نتج عن التحولات الاستراتيجية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط منذ انتفاضات الربيع العربي 2011، تغير في قراءة خريطة التهديدات الأمنية والعسكرية خاصة في الدول التي يتمتع قادتها بخبرات عسكرية واستراتيجية ويأتي على رأس هذه الدول الإمارات. تواجه دولة الإمارات ثلاثة تهديدات ذات أولوية بالنسبة للمؤسسة العسكرية الإماراتية: أولًا مواجهة التهديدات الإيرانية في جميع أنحاء المنطقة بما في ذلك اليمن، ثانيًا والحفاظ على استقرار الوضع الإقليمي الراهن، ولا سيما ضد تهديد الجماعات الإرهابية، ثالثًا رغبة الإمارات في أن تصبح قوة عسكرية تعتمد بشكل متزايد على نفسها.
لقد بلور هذه التصورات الخبرات العسكرية لقادتها، وتأثيرها واسع النطاق في العديد من أزمات المنطقة. لذلك، اعتمدت الإمارات على استراتيجية مزدوجة تقوم على بناء التخطيط الاستراتيجي وقدرات تطوير القوة؛ والالتزام بالمبادئ الدولية للسلوك العسكري المحترف والمزيد من الشفافية والمساءلة لمواجهة التحديات الإقليمية كالصراع والاضطراب السياسي الناتج عن تغير هيكل القوة والانسحاب التدريجي للولايات المتحدة الامريكية من المنطقة.
استراتيجية الصناعات الدفاعية الإماراتية
تعتمد الاستراتيجية الدفاعية الإماراتية على الاستثمارات في بناء قدرات التخطيط الاستراتيجي بمنهجية متكاملة لتطوير الصناعة الدفاعية والتكنولوجية، ليس فقط من أجل بناء القاعدة الصناعية لدولة الإمارات وحسب، بل أيضًا لإطلاق المزيد من الفرص للإنتاج المشترك والتطوير مع الولايات المتحدة والشركاء الدوليين والإقليميين مثل الولايات المتحدة والسعودية ومصر. تتكون هذه الاستراتيجية من بعدين أساسين؛ هما عقد صفقات التسليح الأكثر تطورا خاصة في القوات الجوية “الذراع الأكثر تحديثًا في المنطقة”، وتعزيز المكون الصناعي المحلي من خلال شراكات طموحة لبناء قوة استراتيجية إماراتية جاهزة لمواجهة المخاطر في المنطقة.
تتجلى هذه الاستراتيجية في الرؤية التي أطلقها حاكم الإمارات الشيخ محمد بن زايد حول اعتماد العقيدة العسكرية الإماراتية بصورة أساسية على تسليح العناصر البشرية بالمعرفة والابتكار. اعتمد الشيخ محمد بن زايد هذه الرؤية منذ أن كان يشغل منصب ولي عهد أبوظبي بصورة استباقية حينما استثمرت أبو ظبي في قطاع الدفاع الإماراتي لتعزيز المصالح الاستراتيجية للدولة وتنويع الاقتصاد من خلال مجموعة “شركة الصناعات الدفاعية الإماراتية” (إيدج).
تأسست إيدج في 2019 لدمج أكثر من 25 كيانًا بما في ذلك شركة الإمارات للصناعات الدفاعية (EDIC)، ومجموعة الإمارات المتقدمة للاستثمارات (EAIG)، وتوازن القابضة، وغيرها. تبلغ إيرادات مجموعة إيدج أكثر من 5 مليارات دولار، ويعمل موظفوها البالغ عددهم 12000 موظفًا عبر خمسة قطاعات: المنصات والأنظمة، والصواريخ والأسلحة، والدفاع الإلكتروني، والحرب الإلكترونية والاستخبارات، ودعم المهام. صُنفت مجموعة إيدج ضمن أفضل 25 موردًا عسكريًا في العالم، وتمثل 1.3٪ من إجمالي مبيعات الأسلحة البالغة 361 مليار دولار، وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
لم يكتف التطوير في عمليات الصناعات الدفاعية على مجموعة إيدج، بل امتد الأمر الى تعزيز الحوكمة في عمليات التسليح بأنواعها حيث أصدر في فبراير 2021، قرارين بتعيين مجلس التوازن الاقتصادي (توازن) لإدارة المشتريات للقوات المسلحة الإماراتية وشرطة أبوظبي (التي تندرج تحت DCS المبيعات التجارية المباشرة) كما كلف القراران توازن بتنفيذ تنفيذ برنامج توازن الاقتصادي في قطاعي الدفاع والأمن كما يعد توازن أيضًا مسؤولًا عن إدارة ميزانيات المشتريات.
تشتري الإمارات العربية المتحدة معدات دفاعية من خلال المبيعات العسكرية الأجنبية (FMS) والمبيعات التجارية المباشرة (DCS)، أو من خلال الطرق الهجينة التي تحتوي العديد المبيعات الأجنبية والتجارية. وتمتلك دولة الإمارات العربية المتحدة حاليًا رابع أكبر محفظة من المبيعات العسكرية الأجنبية في العالم، مع أكثر من 100 حالة شراء تقدر قيمتها بأكثر من 29 مليار دولار. وتحظى القوات الجوية الإماراتية تقليديًا بنصيب الأسد من إجمالي ميزانية المشتريات الدفاعية، تليها القوات البرية، والحرس الرئاسي، والبحرية.
