يمثل الخطر على أي كيان نتاجًا جدليًا لتفاعلات الداخلي والخارجي معًا في هذا الكيان؛ وهكذا تنبع التهديدات من تفاعل ديناميات السياقات المحيطة مع نقاط الضعف والهشاشة الداخلية، وهو ما ينطبق على كافة الظواهر الاجتماعية تقريبًا.
لهذا عندما نتحدث عن التهديدات الإستراتيجية للأمن الاقتصادي العربي، فلابد وأن ننطلق من فهم نقاط الضعف والهشاشة في بنية وعمل الاقتصاد العربي أولاً، ونقاط تشابكه وتداخله مع الاتجاهات العامة للاقتصاد العالمي ثانيًا؛ لنبني بناءً عليه تصوّرًا لبُناه الهيكلية وعلاقاته الإستراتيجية من جهة، والثغرات التي يكن أن تنفذ منها أو تؤثر عليها المخاطر المحتملة من جهة أخرى.
فما هى مواضع الهشاشة الإستراتيجية في الاقتصاد العربي؟
يبدأ التحليل الاقتصادي الإستراتيجي أولاً بأوجه الضعف في نمط النمو وأشكال الانحرافات في اتجاهات تغيّره الهيكلية، وعلى هذا الصعيد نجد ما يلي:
- تعاني الاقتصادات العربية ضعفًا في التنويع الإنتاجي وانخفاضًا في مستوى التعقيد الاقتصادي، ما ينعكس في تخلف التكوين القطاعي، كما يظهر في سيطرة قطاعات الصناعة الاستخراجية والقطاعات الخدمية الريعية على الاقتصاد بنسب 26.8% و48.3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2018م على التوالي، وضعف مساهمة الصناعة التحويلية والقطاعات السلعية به عمومًا بنسب 10.4% للصناعة التحويلية و4.5% للزراعة في ذلك الناتج، وهو ما يؤدي لارتفاع مستوى التبعية للخارج، بما يتجاوز وضعية الاعتمادية المتبادلة المُعتادة بين الاقتصادات، فيزيد درجة انكشاف هذه الاقتصادات على الخارج، وسهولة تأثرها بتقلّباته وتحوّلاته المختلفة.
- ينعكس ما سبق على هشاشة الوضع التجاري العربي عالميًا، فغلبة المُنتجات الأولية محدودة القيمة المُضافة ومتقلبة الأسعار، والمُهددة بالتدهور طلبًا وسعرًا على الدوام، تجعل موازين التجارة العربية بسبيلها للعجز عاجلاً أو آجلاً، ولا يغيّر من هذا كثيرًا استمرار أهمية النفط في الأجل القصير، الذي يغطّي وجوده على العجز الصناعي في صادرات الدول العربية، وإن عبّر عن نفسه بالتقلّب الشديد في حصيلتها مُقارنة بحصيلة الواردات، فنجد الأولى أقل من الثانية عاميّ 2016 و2017م، وأعلى منها عام 2018م، تماشيًا مع تقلبات أسعار النفط في تلك السنوات؛ ما يعكس ارتفاع أهميته النسبية في الصادرات العربية المحدودة، والضعف التجاري عمومًا كميًا وكيفيًا.
- يؤدي هذا الضعف الإنتاجي لعجز مُزمن في التشغيل اللائق، أي خلق فرص العمل الجيدة للتدفقات المستمرة من الشباب الباحث عن عمل لأول مرة؛ فتتراكم البطالة السافرة والمُقنعة بين المتعلمين وغير المتعلمين، بحيث بلغت 10% (ضعف المتوسط العالمي) من القوة العاملة (الأقل هى نفسها من المتوسط العالمي بسبب ضعف مشاركة النساء)، ومعها تتزايد معدلات الفقر والتهميش وسوء توزيع الدخل والثروة؛ بشكل يخلق حالة مستمرة من عدم الاستقرار الاجتماعي، ويهدد بانفجارات وانقسامات سياسية عنيفة.
- يدفع هذا العجز الإنتاجي كذلك لعجز مالي واختلال نقدي مُزمنين، ما ظهر في العجز المالي المستمر حتى في الدول المُنتجة للنفط (تجاوز 10% كمتوسط لجميع الدول العربية عام 2015م)، وفي تقلبات أسعار الصرف والتكلفة المرتفعة للسيطرة عليها، ما يتم تغطيته مؤقتًا بالمدخرات الحكومية أو بالاستدانة المحلية والخارجية، وهى وسائل تعمّق أوضاع الهشاشة المالية والنقدية وتزيد الاعتماد على الخارج، وتضعف قدرة الحكومات على الإنفاق العام، وتفتح أبوابًا للمضاربة على العملة والاستهداف بالأموال الساخنة الضارة.
