ما تزال التطورات الدولية المتعاقبة خلال الثلاثة أعوام الماضية، بداية من وباء كورونا وانتهاء بالحرب الأوكرانية، تؤثر على حجم ووتيرة وطبيعة الصراعات بين القوى الإقليمية؛ حيث تسعى جميع الأطراف إلى اقتناص الفرص وتجنب الكوارث والنظر للمستقبل القريب من أرضية محددات حيوية كالغذاء والدواء، واقتصادية تتمحور حول الطاقة والملاحة، وتراجع التوتر الذي وصل في بعض الأحيان إلى حدود الصدام العسكري المباشر.
جاء هذا قبيل اندلاع الحرب في أوكرانيا، والتي تتعاطى القوى الإقليمية مع انعكاساتها وفق نمط إدارة أزمات وتعزيز المكاسب وتجنب المخاطر، وذلك مع اختلاف منطلقات وتوقيتات كل من هذه القوى، وعلى رأسها مصر وتركيا، وفق محددات جغرافية وديموغرافية واقتصادية. وهو ما يمكن أن يشكل مستوى جديدًا في بوادر الحوار بين البلدين، من حيث التأثير على وتيرة تجاوز النقاط الخلافية الثنائية بينهما، والتفاعل مع تطورات الحرب في أوروبا وطول أمدها وفق النمط السابق، وتحديداً فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، الذي يدور حول خطوط الطاقة والملاحة في مشهد دولي شديد الاضطراب، تعُنى به كل من القاهرة وأنقرة وفق مقاربات مختلفة، ولكن غير متصادمة بعكس النقاط الخلافية أمنية الطابع.
ماذا إذن عن المستقبل القريب لما اصطلح عليه بـ”الاستدارة التركية” تجاه مصر؟ وإلى أي مدى ساهمت الحرب في أوكرانيا في التسريع من وتيرة الحوار وتكريسه على نحو أكثر استدامة أو العكس؟؛ حيث ارتهان تقاطع الأضداد السياسية والأمنية، ممثلين في القاهرة وأنقرة، وفق محددات جغرافية-ملاحية بالبحار المطلين عليها وعلاقة ذلك بالحرب وأزمة سلاسل التوريد، واقتصادية تتمحور حول التجارة بين البلدين وطموحات الطاقة ومخاطر الغذاء، بخلاف قضايا المنطقة المزمنة.
تفاعل البلدين مع تطورات الحرب الأوكرانية
على الرغم من تناقض واختلاف المقاربات الخارجية لكل من القاهرة وأنقرة، وتحديدًا ما يتعلق بالمشهد الإقليمي إلا أن هناك نمطًا جمعهما تجاه تطورات الحرب الأوكرانية، مفاده -مع اختلاف الأولويات والمحددات- التوازن واقتناص الفرص والتحوط للمخاطر بإداراتها لما يسمح بتحويلها لفرص أو بالحد الأدنى الحد من تحولها لكارثة مستدامة. دفعت مصر نحو هذا الاتجاه بشكل استباقي في السنوات القليلة الماضية فيما يخص سياساتها الخارجية، وهو ما حدا بتركيا باتباعه وفق متغيرات وباء كورونا وما تبعها حتى اندلاع الحرب في أوكرانيا؛ حيث استرجاع المحددات الجغرافية والاقتصادية وعلى رأسها ما يتعلق بالموارد الأساسية والطاقة والملاحة والغذاء، في معادلة السياسة الخارجية التركية، التي ابتلعتها الشعبوية الأردوغانية على مدار عقد كامل.
