تتجه دولة الإمارات نحو استخدام الطاقة النظيفة أو المتجددة، باعتبارها المستقبل الأفضل والأكثر استدامة لتنمية حقيقية على المدى الطويل. في هذا الصدد، تأسست شركة “مصدر” عام 2006، كشركة عالمية رائدة في مجالَي الطاقة المتجددة والتطوير العمراني المستدام. تتطلع الشركة إلى تعزيز الدور الريادي للإمارات في قطاع الطاقة، بالإضافة إلى العمل على تنويع مصادر الاقتصاد والطاقة وجعلها أكثر استدامة، ما يعود بالنفع على الأجيال القادمة.
تعمل الإمارات من خلال “مصدر” على تعزيز استخدام الطاقة النظيفة ليس في الداخل الإماراتي فحسب، بل تتوسع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومنذ تأسيس الشركة عام 2006، توسعت المشروعات بشكل مطرد، وشملت مشاريع الطاقة الشمسية، الطاقة الكهربائية، وصلت إلى تأسيس مدينة مصدر حيث تعتبر مثالاً يحتذى به على النطاق العالمي فيما يخص استخدام الطاقة المتجددة. فقد تم بناء هذه المدينة الشاملة بالقرب من إمارة أبو ظبي على أسس معمارية تاريخية تعتمد على أشعة الشمس وتوفر حرارة معتدلة من دون الحاجة إلى استهلاك طاقة كهربائية كبيرة.
كما تعد المدينة مركزاً يربط التعليم بالبحث والتطوير والأعمال التجارية بالاستثمار. وتشكل نموذج اختبار لشركات الطاقة المتجددة والتكنولوجيا في دولة الإمارات وحول العالم. تهدف المدينة إلى توفير فرص مجدية على الصعيد التجاري، وأعلى مستويات جودة حياة مع أقل تأثير بيئي ممكن، ما يجعلها تمثل مجتمعًا مستدامًا متنوعًا، يضم مساحات تجارية، ومناطق سكنية، وحدائق، ومجمعات تجارية، ومرافق عامة.
تطوير وريادة:
خلال عام 2021، بينما يتعافى العالم من التبعات الاقتصادية المروّعة جراء ما خلفته أزمة فيروس كورونا، استطاعت شركة مصدر توقيع الاتفاقية الاستراتيجية بين “طاقة” و”مبادلة” و”أدنوك” لامتلاك كل منها حصة في “مصدر”، بهدف تطوير محفظة عالمية للاستثمار في مجال الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، بسعة إنتاج حالية وحصرية تبلغ أكثر من 23 جيجاوات من الطاقة المتجددة؛ لتصبح “مصدر” بذلك واحدة من أكبر الشركات من نوعها على مستوى العالم.
تستهدف هذه الشراكة، إنشاء منظومة قوية ومؤثرة للطاقة النظيفة، تحت المظلة الأكبر “مصدر، وذلك عبر توحيد جهود الشركات الثلاث، لتعزيز إنتاجيتهم في مجالات الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر. قُدرت قيمة الصفقة إجماليًا بـ”7 مليارات درهم إماراتي”، ما يساوي 1.9 مليار دولار أمريكي، وذلك بحسب النسب للشركات الثلاث. حيث تستحوذ طاقة على حصة مسيطرة نسبتها 43% من أصول مصدر، أمّا مبادلة ستكون حصتها 33%، والنسبة الأقل تمتلكها أدنوك وتبلغ 24%.
أمّا في مجال الهيدروجين الأكبر، تستحوذ أدنوك على حصّة قيمتها 43 % من المشروع الجديد لشركة مصدر والمختص بهذا المجال، وتحتفظ مبادلة بنفس نسبتها 33%، وتكون نسبة طاقة هي الأقل بقيمة 24%، وبموجب هذه الاتفاقيات، ستساهم “طاقة” بحقوقها لتملّك نسبة 40% كحدّ أدنى في مشاريع الطاقة المتجددة في إمارة أبو ظبي.
في نوفمبر 2021، حصلت شركة مصدر، للمرة الثالثة على جائزة “جلف بزنس” كأفضل شركة للطاقة وذلك بعد حصولها عليها للعامين 2016، 2017. في نفس العام مُنحت “مصدر” تصنيف A2 و A+ من قبل وكالات عالمية، وذلك تأكيدًا على أهمية سجل إنجازات الشركة وأصولها في قطاع الطاقة النظيفة والتطوير العقاري المستدام. أتاح التصنيف الائتماني الأول لشركة “مصدر” مرونة أكبر في تمويل المشاريع الجديدة والاستثمار فيها ما يدعم جهودها لتسريع وتيرة توسعها عالميًا.