نجد ثانيًا، في المستوى اللاحق مباشرًة، مجموعة من القصورات في رأس المال الاجتماعي والبشري، ترتبط بتفاعل الهيكل الاقتصادي سالف الذكر مع مُعطيات البيئة الطبيعية والديموغرافية والسياسية، في ضوء خلفيتهما التاريخية، من أمن غذائي ومائي وطاقي، وتكوين صحي وتعليمي، ما يظهر في:
- أدى الضعف الإنتاجي الزراعي، سواء لتخلف القدرات التكنولوجية والبشرية العربية أو لضعف الموارد الزراعية من الأراضي والمياه، لفجوة غذائية مزمنة، أضعفت السيادة الغذائية العربية، ما تجلّى في بلوغ نسبة السلع الغذائية الأساسية حوالي 69.4% من إجمالي الواردات الزراعية عام 2017م، ضمن اتجاه عام متزايد طوال الفترة 2010-2017م، وتشير تقديرات أشمل إلى تمثيلها مابين 11 و34% من إجمالي الواردات السلعية، وإلى استيراد معظم الدول العربية لما يتراوح ما بين 25 و50% من حاجاتها الغذائية من الحبوب، والتي تمثل ما بين 40 و50% من استهلاكها، بشكل جعلها أكبر مستورد للحبوب عالميًا.
- تُعتبر المنطقة العربية إحدى أكثر مناطق العالم فقرًا من الوجهة المائية، وهو ما يضعف إمكانات نمو القطاع الزراعي، ويفاقم من تهديدات الأمن الغذائي والطاقي، فأغلب الدول العربية دون حد الندرة المائية، وبعضها دون حد الندرة المائية المطلقة، فيما تشير التقديرات إلى اتجاه حصة الفرد من المياه المتجددة للانخفاض بحوالي 20% بحلول عام 2030م؛ بسبب التغيرات المناخية والنمو السكاني وغيره من العوامل المرتبطة.
- تعتمد الدول العربية بشكل شبه كامل على الوقود الأحفوري، حيث يمثل كلُ من النفط والغاز الطبيعي 98.3% من استهلاكها من الطاقة، ما يمثّل عبئًا كبيرًا على الدول العربية فقيرة الموارد والاحتياطيات من هذه العناصر، كما يضعف إمكانات النمو الصناعي والقدرة الإنتاجية الضعيفين أصلاً، ويرفع تكاليف الإنتاج ومصاعب المنافسة مستقبلاً مع اتجاه العالم لتطوير مصادر أحدث وأرخص للطاقة، فضلاً عما يمثله ذلك من تهديد للموارد المالية للدول العربية المُنتجة لهما.
- تتفشّى الأميّة الأبجدية في كثير من الدول العربية، ناهيك عن الأمية التكنولوجية؛ ما يضعف نوعية وإنتاجية رأس المال البشري، كما يرفع من مخاطر التأخر عن مُستجدات الاقتصاد الحديث، فتبلغ نسبة الأمية بين البالغين 25% عام 2017م، والأخطر أن بعض الدول العربية لازالت تعاني من معدلات تسرّب تعليمي عالية تصل إلى 40% في السودان أحد أكبر الدول العربية سكانًا، واتساقًا مع هذا التأخر، سجّلت الدول العربية مكانة متواضعة على مؤشر “اقتصاد المعرفة”، فاحتلت الإمارات، أفضلها حالاً والأولى عربيًا، المرتبة 42 على مستوى دول العالم الـ 146 التي غطّاها المؤشر.
- يؤدي ضعف المنظومات الصحية في بعض الدول العربية، سواءً الوقائية أو العلاجية، ومعها الإنفاق الصحي (الذي يقل عن المتوسط العالمي البالغ 6% من الناتج المحلي الإجمالي)، لحالة من الانكشاف أمام التهديدات الصحية المُحتملة، بخاصة في الحالات الوبائية التي تصبح شديدة الخطورة في سياقات الدول العربية كثيفة السكان.