على الرغم أن كلا البلدين يدير توازناته الخارجية المتقاطعة مع تطورات وتداعيات الحرب في أوكرانيا وفق محددات وترتيب أولويات مختلف، إلا أن كل منهما يتحركان على أرضية تعزيز الاستقرار الإقليمي في هذا الوقت المضطرب، وخاصة في الساحات التي يتقاطع فيها البلدين وعلى رأسها ليبيا، التي أضحت خلال العامين الماضيين مؤشرًا لمدى جدية التحولات التركية تجاه المنطقة؛ وعلى رأسها التقدم الحثيث في المحادثات بين البلدين بجسر خليجي تتراوح منطلقاته المتباينة نوعًا بين الرياض وأبوظبي، والتي في مجملها لا تبتعد كثيرًا عن شروط القاهرة في علاقاتها المستقبلية بأنقرة، وتحديداً فيما يخص جماعة الإخوان المسلمين.
يتضح السابق عبر أرقام التبادل التجاري من سلع وخدمات ومنتجات والأهم مشتريات الغاز؛ حيث احتلت تركيا المركز الأول بين الدول التي تصدر لها مصر الغاز هذا العام على وقع أزمة الطاقة التي خلفتها الحرب والتي شكلت فرصة لتكريس القاهرة لمكاسبها الغازية في شرق المتوسط، وذلك مع توقعات بارتفاع معدل التصدير على وقع الحرب في أوكرانيا، وهو ما وفره تفاهم ضمني مسبق بين البلدين حتى في أقصى مراحل خلافاتهم.
توازى هذا مع استمرار القاهرة في التحوط والتدرج الحذر فيما يخص الحوار مع أنقرة فيما يتعلق بالنقاط الخلافية، سواء الأمنية الثنائية أو الإقليمية والمتعلقة بشرق المتوسط بشكل عام، حيث التقدم في المحادثات الاستكشافية وانتقالها لمحادثات رسمية/دبلوماسية رهن التقدم في تحقيق الأخيرة لمطالب الأولى، وليس وفق مؤشر دولي يتمثل في تطورات الحرب في أوكرانيا، وتشبيكه إقليميّاً عبر حلفاء القاهرة في إنجاز “مصالحة” وفق أولوياتهم وتوقيتاتهم.
جعل هذا وتيرة التقدم في المحادثات بين البلدين لا تتأثر بالحرب إلا فيما يتعلق بعدم استخدام وتوظيف تداعياتها ضد الأخر وخاصة فيما يتعلق بالطاقة والملاحة والغذاء، أو العودة للمربع صفر فيما يتعلق بالتهدئة في ليبيا مثلاً، وهو ما جرت عليه العادة الأردوغانية خلال السنوات الماضية؛ وذلك عبر استمرار آليات التحقق والتحوط المصري من مدى تغير السابق نحو حلول عملية ذات مصداقية وضمانة، على أرضية الابتعاد عن الحلول الصفرية وتكريس الاستفادة المتبادلة من الفرص التي خلقتها الحرب الأوكرانية، والتي قد تُسرع من التقارب بين البلدين إذا ما استقر التفاعل التركي تجاهها وانعكاساته الإقليمية، وفق السابق وبشكل عملي.
من الخطوط الحمراء إلى تقاطعات مشتركة
توازى التوجه التركي لتسريع التقارب مع مصر من مختلف البوابات الإقليمية والثنائية بانفتاح الأخيرة تجاهه ولكن وفق سياسة التحوط والتدرج سابقة الذكر، وهو ما ترافق مع جملة متغيرات تجاوزت العلاقة الثنائية، لتلامس ملفات اقليمية ودولية، لا سيما بعد النجاح النسبي الذي تحقق على مستوى التسوية في ليبيا، والتوتر المتجدد في العلاقات التركية-الأميركية، بجانب التحركات التركية لتطبيع العلاقات مع دول الخليج (السعودية والإمارات)، وأخيراً انعكاسات الحرب الأوكرانية على المنطقة وإمكانية تسريع وتيرة هذه التحولات وتكريسها كواقع مستدام نسبيًّا، ولكن وفق محددات وأولويات مصر التي حشدت على أساسها بشكل تصاعدي مواقف أوربية ودولية متطابقة أو متقاطعة مع محدداتها التي هي كالآتي:
- رعاية ودعم تركيا أردوغان لجماعة الإخوان المسلمين واستخدامهم كورقة في صراعها مع مصر.
