أثار الغزو الروسي لأوكرانيا المخاوف بشأن إمكانية تكرار هذا السيناريو بين الصين وتايوان؛ حيث ينقسم الخبراء إلى فريقين، الأول يرى أن العقوبات الغربية والصعوبات التي تواجهها روسيا في أوكرانيا قد تثني الصين عن قرار التدخل العسكري أو على الأقل ستجعلها شديدة الحذر حيال اتخاذ هذا القرار.
أما الفريق الثاني، فيجادل بأنه لا يمكن التقليل من إمكانية حدوث مواجهة عسكرية بين الصين وتايوان، وذلك لأن استعداد الصين لاستخدام القوة هو قرار سياسي لا يعتمد فقط على تقييم القدرات العسكرية، فحتى إن لم تكن الصين واثقة من قدرتها على تنفيذ غزو برمائي لتايوان بنجاح، فقد تعتقد أن التكاليف الجيوسياسية والداخلية لعدم استخدام القوة تفوق مخاطر الفشل العسكري.
رفض تايوان لمبدأ “دولة واحدة ونظامان”
تعود جذور الصراع في مضيق تايوان إلى الحرب الأهلية بين الشيوعيين والقوميين في الصين والتي انتهت عام 1949 بسيطرة الشيوعيين على الصين وإعلان جمهورية الصين الشعبية، في حين سيطر القوميين على جزيرة عرفت باسم جمهورية الصين أو تايوان.
ومنذ ذلك، الحين تعتبر جمهورية الصين الشعبية أن تايوان هي مقاطعة منشقة عنها وأنه في النهاية لابد أن تتوحد تايوان مع البر الرئيسي، وأصبحت الوحدة مع تايوان هي ركيزة أساسية في السياسة الخارجية الصينية طوال السبعين عامًا الماضية. وتجلي ذلك في سياسة دولة واحدة ونظامين التي تبنتها الصين، والتي تعني أنه بعد تحقيق الوحدة بين ضفتي المضيق، فلن تقوم الصين بإجبار تايوان على تغيير سمات النظام الاقتصادي والاجتماعي المطبق فيها، بل ستصبح تايوان منطقة إدارية خاصة تتمتع بدرجة عالية من الحكم الذاتي.
ورغم أن علاقات الصين مع تايوان لم تتسم بالتناغم بشكل دائم، إلا أن عام 2016 قد مثل مرحلة جديدة في تصاعد التوتر بين البلدين، حيث تم انتخاب قائدة المعارضة “تساي إنغ ون” مرشحة الحزب الديمقراطي التقدمي المعارض لتتولى سدة الحكم في تايوان. وهي معروف عنها رفضها لوثيقة التوافق الموقعة عام 1992 بين الحزب الشيوعي الصيني وحزب الكومنتانج الذي كان يحكم تايوان آنذاك، وهي وثيقة لا تعالج مسألة الوضع القانوني لتايوان بل تنص على سعي البلدين إلى إعادة التوحيد.
وتعززت مخاوف الصين خلال أول خطاب ألقته “تساي”؛ حيث تعهدت بالحفاظ على سيادة تايوان وأراضيها. وكرر الرئيس الصيني “شي جين بينغ” في يناير 2019 الدعوة للوحدة في إطار مبدأ الصين الواحدة وتوافق عام 1992. لكن يبدو أن غالبية الشعب التايواني يرفض هذه الدعوات، وانعكس ذلك في إعادة انتخاب “تساي” كرئيسة لتايوان عام 2020، ويعزي جزء كبير من إصرار غالبية الشعب التايواني على عدم قبول الوحدة بشكل كامل مع الصين إلى التخوف من تكرار سيناريو هونج كونج والتي فقدت بشكل متسارع استقلالها والحريات المدنية التي كانت يتمتع بها شعبها.
احتدام التنافس الأمريكي-الصيني في “الهندي-الباسيفيكي”
كان توقيع اتفاق أوكوس (AUKUS) بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وأستراليا في 15 سبتمبر 2021 بمثابة البدء في كتابة فصل جديد من التوتر في المحيطين الهندي والهادئ. فبموجب هذا الاتفاق ستقوم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بتقديم الدعم التكنولوجي لأستراليا لبناء غواصات تعمل بالطاقة النووية، وذلك لأول مرة في تاريخ أستراليا. وسيكون لذلك الاتفاق تداعيات واسعة على التوازن العسكري في المنطقة، فعلى عكس الغواصات التقليدية، فإن الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية تعتمد على تقنيات متقدمة جدًا من حيث السرعة وسعة تخزين الأسلحة.
إلا أن التداعي الأهم لهذا الاتفاق يتمثل في تكامل قدرة الغواصات الأسترالية التي ستعمل بالطاقة النووية مع الأصول البحرية الأمريكية واليابانية لتشكيل خط دفاعي يمتد من بحر الصين الجنوبي والشرقي إلى مضيق تايوان بهدف حماية تايوان من أي هجوم صيني محتمل.
