“إن عليهم [أي الروس] أن يواجهوا العديد من الخصوم. عليهم أن يتعاملوا مع الباسيفيكي، وعليهم أن يتعاملوا مع اليابان، وعليهم أن يتعاملوا مع الصين. وعليهم أن يتعاملوا مع جنوب آسيا الذي يتشكل من دول كثيرة.. إلا أنهم لن يهاجموا ما لم تقم بهذا أولاً. وعليهم أن يحصلوا على الشرق الأوسط وأوروبا، قد أن يتجهوا شرقًا، والشرق قد يستنزف كل قواهم”
ماو تسي تونج، 1973
“قد تكون روسيا صديقًا غير مفيد، لكنها قد تسبب أضرارًا مريعة كعدو”
فينزل أنطون فون كاونتز، أمير من الهابسبورغ
تبدو التحالفات في النظام الدولي الحالي أبعد ما تكون عن الصلابة، إذا يكتنفها التعقد والتركيب إلى أبعد حد. وعلى الرغم من التقارب الواضح بين الصين وروسيا على جبهات عديدة، خاصة فيما يتعلق بأزمة الأمن في شرق أوروبا، وتحدي الهيمنة الغربية المتراجعة على النظام الدولي، إلا أن النظر الأعمق لطبيعة العلاقات بين البلدين تشي أن هذا التقارب، على الساحة الأوراسية، يحد من تحوله إلى تحالف أوثق تاريخ من الصراع الخفي حول النفوذ في مناطق مختلفة، في وسط آسيا وغربي الباسيفيكي، ويمتد إلى داخل روسيا. تحاول هذه المداخلة فهم طبيعة التقارب “البراغماتي” بين الصين وروسيا في إطار الدبلوماسية الثلاثية، وكذلك استمرار عناصر المنافسة بين القوتين، ومدى تأثير الحرب الأوكرانية على هذه العوامل المتباينة.
أولا ً: الدبلوماسية الثلاثية في عالم متعدد الأقطاب
إبان الحقبة السوفيتية، تقاربت روسيا والصين إلى حد التحالف على أساس أيديولوجي شيوعي. إلا أن هذا لم يمنع تدهور العلاقات بينهما بعد سنوات قليلة على خلفية مطالب أرضية ونزاعات قومية عميقة الجذور. ووصل الأمر إلى حد المواجهة المسلحة والقطيعة الدبلوماسية (1956-1966). وهو الانقسام الذي استغلته الولايات المتحدة في عهد إدارة نيكسون لتبني علاقات مع الصين الشعبية في مواجهة السوفيت، ليؤسس هذا لمرحلة “الدبلوماسية الثلاثية”.
قام وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بهندسة الدبلوماسية الثلاثية، مستغلاً التنافس بين الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، لتعزيز الهيمنة الأمريكية من ناحية، ولإدارة الصراعات التي تخوضها واشنطن في مناطق تتماس مع البلدين، خاصة في فيتنام. الآن تعود الدبلوماسية الثلاثية، ولكن على نحو مفارق لتدور حول كيفية احتواء الصعود الصيني وما يمثله من مخاطر على الهيمنة الغربية المتآكلة، ودور روسيا التي تحاول استعادة نطاق السيطرة السوفيتية في الحرب الباردة الجديدة. وعلى النقيض من الدبلوماسية الثلاثية الأولى، تأتي الحالية في عالم متعدد الأقطاب وبه قدر كبير من السيولة والفوضوية والمرونة في صيغة التحالفات أو التفاهمات.
يذهب الاتجاه الواقعي في العلاقات الدولية، وعلى رأسه أستاذ العلاقات الدولية بجامعة شيكاغو جون ميرشايمر أنه من مصلحة القوى الغربية أن تكون روسيا جزءًا من تحالف أوسع في مواجهة الصين، وبالتالي لم يكن من الحكمة استهداف المجالات الحيوية للأمن القومي الروسي بتوسعة الناتو شرقًا، أو طرد نفوذها من مناطق مثل وسط آسيا والقوقاز، كما حدث في الدعم الغربي للثورات الملونة في الجمهوريات السوفيتية السابقة. يرتكز هذا الافتراض على أن حجم التناقضات بين روسيا والصين أوسع وأعمق بكثير من تلك الموجودة بين روسيا والغرب، خاصة مع تراجع الشيوعية الدولية التي كانت السبب الرئيس للانقسام العالمي إبان الحرب الباردة.