ضمن خطة توسعها، عقدت مصدر مطلع العام الجاري اتفاقية مع “دبيلو سولار انفستمنت” التابعة لمجموعة ألفا ظبي القابضة والمتخصصة في الاستثمار والتطوير في قطاع الطاقة الشمسية، عن تأسيس شركة مشتركة لتطوير مشاريع الطاقة النظيفة في عدد من المناطق المختلفة خارج منطقة الشرق الأوسط. الشركة الجديدة التي تحمل اسم “ام دبليو إنرجي ليميتد”، هي بمثابة منصة تركز على تطوير مشاريع محددة مسبقاً، إلى جانب العمل على استكشاف فرص جديدة تحت إشراف الشركتين المالكتين.
تسعى مصدر إلى أن تصل مشاريعها عالميًا إلى إنتاج أكثر من 200 جيجا وات من الكهرباء، خاصةً بعد وصول استثماراتها في مشاريع طاقة الرياح والطاقة إلى الشمسية إلى ما يزيد عن 40 دولة حول العالم. بحلول عام 2030، حددت أبو ظبي سعيها إلى وصول قدرة مصدر على انتاج أكثر من 50 جيجاوات، في ظل تخصيص ما لا يقل عن 3 تريليون دولار في مجال الطاقة المتجددة على مدى العشر سنوات القادمة.
بوابة العالمية:
وقعت الإمارات في 5 يونيو الماضي، اتفاقيتين لتطوير 4 جيجاوات من مشروعات الطاقة المتجددة مع أذربيجان، مع إمكانية الوصول إلى 6 جيجاوات إضافية في المرحلة الثانية، وبذلك تكون أذربيجان قد عقدت أكبر صفقة في تاريخها ومع دولة عربية، ستطور مصدر 1 جيجاوات من طاقة الرياح البرية وواحد جيجاوات من مشاريع الطاقة الشمسية الكهروضوئية في أذربيجان، إلى جانب مشاريع الرياح البحرية والهيدروجين الأخضر بقدرة 2 جيجاوات. في هذا الصدد، قامت مصدر بزيادة محفظتها من الطاقة النظيفة بنسبة 40% إلى حوالي 15 جيجاوات خلال عام 2021، تستهدف الإمارات حصة 25٪ في السوق العالمية من الهيدروجين منخفض الكربون بحلول عام 2030، ولديها العديد من مشاريع الهيدروجين قيد التنفيذ كما تتطلع إلى حصّة كبيرة من أسواق التصدير الرئيسية، بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا، بالإضافة إلى الأسواق الأخرى التي تحددها. باعتبارها ذات “إمكانات عالية” في أوروبا وشرق آسيا.
في ظل توقعات عالمية أن يتضاعف عدد الأشخاص المقيمين في المناطق الحضرية بحلول عام 2050، هناك احتياج ماس إلى تبني نهج مبتكر وغير تقليدي للتنمية المدنية، وقد أخذت مصدر هذا النهج على عاتقها حين ظهرت مدينتها إلى النور عام 2008. بدأت المدينة كمثال حي ونابض على ما يمكن أن تكون عليه المدن في ظل تبنيها لنهج التنمية المستدامة، وبناء مجتمع جديد وآمن مع وضع الحد من الطلب على الموارد في الاعتبار؛ إذ تكمن الفكرة الرئيسة في التعامل مع القضايا المتعلقة باستهلاك الطاقة والمياه ومعالجة النفايات، والتعامل الأمثل مع كل ما يوجهنا من قضايا بيئية تهدد مستقبلنا جميعًا على الأرض.
مستقبل واعد
على بعد خمس دقائق من مطار أبوظبي الدولي، بنيت مدينة مصدر بحيث تتميّز بموقع مثالي للوصول إلى المناطق الحيوية من الاسواق الناشئة في الشرق الأوسط وآسيا، وتصل مساحتها إلى 1483 فدانًا، وتقدر سعتها البشرية بأكثر من 50 ألف مقيم، بالإضافة إلى 40 ألف مسافر يوميًا. شُيدت جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي في قلب المدينة، وتمّ إضافة مكاتب تجارية في البداية ثمّ مباني سكنية.
إلى جانب المباني، هناك حدائق عامة وأماكن للعائلة، كما تمّ افتتاح سنترال بارك قبل ثلاثة أعوام ويتميز بميزات مثل الجدران الخضراء العمودية لمساعدة الأطفال على فهم أسس الاستدامة، كما تمّ استضافة فنانين ومشاهير للمساعدة على الترويج لمبادئ الاستدامة.
من المقرر تطوير المزيد من المنازل والمدارس والمساجد والحدائق الخضراء خلال السنوات القادمة. وهناك الكثير من الدراسات التي تُظهر أن تصميم المساحات الحضرية مع وضع الطبيعة في الاعتبار، له فوائد كبيرة للصحة العقلية. كما يمكن منع ما يصل إلى 20 ٪ من جميع الوفيات إذا تم تصميم المدن لتلبية التوصيات المتعلقة بالنشاط البدني وتلوث الهواء والضوضاء والحرارة والمساحات الخضراء. إذًا ستوفر مدن مثل مدينة مصدر مزايا شاملة للصحة والرفاهية للسكان.