وهو ما دفع المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “تشاو ليجيان” إلى التعبير عن استياء بلاده فور توقيع هذا الاتفاق ووصفه بأنه تحالف يعمل على “إلحاق أضرار جسيمة بالسلام الإقليمي ويعمل على تكثيف سباق التسلح”. في حين أشار وزير الخارجية التايواني “جوزيف وو” إلى أن بلاده “راضية” عن الاتفاق الأمني.
واللافت للنظر في هذا السياق هو أنه في اليوم التالي لتوقيع الاتفاق، دخلت مجموعتان من حاملات الطائرات الأمريكية، وحاملة الطائرات البريطانية الجديدة HMS Queen Elizabeth 2 والأسترالية HMAS Canberra (التي تضم رصيفًا لهبوط طائرات الهليكوبتر) جميعًا بحر الصين الجنوبي لإجراء تدريبات عسكرية. ورغم أن الهدف المعلن لإجراء هذه التدريبات كان ضمان حرية الملاحة، إلا أن التدريب كان بمثابة رسالة تحذيرية إلى الصين إذا عزمت على شن هجوم على تايوان.
هل ستقوم الصين بغزو تايوان؟
هناك انقسام حول ما إذا كانت الصين ستلجأ للقوة العسكرية لتحقيق هدفها بضم تايوان، وفي هذا الصدد يمكن التمييز بين سيناريوهين محتملين:
السيناريو الاول: اتباع الصين تكتيكات غير عسكرية لإضعاف تايوان
ويقضي هذا السيناريو بأن تسعى الصين لإعادة السيطرة على تايوان دون اللجوء إلى السيناريو العسكري، من خلال اتباع مجموعة متنوعة من التكتيكات التي تهدف إلى إنهاك تايوان ودفع سكان الجزيرة إلى استنتاج أن أفضل خيار لهم هو الوحدة مع الصين.
وتعد الأداة الاقتصادية من أهم الادوات التي تعتمد عليها الصين للضغط على تايوان. فلقد انخفض عدد السائحين الصينيين في تايوان من أكثر من 4 ملايين سائح في عام 2015 إلى 2.7 مليون في عام 2019. في إطار استيعاب الصين وهونج كونج لحوالي 50% من صادرات تايوان، فمن المتوقع أن تفرض الصين قيود على واردات تايوان، لاسيما من الفاكهة التي يتم تصديرها بشكل حصري إلى الصين، وهو ما سيخلق أزمة كبيرة للمزارعين التايوانيين والذين قد يحتجون ويلومون حكومتهم على تدهور العلاقات مع الصين.
كما تعتمد الصين على الهجمات الالكترونية التي تستهدف الوكالات الحكومية التايوانية كوسيلة للتأكيد على ضعف الحكومة التايوانية. ففي عام 2020 اتهمت تايوان قراصنة صينيين باختراق ما لا يقل عن عشر وكالات حكومية وستة آلاف حساب بريد إلكتروني رسمي منذ عام 2018. هذا بالإضافة إلى أن الصين دائما ما توجه الانتقادات اللاذعة للحكومة التايوانية. فعلى سبيل المثال انتقدت الصين المساعدات الإنسانية التي قدمتها تايوان للشعب الأوكراني متهمة حكومة تايوان بالتلاعب السياسي بالأزمة الأوكرانية، وهو انتقاد رفضته تايوان، لكنه يوضح مدى توتر العلاقات بين الجانبين، ومدى رغبة الجانب الصيني في إحراج النظام التايواني بشكل مستمر.
السيناريو الثاني: التدخل العسكري لضم تايوان
من المتوقع أن تلجأ الصين إلى الحل العسكري في حالتين، الأولى هي فشل السيناريو الأول، أما الحالة الثانية فهي إعلان تايوان استقلالها، وهو أمر مستبعد، حيث أنه ليس من مصلحة تايوان استفزاز الصين التي تتفوق عليها اقتصادياً وعسكريا، ورغم ذلك إلا أن التدخل العسكري الصيني في تايوان أمر غير مستبعد. ويعزي هذا إلى عاملين رئيسيين:
- العامل التاريخي: ففي ظل حكم الحزب الشيوعي الصيني قامت الصين بشن حرب لضم التبت عام 1950. وقامت بغزو الهند عام 1962 واستولت على منطقة أكساي تشين الحدودية، ولا يزال الصراع الحدودي بين الهند والصين قائماً. كما قامت الصين بغزو فيتنام عام 1979 ردا على قيام الجيش الفيتنامي بإنهاء حكم نظام الخمير الحمر المدعوم من الصين في كمبوديا.
يعني هذا أن الحزب الشيوعي الصيني لا يستبعد مبدأ التدخل العسكري للدفاع عن مصالح الصين، وليس هناك مصلحة أهم للصين من ضم تايوان بشكل رسمي إلى جمهورية الصين الشعبية. بالإضافة إلى أن المسئولين الصينيين أنفسهم لا يستبعدون التدخل العسكري، وهو ما اتضح في التصريح الذي أدلى به وزير الدفاع الصيني الجنرال “وي فنغ هي” في يونيو المنصرم خلال مشاركته في مؤتمر شنغريلا -المؤتمر الأمني الأهم في آسيا- حيث قال إن جيش بلاده “سوف يسحق بحزم أي محاولة للسعي إلى استقلال تايوان”.. كما حذر من أن بكين “ستقاتل بأي ثمن” و”ستقاتل حتى النهاية” إذا “تجرأ أي شخص على فصل تايوان عن الصين”.