في المقابل، ترى التوجهات الليبرالية الغربية استحالة حدوث تقارب روسي غربي بسبب الطبيعة السلطوية للنظام الروسي الحاكم، وسياساته العدائية تجاه الديمقراطيات الغربية والتي تمثلت في ضلوع روسيا في التدخل في الانتخابات الأمريكية في 2016، وتحالف الاستخبارات الروسية مع القيادات الشعبوية اليمنية، وتسليح اللاجئين، فضلاً عن قمع أية محاولة لترسيخ الديمقراطية في الداخل الروسي واستهداف المعارضين اللاجئين إلى البلدان الغربية. لذا، فالحليف الأقرب لروسيا هو الصين، صاحبة النظام الاستبدادي الصارم القائم على حكم الحزب الواحد. يدلل هذا الاتجاه على نمو التحالف الصيني الروسي بالسلوك التصويتي لكلا البلدين في القضايا المتعلقة ببعض الصراعات في بلدان مثل سوريا والسودان.
في الواقع، فإن الاتجاه الليبرالي يحاول اختصار آليات العلاقات الدولية في صراع أيديولوجي جديد يدور حول “الديمقراطية”، ويتجاهل عمق تأثير “توازن القوة” والاختلالات الأمنية القائم في النظام الدولي الحالي، فضلاً عن استمرار “الإرث التاريخي” في تشكيل رؤى القوى الحالية.
يتضح هذا التفكير الاختزالي في تحليل الاتجاه الليبرالي لسلوك الصين تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا. وفقًا لهذا الاتجاه، فإن الصين أيدت التحركات الروسية في أوكرانيا، التي كانت في جزء منها، هجومًا على نظام ديمقراطي ناشئ، وكمحاولة لكبح توسع التوجهات الديمقراطية. بيد أن تتبع تطور الموقف الصيني من الحرب، يعكس حقيقة أكثر تركيبًا من هذا التصور، إذ يتراوح موقف الصين بين مخاوفها من مخاطر توسع الناتو والتحالفات الغربية في شرق أوروبا ومنطقة الهندي الباسيفيكي، وكذلك رفضها التدخل العسكري في شؤون الدول ذات السيادة.
ثانيًا: تطور موقف الصين من الأزمة الأوكرانية
قبل افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية، اجتمع الرئيس فلاديمير بوتين مع الرئيس الصيني شي جينبينج في بكين، 5 فبراير 2022. أكد الرئيس شي أن أفق التعاون بين روسيا والصين “بلا حدود” وأشار بيان الكرملين أن اللقاء بين الزعيمين خرج بعدة تأكيدات تمثلت في:
- رفض روسيا القاطع لاستقلال “تايوان” واعترافها بسيادة الصين عليها
- دعوة الصين الدولة الغربية لاحترام مخاوف روسيا تجاه توسع الناتو غربًا
- اتفاق الطرفين على تحالف “أوكوس” الثلاثي لما يمثله من مخاطر “واشنطن على أمن واستقرار منطقة الباسيفيكي-الهندي
مع احتدام الأزمة الروسية الأوكرانية، أكد وزير الخارجية الصيني “وانج يي” أن “مخاوف روسيا الأمنية مشروعة وينبغي النظر إليها والتعامل معها جديًّا.” ودعا وانج أثناء مشاركته في فعاليات مؤتمر ميونخ للأمن الدولي 22 فبراير 2022 جميع أطراف الأزمة بعدم الاتجاه نحو التصعيد وخلق الذعر. وذكر وانج أيضًا أن الصين تدعو لاحترام سيادة واستقلال جمع دول العالم وسلامة أراضيها، وأن أوكرانيا لا تمثل استثناءً في هذا الصدد.
وفي 31 يناير 2022، رفض مندوب الصين في الأمم المتحدة “شانج جون” ادعاء الولايات المتحدة بأن روسيا تمثل تهديدًا على الأمن الدولي، وانتقد شانج دعوة الولايات المتحدة لعقد مجلس الأمن الدولي لبحث القضية باعتبار أن هذه الخطوات تمثل “دبلوماسية الأبواق” ولا تحفز أي طرف على التفاوض. في الوقت نفسه، أكدت الصين على مبدئها الدبلوماسي الرافض للتدخل في شؤون الدول ذات السيادة والامتناع عن استخدام القوة المسلحة للتدخل. وبالتالي، لم تدعم الصين علنًا أو رسميًّا أية تحركات عسكرية روسية في أوكرانيا.