تشمل أولويات المشتريات لدولة الإمارات العربية المتحدة الدفاع الصاروخي رقائق دقيقة للاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR) والقيادة والسيطرة الخدمات اللوجستية الاستكشافية والصيانة والإصلاح والعمرة (MRO). تتوسع هيئة البنية التحتية الحرجة وحماية السواحل في دولة الإمارات العربية المتحدة (CICPA) بسرعة وهي مكلفة بحماية البنية التحتية الرئيسية مثل محطات تحلية المياه ومنصات النفط والغاز وخطوط الأنابيب وموقع البركة النووي. فيما تركز برامج التعاون الأمني على الدفاع الجوي والصاروخي المتكامل، وتحديث القوات الجوية، وإمكانية التشغيل البيني والوصول، ومكافحة الإرهاب، والعمليات البحرية.
تعزيز المكون المحلي في الصناعات الدفاعية
تكشف المشاريع المستقبلية لدعم رؤية أبو ظبي 2030، سعيها إلى تعزيز المركز العسكري المتقدم للصيانة والإصلاح(AMMROC) الذي بدأ كمشروع مشترك بين شركة مبادلة للاستثمار، وهي ذراع استثماري استراتيجي لحكومة أبو ظبي، والشركتين الأمريكيتين “خدمات سيكورسكاي للطيران” و”لوكهيد مارتن” اليوم أصبحت أماروك إحدى شركات مجموعة إيدج.
على مدى السنوات القليلة الماضية، أقامت الإمارات بضع شراكات لتطوير قدراتها المحلية. أعلن مجلس توازن مؤخرًا عن إنشاء خطين جديدين للأعمال الصناعية الدفاعية هما: العيارات النارية المتقدمة، والتي ستركز على تصنيع الذخائر غير الفتاكة؛ ونظم الحِصن المدرعة التي ستنتج معدات الحماية الشخصية. كما تستعين القوات المسلحة الإماراتية حاليًا ببعض أنشطة الخدمة العسكرية غير الأساسية، مثل صيانة الطائرات والمعدات والتدريب العسكري لمقاولين خاصين وحكوميين إماراتيين وغير مقيمين فيها؛ إذ يؤكد هذا الترتيب تركيز الإمارات على إضفاء الطابع المهني على الوحدات العسكرية الأساسية.
وفيما يتعلق بصناعة الطائرات المسيرة، التي تتوسع الإمارات في توظيفها بسبب الموقع الجغرافي في الخليج العربي في مواجهة إيران، ومعركتها ضد الحوثيين في اليمن، ركزت أبو ظبي على بناء قدرات عسكرية قوية وديناميكية بالاعتماد على المعرفة التكنولوجية، والتمويل القوي، والشراكات العسكرية والأمنية المتنامية، حيث أنشأت صناعة قوية للطائرات المسيرة تزود أبو ظبي بعمق استراتيجي إقليمي في هذا الجهد، لجأت الإمارات إلى الصين كمورد موثوق لتكنولوجيا الطائرات بدون طيار.
على سبيل المثال، في عام 2011، اشترت الإمارات خمس طائرات مسيرة من طراز وينج لونج 1 Wing Loong I من بكين واشترت وينج لونج 2 Wing Loong II في عام 2017. كما اشترت أبو ظبي 500 صاروخ بلو أرو-7 Blue Arrow-7 لتسليح طائرات وينج لونج 2 Wing Loong II، والتي ظهرت في ساحات القتال في ليبيا واليمن.
تسعى الإمارات لتكون مركزًا استراتيجيًّا لتطوير أنظمة الطائرات المسيرة التجارية التي ساهمت في النهاية في تعزيز الطائرات العسكرية المسيرة في الإمارات؛ حيث أنها منحت الأولوية لهذه التكنولوجيا. كما أطلقت العديد من المبادرات غير العسكرية للمساعدة في تطويرها، مثل جائزة الإمارات للطائرات المسيرة من أجل الخير، والتي استقطبت أكثر من 1800 مشارك من جميع أنحاء العالم.
كذلك فتحت الاتفاقيات الإبراهيمية آفاقًا جديدة لصناعة التكنولوجيا في الإمارات، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالطائرات المسيرة حيث تعاونت إسرائيل مع الإمارات في سد فجوة الطائرات المسيرة مع تركيا والاعتماد على قطاع تصنيع محلي قوي. لقد كانت إسرائيل في طليعة صناعة الطائرات المسيرة منذ الثمانينيات، وأصبحت أكبر مصدر لهذه التكنولوجيا في العالم، وأبرمت اتفاقيات مع قوى عالمية وإقليمية مثل أذربيجان والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وبولندا، هولندا وإسبانيا والهند.