- السيطرة على الرقائق الالكترونية: تنتج تايوان ما يقرب من 90% من الاحتياجات العالمية من الرقائق الالكترونية المتقدمة، مما يجعلها المورد الرئيسي للغالبية العظمى من الرقائق اللازمة لتشغيل أكثر الأجهزة تقدمًا في العالم، من تليفونات IPhone إلى الطائرات المقاتلة من طراز F-35.
وفي عام 2020 أنفقت الصين 350 مليار دولار لاستيراد رقائق الكترونية، وهو أكثر من المبلغ الذي تنفقه الصين لاستيراد النفط. حيث تشتري الصين 60٪ من إنتاج الرقائق في العالم، ومن ثم فإن الصين تشعر أنها تعتمد على مورد لا يمكنها التحكم به، وقد تجلي شعور الصين بالخطر حيال هذا الأمر في تصريح نائب رئيس مجلس الدولة “ليو هي” بأن الرقائق الالكترونية بالنسبة للصين “ليست فقط من أجل النمو، بل إنها مسألة بقاء”.
ومن ثم، فإن سيطرة تايوان على تصنيع الرقائق الالكترونية المتقدمة، يعد دافعاً رئيسياً للصين لشن عملية عسكرية في تايوان، حيث تدرك الصين أنه لكي تنافس الولايات المتحدة على الصعيد التكنولوجي بشكل فعال، يتعين عليها أن تصبح المنتج الأكبر للرقائق الالكترونية.
وتجدر الإشارة إلى أنه حال قيام الصين بشن عملية عسكرية تجاه تايوان، فستقوم وحدات الحرب الإلكترونية الصينية باستهداف مؤسسات النظام المالي والبنية التحتية الرئيسية في تايوان، بالإضافة إلى تعطيل الأقمار الصناعية الأمريكية وذلك لتقليل احتمالية التنسيق الامريكي مع تايوان حول مسار الصواريخ الصينية التي ستستهدف قتل كبار القادة السياسيين والعسكريين في تايوان.
خيارات الولايات المتحدة
تدرك الولايات المتحدة أن نشوب صراع مسلح بين الصين وتايوان سيؤدى إلى تغير موازين القوى في منطقة المحيطين الهادئ والهندي. ومن ثم ستكون واشنطن أمام خيارين كلاهما تكلفته فادحة.
- الخيار الأول هو عدم التدخل، وهو خيار مستبعد نظراً لأن صمت الولايات المتحدة عن غزو الصين لتايوان يعني اعترافاً منها بأن الصين هي القوة المهيمنة في آسيا، وأن حلفاء الولايات المتحدة لا يستطيعون الاعتماد عليها حال تعرضهم لأي اعتداء.
- أما الخيار الثاني فهو الانخراط في مواجهة مباشرة مع الصين للدفاع عن تايوان إما بشكل مباشر أو من خلال إمدادها بالسلاح كما يحدث في أوكرانيا، وهو خيار تكلفته الاقتصادية والعسكرية باهظة.
ومن المرجح أن تنخرط الولايات المتحدة في الصراع العسكري بشكل مباشر؛ حيث صرح الرئيس “بايدن” أثناء مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء الياباني في يونيو الماضي، بأنه يستبعد قيام الصين بغزو عسكري لتايوان، ولكن إن حدث ذلك فإن الولايات المتحدة ستتدخل عسكريًّا.
وعقب هذا التصريح، أوضح البيت الأبيض أن الولايات المتحدة ما زالت تتبع سياسة الصين الواحدة ولم تغير موقفها في هذا الشأن. إلا أنه لا يمكن غض الطرف عن حقيقة أن الولايات المتحدة تعتبر المحيطين الهندي والهادئ الساحة الرئيسية لمنافسة القوى العظمى في القرن الحادي والعشرين، لذا سيكون من الصعوبة بمكان أن تترك الولايات المتحدة الصين تغزو تايوان دون أن تتدخل.
ختاماً.. أصبحت تايوان القضية الرئيسية لإشعال التنافس بين الصين والولايات المتحدة، حيث يعد دعم تايوان هو السلاح الاستراتيجي الأهم بالنسبة للولايات المتحدة في معركتها لاحتواء الصين ومنعها من بسط هيمنتها في آسيا. ورغم أنه من المتوقع ألا تلجأ الصين للخيار العسكري ضد تايوان على المدي القصير أو المتوسط بسبب الصعوبات الاقتصادية التي فرضتها الجائحة، إلا أنه لا يمكن الجزم بأن الصين على المدى الطويل لن تشن حرباً لإجبار تايوان على الوحدة مع البر الرئيسي، خاصة مع تأكيد الرئيس الصيني بشكل دائم على أن استمرار انفصال تايوان يهدد مهمته التاريخية المتمثلة في إعادة إحياء الأمة الصينية.