مع بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير 2022، وصف “شانج” العمليات العسكرية (حيث تمتنع الصين عن وصف العمليات بالغزو) بأنه مرحلة حرجة وأكد “أن على جميع الأطراف أن تتحلى بالصبر وأن تمتنع عن أي تصعيد للتوتر. وإننا نؤمن أن باب الحل السلمي ما زال مفتوحًا أمام الأزمة الأوكرانية. ونفت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية “هوا شونينج” في أعقاب العمليات العسكرية وجود أي تنسيق بين بكين وموسكو قبل العمليات العسكرية. وامتنعت الصين إلى جانب الهند والإمارات عن التصويت في مجلس الأمن الدولي (25 فبراير 2022) لمشروع قرار يدين العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا وهو ما أدى إلى سقوط المشروع بفيتو روسي وإحالته إلى الجمعية العامة، حيث امتنعت الصين، إلى جانب 34 دولة أيضًا عن التصويت للقرار الذي تم تمريره بأغلبية 141 صوت.
دعت بعض الأصوات في الغرب كذلك إلى قيام الصين بدور الوسيط لحل النزاع مفترضة إمكانية تأثير الصين على القرار الروسي. في الأسبوع الأول من القتال، طلب وزير الخارجية الأوكراني “ديمترو كوليبا” من وزير الخارجية الصيني “وانج يي” عبر محادثة هاتفية التدخل وعرض الوساطة لحل الصراع في بلاده. وأكد كوليبا أن دور الوساطة الصينية سيكون فعالاً في التوصل إلى وقف إطلاق النار. لم ترفض بكين التدخل بالوساطة، إلا أنها دعت إلى مفاوضات مباشرة بين أوكرانيا وروسيا دون أن تعرض وساطتها. جاء هذا في المكالمة التي قام بها “يي” مع وزير الخارجية الأمريكية “أنتوني بلينكين” (5 مارس 2022) وأعرب “وانج” عن أمله في انتهاء العمليات العسكرية في أقرب وقت ممكن وألا تقع أزمة إنسانية كبيرة.
في الوقت نفسه، تراقب الصين بحرص تأثيرات “سياسة العقوبات الغربية” ضد الاقتصاد الروسي. وأكد “جوو شوتشينج” رئيس اللجنة الصينية للمصارف والتأمين (3 مارس 2022) أن بكين لن تشارك في مثل هذه العقوبات وأنها ستستمر في الحفاظ على علاقات طبيعية في التجارة والتبادل المالي مع كل الأطراف. وذكر جوو أن الصين ترفض فرض العقوبات خاصة تلك التي تفرض بشكل منفرد إذا أنها تفتقد للأساس القانوني ولن تحمل أية تأثيرات إيجابية. وتذهب تقديرات إلى أن العقوبات المفروضة على القطاع المالي في روسيا، وإخراجها من نظام تبادل الرسائل البنكية SWIFT، لن يؤدي إلا لمزيد من التقارب الاقتصادي بين بكين وموسكو، فيما ستفيد الصين من تبادل الاعتماد بين الاقتصادين الروسي والصيني لمواجهة أية ضغوط غربية مقبلة.
كذلك قد تمثل العقوبات الغربية فرصة للصين للحصول مزيد من واردات النفط والغاز من روسيا بأسعار مخفضة (كما هو الحال مع صفقة الشراكة الاستراتيجية الإيرانية الصينية كما سيأتي). ما زالت روسيا تمثل ثاني أكبر مورد للبترول للصين (27.3 مليار دولار بما يمثل 15.5% من إجمالي واردات الصين). وأثناء زيارة بوتين الأخيرة لبكين تم التوقيع على صفقة بتوريد شركة “روسنفت” ل100 مليون طن من البترول إلى الصين عبر كازاخستان خلال العقد المقبل، وتوريد شركة “غازبروم” لما قيمته 117.5 مليار دولار خلال العقود الثلاثة المقبلة. كما تعهد الرئيس بوتين بالتعاون مع الصين لتوفير إمدادات “الهيدروجين”.
ثالثًا: “الغموض الاستراتيجي” تجاه تايوان، نحو بناء تحالف مع روسيا؟
يعتبر عامل تايوان، أو بالأحرى مدى تغير سياسة الولايات المتحدة تجاه تايوان محددًا رئيسًا لموقف بكين من الغزو الروسي لأوكرانيا، وكذلك مدى التقارب في العلاقات بين الصين روسيا، في إطار المواجهة مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة. قبل الغزو، حاولت العديد من الأصوات الغربية مقارنة موقف روسيا من أوكرانيا بموقف الصين من تايوان، وحذرت أن نجاح روسيا في تحركاتها العسكرية قد يشجع الصين على القيام بخطوات مماثلة في تايوان. وهو التوجس الذي ازدادت وتيرة التعبير عنه مع وقوع الغزو مع تصوير الصين كمتعاطف أو كمحرض لروسيا.