- السياسات الإقليمية لتركيا في الخليج عبر قطر، وسياسة القضم المتبعة في العراق وسوريا، وهو ما تتقاطع معه القاهرة مع بعض حلفائها، وتتنافر مع بعضهم الأخر وذلك لاختلاف التقديرات والأولويات فيما بينهم، وعلاقة بعض من هؤلاء الحلفاء -وتحديدًا الرياض- مع أنقرة والدوحة في سياق أولوية أهم تتمثل في المخاطر التي تراها السعودية فيما يخص إيران على مستوى إقليمي أو فيما يتعلق بمستقبل علاقاتها/نزاعها مع واشنطن.
- دعم الإرهاب والجماعات المتطرفة ومظاهر المرتزقة العابرين للحدود والجنسيات، واستغلال أزمات اللاجئين وتوظيفها سياسياً على مختلف المحاور.
- غاز المتوسط، ويرتبط بإسرائيل وشمال افريقيا ككل وامتداد ذلك بين روسيا وواشنطن والاتحاد الأوربي والتنافس على استخراج وتصديره إلى مختلف الأسواق الأوربية والعالمية، وهو ما تضاعفت أهميته على وقع الحرب الأوكرانية.
طبقًا لما جرى من تقدم حثيث على صعيد النقاط السابقة، فإن الاستدارة التركية والانفتاح المصري المشروط تجاهها خلال العامين الماضيين، لا يمكن اعتباره سوى خطوة صغيرة للغاية على طريق التطبيع الكامل للعلاقات. وقد اتضح طريق التقارب بين أنقرة والقاهرة دونه الكثير من العقبات، وهو ما تأكد حين قررت مصر تعليق اتصالاتها مع تركيا كنوع من الضغط لانتزاع تنازلات تراها القاهرة شروطًا لا بد منها لتحقيق المصالحة، وخصوصاً فيما يتصل بشروط التحقق الأكثر إلحاحًا التي تبعد التوتر بين البلدين عن منطقة الخطوط الحمراء نحو ما يمكن البناء عليه، وهي سحب المسلحين السوريين من ليبيا، وتسليم عدد من العناصر الإخوانية المقيمة في تركيا والمتورطة في قضايا إرهاب. وهو ما أتى بشكل سابق على انعكاسات الحرب الأوكرانية على المنطقة، ووفق عوامل أدت إلى اتخاذ أنقرة مسار التهدئة مع القاهرة منها:
- فشل السياسات التي اعتمدتها تركيا طوال السنوات التي أعقبت سقوط حكم الإخوان المسلمين لإضعاف النظام الجديد في مصر، وهو ما أتاح الفرصة للأخيرة بأن تنتقل من موقع الدفاع إلى المبادرة الفعلية في مساحات خارجية (ليبيا، وغاز المتوسط، وملف اللاجئين، والخليج).
- عدم انقطاع العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا برغم كل التوتر الذي حدث منذ العام 2013، وهو عنصر يمكن للجانبين البناء عليه سياسياً، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تركيا، والناجمة بشكل خاص عن العزلة الغربية التي تتعرض لها (وهي نقطة يمكن للقاهرة أن تستثمرها بأقصى حد لانتزاع ما يكفي من تنازلات متصلة بشروط تطبيع العلاقات على وقع الحرب في أوكرانيا)، في مقابل حاجة مصر إلى تنويع اقتصادها وتعزيز مصادر دخلها في سياق تنفيذ خطة التنمية التي تشكل العنوان الاقتصادي لحكم الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ما سبق يجعل التفاعل بين مصر وتركيا قائماً على أسس براجماتية تتجاوز الخلافات المتصلة بالدعم التركي السابق لنظام “الاخوان المسلمين” ومحاولتها تقويض الدولة المصرية في الفترة التي تلت سقوط هذا النظام؛ وتتجاوز أيضاً تنافس المصالح في الملفات الخارجية (ليبيا، غاز شرق المتوسط، القرن الأفريقي)، مع الإشارة إلى أن ثمة عاملاً مشتركاً بين السياسات الخارجية لكل من القاهرة وانقرة يتمثل في سعي الطرفين لمقاربة كل من الملفات على حدىً بدلاً من مقاربة كل الملفات كحزمة واحدة.