من الناحية التجارية، تنعم مدينة مصدر بنظام بيئي مزدهر للشركات والشركات الناشئة التي تركز على الاستدامة والتي تستفيد من كونها قريبة من الشركات الكبيرة مثل سيمنز والوكالة الدولية للطاقة المتجددة IRENA ، فضلاً عن الجامعات ذات المستوى العالمي وغيرها من مرافق البحث والتطوير الرائدة. فضلًا عن الجاذبية الكبيرة التي تتمتّع بها المدينة من قبل السكان المحليين والأكاديميين ورجال الأعمال والمستثمرين من جميع أنحاء العالم، حيث تكمن فرص فريدة في عالم جديد يتجاوز أزمات عالمنا الحاضر، ويسعى لتقديم تجربة خاصة عما يفترض أن يسود عالمنا.
دعائم الابتكار
خلال سنوات قليلة، أصبحت مصدر مجموعة متكاملة ومتنامية في عالم التكنولوجيا النظيفة، تسعى لتقديم فرص نادرة للمستثمرين والمطورين؛ حيث تقدّم المدينة ملكية كاملة للشركات بغض النظر عن جنسيتها، مع إعفاء كامل من الضرائب المؤسسية، جعلت هذه الجهود مدينة مصدر مركزًا دوليًا للطاقة المتجددة. ففي عام 2015، نقلت إيرينا مقرها الرئيسي إلى المدينة، لتصبح الوكالة في قلب مدينة مصدر، وهو ما ساعد على تعزيز موقع المدينة كمكان حيوي وفعال في عالم الطاقة المتجددة، عبر جذب إيرينا للزوار والمستثمرين.
ليست إيرينا سوى نموذج عملي على الآلية التي تجذب المؤسسات الهامة والمعنيّة بشكل متزايد إلى مدينة مصدر، وذلك بفضل بنيتها التحتية المبتكرة، وما تقوم عليه من تقنيات متطورة تسهّل الوصول إلى الأطراف المعنية، الذين يرون في المدينة فرصة مثالية للعيش بطريقة مبتكرة في ظل المعروض والممكن والمتاح.
ساعد أيضًا وجود جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي كأول جامعة في العالم مكرسة بالكامل لدراسة وتطوير الذكاء الاصطناعي، على إنشاء مركز لأعمال التطوير في هذا المجال؛ حيث أصبح هذا المزيج والتكامل بين أنشطة التعليم والبحث والتطوير والاستثمار كما فرض العمل الكبيرة والواعدة، سمة مميزة للمنطقة الحرة في المدينة، وعندما يقترن هذا الأمر بإعفاءات ضريبية كاملة، وإعفاءات لتعريفات الاستيراد، يمكن أن نفهم كيف أصبحت مدينة مصدر وجهة أهم مستثمري العالم في مجال الطاقة النظيفة.
تعمل الهندسة المعمارية المبتكرة مثل ألواح الجدران العاكسة المعزولة بدرجة عالية والواجهات ذات الزوايا على تقليل الحرارة والوهج الناتج عن الشمس مع تحسين الضوء الطبيعي. تم تصميم الشوارع الضيقة لتلقي التظليل الشمسي السلبي من المباني المحيطة، والتي تكتمل بظلال على مستوى الشارع لراحة السكان والزائرين. يتضح هذا المستوى من التصميم الدقيق حتى في اتجاه المدينة، والذي يوازن شبكة المدينة مع الرياح لتوفير التهوية الطبيعية من خلال ساحات بحيث تحقق أقصى استفادة من تدفق الهواء. التصاميم جميعها مستوحاة من المساكن التقليدية الموجودة في المنطقة العربية والتي تم تبنيها للمساعدة في التبريد الطبيعي، تفتح الابتكارات المعاد تنشيطها آفاقًا جديدة في مجال العمارة، وهي بمثابة نموذج ملموس لما يمكن أن يتحقق فعلًا، مع كونها جذابة بصريًا وملهمة للزوار من جميع أنحاء العالم.
ختامًا، تركز فلسفة التصاميم التي تحويها المدينة، في الأساس، على البشر، ما يوفر نسبة عالية من مناطق السير بدلًا من طرق للسيارات، فضلًا عن احتواء مصدر على أول نظام نقل عام مستدام في العالم بهذا الحجم، ما يتيح المجال لخيارات مبتكرة مثل السيارات الكهربائية، وغيرها. وبهذا لا تمثل مصدر فقط نموذجًا للتوسع والمراهنة على مركزية الطاقة المتجددة في المستقبل، بل أيضًا نموذجًا للتناغم بين معايير الكفاءة الفنية والتناغم مع المحيط الثقافي والاجتماعي لمشروعات المستقبل.