لموازنة القوة مع تركيا وإيران في هذا الصدد، عملت الإمارات وإسرائيل بشكل مشترك لتطوير أساطيل الطائرات المسيرة. التزمت شركة إيدج الإماراتية بالتعاون مع شركة صناعات الطيران الإسرائيلية بشأن تطوير نظام مضاد للطائرات المسيرة مستقل تمامًا ومدعوم بالرادار ثلاثي الأبعاد وتكنولوجيا استخبارات الاتصالات والبصريات الكهربائية المدمجة في نظام قيادة وتحكم موحد.
كما تقوم الإمارات وإسرائيل الآن ببناء تحالف تقني يستفيد من المزايا النسبية لكل منهما: القيادة الإسرائيلية في تكنولوجيا الطائرات المسيرة والمضادة للطائرات المسيرة، والثقل المالي لدولة الإمارات العربية المتحدة وكفاءتها في توسيع القدرات التكنولوجية.
التدريب ونقل الخبرات الدفاعية
في الآونة الأخيرة، يعد التعاون في مجالات التدريبات ونقل الخبرات العسكرية أحد محركات السياسية الدفاعية الإماراتية؛ حيث تقدم القوات الإماراتية من الجيش والشرطة دعمًا تقنيًّا وفنيًّا للشرطة في بونتلاند منذ عام 2011، والشرطة الصومالية منذ عام 2018. وفي أفغانستان، عملت الإمارات على تدريب مجندين التحقوا بقوات النخبة الأفغانية لمكافحة التمرد منذ عام 2018، كما شاركت الإمارات ضمن حملة الناتو الدعم الحاسم التي نفذها الحلف في أفغانستان.
كما عملت الإمارات على زيادة انخراطها في منطقة غرب أفريقيا بهدف تعزيز نفوذها كقوة واعدة، خاصة في مجموعة دول الساحل الخمس مثل بوركينا فاسو وتشاد ومالي والنيجر، سواء من خلال الاستثمارات الاستراتيجية او تقديم الدعم التقني والفني العسكري لهذه الدول، حيث عملت على تدشين اكاديمية عسكرية في موريتانيا باسم كلية محمد بن للدفاع في 2016 ، تعمل على تدريب القوات المحلية لدول الساحل الخمس، كما قامت بتزويد مالي بعدد من طائرات تايفون وآليات مدرعة مصنعة داخل الإمارات، فضلًا عن تدريب القوات التابعة لمالي في الأكاديمية العسكرية لمجموعة دول الساحل الخمس عام 2020.
وفي مجال مكافحة التمرد، عملت الإمارات على تقديم التدريب والتعليم للقوات النظامية والقوات المحلية الهجينة على السواء، ما يكشف عن براجماتية استراتيجية ومرونة. فعلي سبيل المثال تم مأسسة بعض القوات المحلية مثل قوات الحزام الأمني وقوات النخبة الحضرمية، تحت إدارة وزارة الداخلية والجيش على التوالي، فتحوّلت إلى قوات هجينة وقد ساعدت هذه القوات العمليات الإماراتية في اليمن ضد تنظيم القاعدة.
علاوة على هذا، أنشأت أبو ظبي فرقة نسائية في عام 2018 من خلال تدريب جنديات عربيات لحفظ السلام في أكاديمية خولة بنت الأزور العسكرية للنساء. تجمع هذه المبادرة بين بناء القدرات وتعزيز الصورة الدولية، كما أنها تُشكّل جزءاً من الاتفاق الذي وقّعته وزارة الدفاع الإماراتية مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة من أجل زيادة أعداد المجندات في قوات حفظ السلام.
وتستهدف الإمارات من هذه الجهود تحويل أبو ظبي إلى مركز إقليمي للتدريب والتعليم في القطاع الدفاعي، كما تسعى إلى تعزيز صورتها القادرة على دعم استقرار الشركاء في المنطقة من خلال تقديم الدعم التقني والفني والتدريب العسكري، الأمر الذي يرسخ مكانة الإمارات الجيوسياسية وان تتحول إلى قوة نافذة خارج إطار مناطق نفوذها المباشرة، كما يعد التعاون في مجال التدريب العسكري مرتبط أيضًا بصورة البلاد على الساحة الدولية وسمعتها ومكانتها.
وأخيرًا، يجب على الإمارات العمل على تحويل الشراكة مع الولايات المتحدة إلى تحالف استراتيجي وذلك من خلال خلق فرص التطوير المشترك للتقنيات العسكرية الجديدة. وتتطلب هذه الشراكة تعزيز البروتوكولات الأمنية وجعلها تتماشى مع مستوى الشركاء الدوليين الآخرين.
ختامًا، حققت دولة الإمارات العربية المتحدة تقدمًا ملحوظًا في بناء إحدى أقوى القوات المسلحة في المنطقة على مدى العشر سنوات الماضية، ومع ذلك يتطلب تحقيق هدفها توسيع الشراكات وإضفاء طابع الاستدامة على هذه الشراكات مع دول مثل أستراليا وفرنسا والولايات المتحدة.