تواجهنا بعدها ثالثًا، مشكلات المستوى المؤسسي، المُتعلّقة بمدى التطوّر المؤسسي للدولة والبيروقراطية والسوق، تلك المؤسسات المعنية بتكوين القرارات الاجتماعية وتنفيذها، وتخصيص وتوزيع الموارد، والتي تتحدّد على أساسها كفاءة الدولة السياسية والاقتصادية؛ ومن ثم قدرتها على التخطيط للمستقبل، والاستجابة للتحديات والتهديدات المختلفة.
والمُلاحظ في هذا الشأن، أنه رغم الحرية الكبيرة للسلطات الحكومية العربية في مواجهة شعوبها، فإنها لا تعني الكثير حينما يحين الوقت لترجمة قراراتها إلى واقع سياسي أو اجتماعي، وبشكل جعل أداءها أضعف بكثير عندما يتعلق الأمر بالقوة غير المباشرة للدولة، كما هو الحال مثلاً في مجالات فرض القانون والنظام وتحصيل الضرائب وتحفيز القطاع الخاص على تنفيذ الخطط التنموية؛ ما جعل الدول العربية دولاً رخوة بتعبير عالم الاقتصاد السويدي جونار ميردال.
يُفاقم هذا الوضع ما تعانيه كثير من الدول العربية من ضعف في مؤشرات الحوكمة المؤسسية، بأبعادها الستة من مسائلة واستقرار سياسي ونوعية تنظيم وحكم قانون وكفاءة حكومية وسيطرة على الفساد، فسجّلت فيها جميعًا دون مستوى الـ 50% كمتوسط عام لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أما على المستوى الفردي فلا يبرز من بينها بأداء جيد نسبيًا سوى الإمارات وعمان وقطر.
أما عن مؤسسة السوق، فخلافًا لتخلّفها عمومًا، تعاني معظم الدول العربية من غلبة الاتجاهات الاحتكارية على الأسواق العربية، ما يؤدي فضلاً عن آثاره العامة السلبية، لهشاشة في الأوضاع الإنتاجية والاقتصادية؛ حيث يحمل ذلك التركّز السوقي احتمالات بالتقلبات المرتفعة في مدى توافر المنتجات الأساسية وفي استقرار الأسواق والحالة الاقتصادية عمومًا، حال تعرّض هذه المراكز الاحتكارية لأي صدمات مفاجئة داخلية أو خارجية، أو حتى سوء أو فساد إدارة كبير.
والآن، ما هى أهم التحديات الإستراتيجية في العقد الجديد؟
تلتقى بمواضع الضعف الهيكلية السابقة مجموعة من الاتجاهات الإستراتيجية المحلية والعالمية، التي قد تعمّق مشكلاتها، والتي تحتّم من جهة بناء مجموعة من الاستجابات المُسبقة لتطوراتها الطبيعية، كما تتطلّب من جهة أخرى مراقبة وحدات الاستخبارات الاقتصادية لما قد يدعمها من عمليّات استهداف نوعي وعمليّاتي (مما سبق ذكره في مقالنا السابق) لمواضع الضعف المتأثرة بهذه الاتجاهات، بما يدفعها للانفجار أو التدهور ، ومن أهم هذه الاتجاهات الإستراتيجية:
-
الاتجاهات الديموغرافية:
بما تحمله من مطالب مشروعة وأعباء جديدة على التنمية والبنية التحتية وفرص العمل، خصوصًا مع حالة الهبة الديموغرافية المتمثلة في الانفجار الشبابي ضمن الهرم السكاني العربي؛ ما يزيد حال عدم التجاوب المناسب مع مشكلات البطالة والفقر والتهميش والتدهور التعليمي والصحي والجريمة وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
-
مخاوف الركود العالمي:
بما تهدد به من ضعف في نمو الاقتصاد العالمي والمبادلات التجارية؛ فشيوع الركود في كافة الاقتصادات القومية؛ وتأثيرها بشكل خاص على الاقتصادات العربية المعتمدة على الخارج بشكل كبير، خاصًة المجموعة المصدرة للنفط.
-
التخلّي عن الوقود الأحفوري:
بما يعنيه من انخفاض الطلب على الصادرات الأساسية لمجموعة الدول العربية المصدرة للنفط؛ ومن ثم انخفاض أسعاره وعوائده بالعموم؛ ما يؤثر على النمو والموارد المالية بهذه الدول بشكل مباشر، وعلى الدول العربية المصدرة للعمالة بشكل غير مباشر.