دفع هذا التوجس واشنطن للزج بقضية تايوان سواء في معرض الحديث عن تطور الوضع في أوكرانيا، أو ترتيبات الأمن، الموجهة ضد الصين، في الهندي الباسيفيكي. لقد ارتكزت السياسة الأمريكية تجاه تايوان على أساسين؛ الأول هو الالتزام العلني بسياسة “الصين الواحدة” والثاني هو ممارسة “الغموض الاستراتيجي”. وإذا كان الأساس الأول يشير إلى الاعتراف بحكومة بكين في الأرض الأم باعتبارها الممثل الرسمي والشرعي للحكومة الصينية، فالثاني يشير إلى تعمد بناء موقف غامض حول مدى التزام واشنطن بالدفاع عن تايوان في حال غزو الصين لها.
هدفت سياسة الغموض الاستراتيجي تحقيق هدفين؛ الأول ردع حكومة تايبيه عن إعلان الاستقلال عن جمهورية الصين الشعبية، والثاني ردع بكين عن التفكير في غزو تايوان. في مايو، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن وجود صلة مباشرة بين غزو روسيا لأوكرانيا وخروقات الصين للمجال الدفاعي الجوي لتايوان، وأكد في مؤتمر صحافي مع رئيس الوزراء الياباني في 23 مايو أن هناك احتمالاً لإمكانية غزو تايوان “بالقوة”، وأشار إلى التزام واشنطن بالدفاع عنها في حال وقوع غزو صيني. إلا أن الخارجية الأمريكية سرعان ما خففت من وطأ هذه التصريحات على العلاقات المتوترة أصلاً بين الصين والولايات المتحدة وأشارت إلى أن تصريحات الرئيس بايدن لا تعني تغير موقف واشنطن من تايوان.
كذلك. كانت تايوان محور أزمة دبلوماسية بين الصين والاتحاد الأوروبي في بداية 2021، مع محاولة ليتوانيا لرفع مستوى الدبلوماسي مع حكومة تايوان، وهو ما أدى إلى طرد دبلوماسيين ليتوانيين من الصين، وفرض عقوبات على فيلنيوس. وإذا ما أضفنا إلى المشهد عوامل مثل اتجاه القوى الغربية لفرض عقوبات على مسؤولين صينيين بذريعة تورطهم في قضية مسلمي شينجيانج “الإيغور”، وتشكيل الولايات المتحدة لحلف “أوكوس” الموجه ضد الصين في “الهندي-الباسيفيكي”، وآلية التفاهم الرباعي مع اليابان والهند وأستراليا، وإشارة وثيقة الناتو 2030 إلى الصين كخصم دولي، فإن الأمور قد تتجه نحو تطابق وجهات النظر بين الصين وروسيا فيما يتعلق بأوكرانيا وغيرها من الملف.
على العكس من اللجوء إلى الحلول العسكرية، الدفاعية أو الهجومية، فإن الصين ما زالت ملتزمة بالتقليد الإمبراطوري الذي يؤكد “استخدام البرابرة ضدهم بعضهم البعض.” يعني هذا أنه في حال وجدت الصين نفسها محاصرة بالضغوط الأمريكية والغربية، فإن سلاحها الأمضى سيكون استخدام الأزمة في أوكرانيا لإشعار الغرب بالتهديد واستحالة تأمين الناتو لمحوره الشرقي، وهو ما يتلاقى تمامًا مع وجهة النظر الروسية التي حاولت التهديد الغربي لموسكو لحرب شاملة قد تتوسع أدواتها في حال استمرار السياسة الغربية المصرة على “هزيمة روسيا” أو إزالة النظام الروسي من المشهد.
