ماريانا مازوكاتو وصاحبة المؤلفات المتعددة عن “الدولة رائدة الأعمال” و”اقتصاد المهام” وغيرها. وترى أن الرأسمالية الدولية قد تحولت من مجتمع يخلق القيمة، من خلال التصنيع وغيره من أنشطة الاقتصادي الحقيقي والإنتاجي إلى مجتمع يميل إلى انتزاع القيمة من خلال الريع الناتج عن الرأسمالية المالية وغيرها من أشكال النشاط القائم على التربح بدون إنتاج.
تلقي مازوكاتو في الفصل الأول من الكتاب الضوء على تطور مفهوم النمو الاقتصادي بدايةً من القرن السابع عشر وحتى الوقت الراهن، مشيرًة إلى تركيز الاقتصاديين قديمًا على زيادة الأنشطة الانتاجية على حساب الأنشطة الأخرى كوسيلة لتحقيق النمو. وكذلك تتطرق إلى العلاقة بين الإنتاج والقيمة، والتطورات التي طرأت على تلك العلاقة بفعل الظروف الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.
وقد وقع التحول الكبير الذي شهده الاقتصاد العالمي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والمتمثل في انتقال القيمة من كونها فئة موضوعية إلى فئة أكثر ذاتية، شديدة الارتباط بالتفضيلات الفردية، الأمر الذي أدى إلى أن حدود الانتاج أصبحت غير واضحة حيث أن أي شيء يمكنه الادعاء بأنه قادر على تحقيق القيمة – كالتمويل على سبيل المثال. وكان من شأن هذا التحول أن يعيد تنظيم هيكل القوى الاقتصادية الدولية بين دول أكثر وأقل إنتاجًا للقيمة.
وعلى الرغم من استمرار تأثير فكرة حدود الإنتاج على مفهوم الإنتاج نفسه، إلا أن هناك اختلافات بين تلك الحدود في الوقت الراهن عما كانت عليه في الماضي؛ فاليوم لم يعد الحديث عن حدود الإنتاج صريحًا، ولم يرتبط علنًا بأفكار حول القيمة؛ فالفاعلون الاقتصاديون الآن يمكنهم- من خلال الضغط المستمر- وضع أنفسهم داخل حدود الإنتاج، حيث يتم احتساب القيمة الخاصة بأنشطتهم ضمن الناتج المحلي الإجمالي.
وتتناول مازوكاتو التمويل باعتباره نقطة تحول رئيسة في مسيرة الإنتاج الرأسمالية. وقد ولد عملاقًا بحجم اعتماد العمليات الإنتاجية عليه. إلا أن التحول الكبير جاء مع انتقال التمويل من كونه قطاعًا غير منتج ليصبح القطاع الأكثر إنتاجية. في أواخر الستينيات من القرن الماضي، كان المحاسبون الوطنيون ينظرون إلى النشاط المالي على أنه تحول للقيمة وليس مولد لها، الأمر الذي ترتب عليه أن أصبح التمويل وقتها خارج حدود الإنتاج، أما اليوم فالوضع مختلف حيث يُنظر إلى التمويل على أنه «كسب أرباح من خدمات أُعيد تصنيفها على أنها منتجة».
إلا أن التمويل لم ينحصر في العمليات الاقتصادية الكبرى، فقد تخلل في قطاعات شتـى؛ وقد توسع القطاع المالي ليشمل عددًا متزايدًا من الوسطاء المخصصين لإدارة الأموال، هذا بالإضافة إلى دور هؤلاء الوسطاء، والأرباح الهائلة التي يحصلون عليها تعويضًا للمخاطر التي يتعرضون لها، ومدى مساهمة إدارة الأموال والأسهم الخاصة في الاقتصاد الإنتاجي. لقد أصبح النظام الاقتصادي أقرب إلى الكازينوهات منه إلى المصانع.
وقد أدى هذا التوسع في القطاع المالي إلى تحول الغاية الاقتصادية من إنتاج القيمة وتلبية احتياجات المجتمع إلى إرضاء المساهمين وتعظيم أرباحهم وبهذا تشير مازوكاتو إلى أن الشركات أصبحت تُدار بما يُعرف بنظام «تعظيم قيمة المساهمين» الذي نشأ في سبعينيات القرن الماضي كمحاولة لتنشيط أداء الشركات من خلال التمويل قصير الأجل لتحقيق العائد السريع.
وتذهب مازوكاتو إلى أن هذا النظام كان ضارًا للنمو الاقتصادي، والسبب في ذلك أنه يشجع على تحقيق مكاسب قصيرة الأجل للمساهمين على حساب المكاسب طويلة الأجل للشركات، مستندًا في ذلك إلى فكرة أن المساهمين هم الأكثر مجازفةً، ولذلك فهم يستحقون المكافآت الكبيرة التي يحصلون عليها.
من المؤكد أن هناك دورًا للابتكار في خلق القيمة، وتحقيق النمو الاقتصادي. وفي هذا الصدد تمت الإشارة إلى أن الابتكار هو أحد أكثر الأنشطة خطورة في الرأسمالية، فالدولة التي من المفترض أن تسهل عمل القطاع الخاص هي نفسها تتجاهل المخاطرة، وفي بعض الأحيان تهزأ بالقطاع الخاص، الأمر الذي أدى إلى تجنب القطاع الخاص الابتكار، وخلق ريادة الأعمال غير المنتجة.
لقد كان من نتائج سيادة الريعية الهجوم الدائم على القطاع العام والتلميح بأنه قطاع بطيء، وبيروقراطي، وغير منتج. وفي هذا الشأن، تمت الإشارة إلى أن الفكر الاقتصادي الحديث جعل دور الحكومة مقتصرًا فقط على إصلاح اخفاقات السوق بدلاً من إنشائها، وبالتالي تراجع الحديث عن أهمية دور القطاع العام في خلق القيمة.
يشار إلى أعمال مازوكاتو باعتباره نقدًا ودودًا للرأسمالية المعاصرة. فعلى النقيض من النقد اليساري للممارسات الرأسمالية، لا ترى مازوكاتو بديلاً عن الرأسمالية، وإن كان من الضروري إصلاح تشوهاتها. لذا، فهي تختم كتابها بالحديث عن «اقتصاديات الأمل»، وكيفية دفع الاقتصاد في اتجاه يعزز من فكرة الابتكار الحقيقي، ويقلل من عدم المساواة، وفي الوقت نفسه يساهم في تحويل القطاع المالي إلى قطاع أكثر تركيزًا على مسألة تعزيز خلق القيمة.
وتؤكد مازوكاتو على أن عملية تعظيم القيمة لن تتم إلا من خلال تفعيل دور المؤسسات المالية المخصصة لإقراض المنظمات المهتمة بالاستثمارات طويلة الأجل، عالية المخاطر، والتي يمكن أن تساعد على تعزيز اقتصاد أكثر ابتكارًا، هذا بالإضافة إلى ضرورة تغيير الإجراءات في قانون الضرائب بشكل يعمل على تشجيع الاستثمارات طويلة الأجل. ويستدعي هذا ضرورة إعادة التفكير في القطاع والسياسات العامة.