ضمن هذا المسار، بدا ميزان القوة أكثر ميلاً باتجاه كفة مصر لسببين أساسيين:
- الأول، استنفاد رجب طيب أردوغان قدرته على استثمار الصراع المصري-التركي لتحقيق مكاسب في السياسة الخارجية.
- والثاني، نجاح مصر في تطبيق سياسة النفس الطويل في إدارة صراعها مع تركيا، بجانب تدرجها في مقاربة الملفات الخلافية وفصلها عن بعضها البعض؛ وهو ما جنبها الانجرار إلى مغامرات خطيرة، وهو ما تبدى بشكل خاص في الصراع الليبي، حين سارعت القاهرة الى تسويق خطتها للتسوية في لحظة حاسمة بدت فيهما كل من أنقرة والقاهرة على شفير الدخول في حرب مباشرة.
وتيرة المحادثات وفق ليبيا أم أوكرانيا؟
أتى ارتهان مسار ومحطات “جولات الحوار الاستكشافية” بين مصر وتركيا للسابق، كمرحلة انتقالية بين سياسة “الخطوط الحمراء” نحو مشتركات يمكن البناء عليها سواء على المستوى الثنائي أو الإقليمي عبر البوابة الليبية؛ حيث شكلت ليبيا ورقة متعددة الاستخدامات لسياسات أنقرة الإقليمية، وتحديداً فيما يتعلق بغاز شرق المتوسط. وهو ما يستدعي بالضرورة تحول تركي جدي وحقيقي لتأكيد جدية استدارتها وأنها استراتيجية وليست مجرد تكتيك، خاصة بعد إخفاق رهانات أردوغان في الانفراد بدور الوسيط الوحيد في عملية تدفق الغاز نحو أوروبا.
هنا يمكن ملاحظة أن بعض محددات التحرك المصري تجاه الأطماع الأردوغانية وخاصة في ذروتها الأخيرة مع بدايات 2020، لم تقف فقط عند حد انتظار استبيان ما سيحدث في واشنطن، ولكن بادرت ومن موقف دفاعي مشروع إلى تحريك أدوات قوتها العسكرية، وهو ما يستمر حتى الأن ولكن وفق معايير التحوط والتوازن، ووفق توقيت القاهرة وأولوياتها الخارجية، التي باتت مختلف الأطراف الإقليمية والدولية تتقاطع معها فيما يتعلق بليبيا خصوصًا وشرق المتوسط بشكل عام.
جاء هذا التحوط من جانب القاهرة وفق إدراك عميق لكل من التصعيد والتهدئة التي انخرطت فيهم أنقرة بشكل متسارع على مدار العامين الماضيين، من حيث تضارب أولويات أردوغان ما بين دواعي جيوسياسية واقتصادية، وما بين حسابات شعبوية ضيقة ترتبط بصراعات وتنافس في الداخل التركي بمختلف مستوياته، وأن الاختراق الذي حققته أنقرة في المنطقة وفق النمط الأردوغاني بمختلف تجلياته، قد بُني على ثغرات ناتجة عن تباين أولويات وتقديرات القاهرة وحلفاءها الإقليميين، الذي جمعتهم سنوات ترامب في صيغة شراكة لدود، كانت مفاعليها هي الأبرز على مستوى الملف الليبي، وهو ما تغير على وقع دخول بايدن للبيت الأبيض وتموضع مصر المستقل إقليميًّا وفق مصالحها المباشرة، وعلاقة ذلك بإدارة بايدن وسياساتها الإقليمية قبل وبعد الحرب في أوكرانيا.