-
منافسة الأسواق الناشئة:
ما يزيد من الصراعات على الموارد الإقليمية مثل مجاري المياه الإقليمية والدولية، كما يزيد من صعوبة موقف الصناعات العربية الضعيفة والمختنقة في أسواقها الصغيرة والفقيرة؛ ما يضعف إمكانات النمو الصناعي عمومًا، ويفرض مزيدًا من الأعباء والمتطلبات على خطط التنمية العربية.
-
انتشار أنظمة الذكاء الاصطناعي:
والتي رغم ما تعد به من مزايا وإمكانات، فإنها تفرض تحديات معقدة الحل على الاقتصادات المتأخرة خصوصًا، والتي ستعاني منافسة أشد مع الاقتصادات الأكثر تقدمًا ماديًا وبشريًا؛ ومن ثم استخدامًا لهذه التقنيات (بالأشكال المشروعة وغير المشروعة) من جهة، كما ستعاني مشكلاتً متزايدة في الجمع بين توظيف هذه التقنيات بتكاليفها المرتفعة محليًا ومواجهة مطالب التوظيف اللائق من الأجيال الشبابية متزايدة التدفق على ما سبق ذكره من جهة أخرى.
كيف يمكن أن تساعد الاستخبارات الاقتصادية في تقليص آثار تلك المخاطر؟
بفهم مواضع الهشاشة الهيكلية في الاقتصادات العربية، والاتجاهات الإستراتيجية المحلية والعالمية خلال المرحلة القادمة، تتبلّور في أذهاننا مهمة الاستخبارات الاقتصادية في دعم الأمن الاقتصادي، من خلال مراقبة وتأمين مواضع الهشاشة هذه، التي تمثّل ثغراتً مثالية لاستهداف الاقتصادات القومية، سواءً من خلال سياسات المنافسة الطبيعية للحكومات الأخرى، أو من خلال الممارسات الاستخباراتية التآمرية على المستويين النوعي والعملياتي.
وكما ذكرنا في مقالنا السابق حولها، لا تعالج الاستخبارات الاقتصادية مشكلات الاقتصاد واختلالاته ذاتها، فهذه مهمة مجالات أخرى، لكنها تحاول فقط توفير البيئة الآمنة لينمو ويستقر، كما تحيط ثغراته بحماية خاصة حتى يعالجها، فهى تعمل عمل اللفافات الطبية التي تقي الجروح من التلوث حتى تلتئم طبيعيًا أو تُعالج بالتدخل الطبي المنهجي، ما يعني في حالتنا الملموسة، المُتصلة بالاقتصاد، توفير حماية خاصة من محاولات الاستهداف الخارجي للاقتصاد الوطني، واستطلاع مُكثف لمواضع الضعف الاقتصادي استعدادًا للمخاطر المحتملة؛ حتى توفّر السياسات الاقتصادية علاجًا لها، سواء ضمن النمو التطوري الطبيعي للاقتصادات، أو من خلال التخطيط المنهجي الإستراتيجي لتجاوزها.
وهكذا تمثل الإشكالات السابقة، في استقلالها وتشابكها معًا، نقاط الانطلاق الأساسية لصياغة برامج أكثر تفصيلية لعمل الاستخبارات الاقتصادية العربية، وبذات التسلسل والمنهجية المذكورين في مقالتنا السابقة، مع مراعاة الترابط والتداخل بين مستويات عملها الثلاثة الإستراتيجي والنوعي والعمليّاتي.
المراجع:
جين هارغان، الاقتصاد السياسي للسيادة الغذائية في الدول العربية، ترجمة أشرف سليمان، عالم المعرفة الكويتية (465)، المجلس الوطني للثقافة والفنون الآداب، الكويت، أكتوبر 2018م.
نزيه الأيوبي، تضخيم الدولة العربية.. السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، ترجمة أمجد حسين، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، 2010م.
صندوق النقد العربي، التقرير الاقتصادي العربي المُوحد عام 2019م.
كيث كرين وآخرون، التحديات المستقبلية للعالم العربي.. تداعيات الاتجاهات الديموغرافية والاقتصادية، مؤسسة راند، 2011م.
Mohamed Sami Ben Ali [et al.] eds., Economic Develoment in the Middle East and North Africa..Challenges and Prospects, London: Palgrave Macmillan, 2016.