رابعًا: تنافس روسي صيني محتمل؟
لعل أهم العناصر المشتركة بين الرؤية الصينية والروسية للعالم هو حجم تأثير وموقع الإرث التاريخي في رسم سياسة البلدين. ومن هذا العامل المشترك، ينبع التخوف والحذر في العلاقات بين موسكو وبكين. ترى الصين أن روسيا القيصرية، عندما كانت جزءً من الغرب الإمبريالي، قد شاركت فيما يعرف “قرن الإذلال” للإمبراطورية الصينية. وقع هذا عندما توسطت روسيا بين بكين وبريطانيا وفرنسا إبان حرب الأفيون الثانية في 1860، واستغلت الموقف العسكري المتراجع لإمبراطورية “المانشو” لتجبرها على توقيع معاهدة “آيجون” لإعادة رسم الحدود بما يسمح لروسيا للسيطرة على كل المنطقة الجبلية الواقعة شرق نهر “آمور” الفاصل بين مانشوريا وسيبريا، ثم توقيع معاهدة بكين في 1860 والتي مكنت روسيا من السيطرة على كل السواحل الدافئة للباسيفيكي. ولتأكيد سيطرتها على المنطقة، أسست روسيا مدينة فلاديفوستك في العام نفسه.
أسست هذه المعاهدات غير المتساوية للحدود الحالية بين البلدين التي تبلغ 2738 ميلاً، إذا ما استثنينا أيضًا منغوليا الخارجية الواقعة سابقًا في نطاق الإمبراطورية الصينية. ترى الصين اليوم أن المنطقة شمال الحدود الحالية ليست إلا امتدادًا لمنشوريا التاريخية، وأن سكانها البالغ عددهم حوالي 6 ملايين هم امتداد لحوالي 90 مليون صيني في جنوب آمور. كما أنهم أقرب ثقافيًّا واجتماعيًا إلى بكين منهم إلى موسكو التي تبعد عنهم بآلاف الأميال.
تسعى الصين استراتيجيًّا إلى استعادة نطاق سيطرتها الإمبراطورية القديمة، التي تشكل حاليًا نطاق أمنها الحيوي. وعلى العكس من هونج كونج (استعادتها الصين من بريطانيا في 1997) ومكاو (استعادتها الصين من البرتغال في 1999) في وتايوان التي كان يوجد مسوغ قانوني لسيادة الصين عليها، لا يوجد حاليًا أساس قانوني لاستعادة المناطق شمالي منشوريا وجنوب سيبيريا. لذا، فالبديل الأنسب هو تعزيز النفوذ الاقتصادي والديمغرافي في هذه المنطقة.
اتجهت موسكو للإفادة من التطلعات الاقتصادية الصينية في المنطقة، فتعاونا عام 2012 على تأسيس الصندوق الاستثماري الصيني الروسي برأس مال يصل إلى 700 مليون دولار، كما ساهم الطرفان في إنشاء خطوط نقل للغاز الطبيعي وسكك حديدية لنقل الثروات المعدنية والفحم إلى الصين. مع ذلك، تتوجس موسكو من التحركات الصينية، لذا، عملت في الآونة الأخيرة على فرض قيود على التحركات الديمغرافية والتجارية. لذا عقدت السلطات الروسية التي تتحدث عن “الشرق الأقصى الروسي” كأولوية تنموية منتدى اقتصادي في 2015 في محاولة لتشجيع الاستثمارات غير الصينية في المنطقة من دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وفييتنام.
ليس من الواضح مدى نجاح سياسة روسيا في حماية سيبيريا من توغل النفوذ الصيني. كما أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو بسبب الصراع في أوكرانيا، قد تقلص فرص “المنافسة على موارد سيبيريا” من خلال شركات وقوى اقتصادية غير صينية، وهو ما يعني زيادة اعتماد روسيا بشكل عام على طلب الصين للطاقة والموارد الطبيعية لتعويض الآثار السلبية للعقوبات.
فضلاً عن سيبيريا، فإن وسط آسيا بجمهورياته الإسلامية يمثل منطقة خصبة للتنافس بين روسيا وفرنسا. تنظر روسيا إلى المنطقة باعتبارها منطقة تأثير جيوسياسي وثقافي طبيعية نظرًا لطبيعة علاقاته المنطقة بالاتحاد السوفيتي السابق، ووجود ثقل ديمغرافي وثقافي روسي، فضلاً عن أهميتها الدائمة في تكوين عمق استراتيجي لموسكو ومعبر لمصالح روسيا مع جنوب آسيا والشرق الأوسط. أما الصين، فترى في المنطقة جزء رئيس في طريق الحرير القديم، ومعبر لتجارتها الحالية مع الغرب من خلال مبادرة الحزام والطريق، كما أنها امتداد جغرافي وسكاني لمقاطعة “شينجيانج”. نجحت بكين مؤخرًا في فرض وجودها الاقتصادي في المنطقة، عبر مشروعات البنية التحتية ونقل الطاقة، إلا أنها تتحرك بحرص شديد خشية إثارة موسكو الأمنية. في الوقت نفسه، اتجهت موسكو للتأكيد على حضورها الاقتصادي من خلال تأسيس “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي” في 2014 والذي يضم بعض الجمهوريات السوفيتية السابقة. وعلى الرغم من أن هذا الاتحاد غير فعال، مقارنة بالحزام والطريق، إلا أنه يؤكد سعي موسكو لمواجهة النفوذ الصيني المتنامي في وسط آسيا.