جعل إدراك الحكومة التركية لميل التوازن لصالح القاهرة في ليبيا من منظور جيوسياسي ولوجيستي خلال الفترة الأخيرة وبشكل مطرد إعادة ترتيب أولويات أنقرة يأتي من موقع الاستجابة وليس الفعل وحسب توقيت القاهرة وحلفائها وشركائها في مختلف الملفات الإقليمية، وخاصة مع حالة العزلة الخارجية التي تسببت فيها سياسات أردوغان، واستهلاك نمط تحميل وتصدير الأزمات الداخلية للخارج، ناهيك عن متغيرات أميركية في عهد بايدن ودولية، تجعل الاستمرار في سياسة المساومة العابرة للحدود والمحيط الحيوي التي اتبعها مع القوى الكبرى غير مُجدية، وأضحى الاستمرار فيها في عهد بايدن نوع من المقامرة.
ولضمان تحقق ذلك دون أن تكون مناورة معتادة من أردوغان، سواء كتكتيك مؤقت، أو يهدف لتكرار سيناريو “أستانا” وغيره من سيناريوهات الحل في سوريا بكل تفاصيلها المعقدة المتنامية، والمرتبطة بروافد إقليمية ودولية جعلت التسوية في سوريا ليست هي الأجندة ولكنها بند من أجندات أشمل وعلى محاور متعددة سواء الخاصة بالطاقة وإعادة الإعمار ومصير الجماعات الإرهابية وغيرها، وهو ما تجنبت القاهرة التورط فيه بمنهجية التدرج المرحلي المتمهل في التحقق والتأكد من مجمل مفاعيل هذه الاستدارة التركية على مختلف المستويات الميدانية والاقتصادية والسياسية في ليبيا، ومن ثم مع إنجاز هكذا خطوة يمكن فيما بعد البدء في التطرق لباقي محاور الخلاف التركي المصري – رعاية أنقرة لجماعات العنف المسلح كمثال- وبتدرج مماثل الهدف منه بناء ثقة متبادلة لاستعادة حدود دُنيا من قنوات الحوار بين القاهرة وأنقرة، لا تعني حال تحققها انتهاء الصراع بين العاصمتين بين ليلة وضحاها وفق تطورات الحرب الأوكرانية وما تريده باقي القوى الإقليمية والدولية فيما يتعلق بانعكاساتها على المنطقة.
ختام واستشراف:
في الصورة الكاملة لمسار المحادثات التقاربية بين مصر وتركيا، نجد أن انعكاسات الحرب في أوكرانيا على المنطقة حيث اقتناص الفرص وإدارة/تجنب المخاطر، قد صاحبها استمرار من الأولى في سياسة التحوط وامتلاك كل الوقت، مع متغير خافت ولكنه مؤثر، يتمثل في تخفيض احتمالات التوتر بين البلدين وفق المحاذير السابقة للحرب والوباء، واستبداله بنمط تكاملي وليس تعطيل متبادل، وهو ما تعاظم من خلال المظلة السعودية المستقبلة للاستدارة التركية بمقاربة باتت تتطابق بشكل طردي مع ما تريده مصر وخاصة المتعلقة بأمنها القومي، وامتداداته بين جماعة الإخوان والوضع في ليبيا، وهو ما أتت ترتيب جولة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تبدأ من القاهرة وتنتهي بتركيا.
كذلك نجد أن مسار المحادثات الثنائية وإن كان يسير بوتيرة أبطأ، ولكن معزز ومضمون أكثر من مسار التفاعل الإقليمي مع الاستدارة التركية (نحو إسرائيل، والسعودية، والإمارات) المرتبطة بما تريده واشنطن وفق اصطفافات عالمية حول الحرب في أوكرانيا، وهو ما تنأى القاهرة عنه، وتدفع نحو السير في الحوار مع انقرة وفق أولوياتها. وهو ما يفسر بقاء جولات الحوار بين البلدين على المستوى الأمني، وعدم تطورها لمراحل سياسية ودبلوماسية متقدمة، حتى بعد تصريحات مباشرة من أردوغان حول ضرورة إصلاح العلاقات مع مصر، ورد القاهرة الغير مباشر عبر التوازن مع جميع الأطراف الفاعلة إقليمياً شريطة أن تكون متلائمة مع المصالح المصرية.