خامسًا: مسارات مستقبلية
ختامًا، لا شك أن نتيجة الحرب في أوكرانيا وتأثيرها الواسع على القوة الاقتصادية لروسيا وفاعلية قوتها العسكرية سيمتد تأثيرها على ديناميات العلاقات بين روسيا والصين. إذ أن خروج روسيا منتصرة من الحرب مع أوكرانيا سيعني إضافة هائلة لموقفها التفاوضي مع الصين في مواجهة الغرب، وإمكانية بناء تحالف متساوٍ مع الصين. كذلك، سيؤدي تراجع روسيا أمام الضغط العسكري والأمني الغربي، أو هزيمتها العسكرية في أوكرانيا، إلى مزيد من اعتمادها على الصين وربما الدخول في تحالف معها ولكن على أساس غير متساوٍ وربما تابع.
يتركنا هذا أمام عدة مسارات مستقبلية للعلاقات بين القطبين:
- بناء تحالف أوراسي أوسع يقوم على تقسيم المهام بين روسيا والصين؛ بحيث تقود بكين هذا المحور اقتصاديًّا، فيما تركز روسيا على دور أمني أوسع. مثل هذا التحالف يحقق مصلحة الطرفين؛ إذ يعفي بكين من الانشغال بالمسائل الأمنية خارج نطاق أمنها القومي المباشر؛ ويزيد من قوة الصين الجيوسياسية في مواجهة تحالف أوكوس والتحالف الرباعي الذي تقوده الولايات المتحدة في “الهندي-الباسيفيكي،” فيما تضمن موسكو استمرار التعاون الاقتصادي بين البلدين وتدفق الاستثمارات الصينية في قطاع الطاقة والموارد الطبيعية داخل روسيا.
- بناء تحالف أوراسي أوسع تقوم فيه روسيا بدرو تابع للصين، إلا أن هذا يتناقض مع رؤية روسيا، خاصة في ظل قيادتها الحالية وريثة روسيا القيصرية والسوفيتية باعتبارها قوة دولية مستقلة غير تابعة. كما أن الشرط الرئيس لتحقق هذا المسار هو حدوث هزيمة عسكرية شاملة لروسيا، وهو ما يتناقض مع منطق وتاريخ القوى الدولية، أو حدوث اضطرابات داخلية عميقة تقوض البنية العسكرية والاقتصادية للدولة، وهو ما لا توجد عليه مؤشرات في الوقت الحالي. والاحتمالية الوحيدة لهذا السيناريو ستكون قصيرة زمانيًّا وتشبه فترة حكم يلتسن في التسعينيات.
- انقسام المحور الأوراسي بفعل نجاح القوى الغربية في إبعاد روسيا عن الصين من خلال إدماجها في المنظومة الأمنية الغربية. يعوق تحقق هذا السيناريو عوامل تاريخية وجيوسياسية عميقة تتمثل في صعوبة تقبل التحالف الغربي لروسيا “كما هي” كشريك أمني في مواجهة الصين، فضلاً عن العوامل المتعلقة بالخوف الغربي المتأصل من روسيا ككيان حضاري وثقافي مميز ومختلف في قيمه وتاريخه عن الغرب وهو ما يعرف بـ”الروسوفوبيا”
- استمرار ديناميات التعاون/ التنافس بين روسيا والصين، ويدعم هذا السيناريو البنية متعددة الأقطاب للنظام الدولي في مرحلة تآكل الهيمنة الغربية. وعدم تعارض الأولويات الأمنية لدى البلدين، فالأولوية الأمنية لروسيا ما زالت في شرق أوروبا والقوقاز، والأولوية الأمنية لدى الصين هي في بحر الصين الجنوبي، فضلاً عن حجم المصالح الاقتصادية بين البلدين. وبالتالي ستستمر العلاقات بين البلدين في شكل تعاون لا يرقى للتحالف، ومنافسة لا تنحدر إلى مستوى الصراع المباشر.