على نفس المنوال، فإن تسريع وتيرة التطبيع بين مصر وتركيا قبل جولة بايدن الإقليمية، وإعادة ضبط علاقات واشنطن بالمنطقة وفق تطورات الحرب الإقليمية، يأتي كرغبة من حلفاء القاهرة، التي بدأت من جانبها حصد أولى ثمار سياسة التحوط والتوازن البادئة قبل سنوات، وهو ما يجعل هذا التسريع يأتي بمقابل التدعيم الاقتصادي والمالي من جانب هؤلاء الحلفاء على نحو أسس أكثر استدامة، بعيدًا عن أولويات مصر المتعلقة بملفات الغذاء والطاقة، وارتباط ذلك مسبقاً بالتوازن الذي تديره مصر في علاقاتها بالاتحاد الأوربي وواشنطن وموسكو وبكين.
أما على الجانب التركي، فإن إتمام استدارة أنقرة أردوغان تجاه المنطقة، والتي أتت لاعتبارات اضطرارية على المستويين الداخلي و الخارجي، والتقاف فرصة الحرب في أوكرانيا كطوق نجاة من أزمات وعثرات متكررة على المستويات السابقة، يتطلبان توازن حساس يدار بدقة وفق مستجدات وتطورات يصعب توقع امتداد أثارها على مختلف الساحات المعنية بها السياسة الخارجية التركية من وسط آسيا للبحر الأسود للشرق الأوسط، وقبل ذلك علاقاتها بالاتحاد الأوربي وموقعها في حلف الناتو. وهو ما يتوفر تحقيقه بنسبية تعتمد على الاستجابة المصرية والتحفيز الخليجي/السعودي المصاحب لها.
فيما يبقى التحوط هو خط الأمان لكل من البلدين في مسار إعادة تطبيع العلاقات بينهما، فحتى وإن تم حسم نقطة الإخوان والموقف منهم، والتقدم فيما يتعلق بالملف الليبي، فيبقى محاذير مستقبلية تعجل من تحققها تطورات الحرب الأوكرانية، خاصة إذا ما تقاطعت مع ملفات الطاقة والملاحة وترسيم الحدود البحرية وساحات ذلك الممتدة من سوريا والعراق ولبنان وحتى البحر الأحمر والقرن الأفريقي، ناهيك عن ما يتجاوز اللحظة التوافقية الراهنة الخاصة بغاز شرق المتوسط، واحتمالية تحولها في المستقبل القريب لمسار تنافس أكثر من كونه تعاون، وتحديدًا فيما يخص مشاريع خطوط الطاقة بين تل أبيب وأنقرة، والحيلولة دون ذلك عبر ترسيخ التوافق المبدئ الجاري وتعزيزه عبر محددات اقتصادية وجيوسياسية وليس إرادة شخصية أو مزاج شعبوي.
بناءً على ما سبق، فإن هذا التوافق والحوار الأولي/الاستكشافي، يتوقع أن يتخلله تطورات إيجابية بين البلدين من مختلف البوابات الإقليمية والثنائية، ما يعني تطور الحوار إلى إعادة تطبيع سياسي ودبلوماسي يرتكز على تطورات الحرب في أوكرانيا كتحفيز إضافي، أثره الأكبر على العلاقات بين مصر وتركيا هو تحول الخلاف بينهم إلى هامش وليس متن كالسنوات السابقة، وذلك مع استمرار تباين الأولويات واختلاف التوقيتات، ولكن دون أن يعني ذلك بالضرورة الصدام والعودة للمربع صفر تهدئة واستئناف الجموح الأردوغاني مثلما كان لغاية مطلع 2020.