كغيرها من أنواع الاستخبارات، تستهدف الاستخبارات الاقتصادية تحقيق الأمن القومي، لكن في شقّه الاقتصادي بالأساس، أي الأمن الاقتصادي، ما برز بخاصة وزادت أهميته في العصر الحديث الذي تقدّم فيه المجال الاقتصادي ليتصدّر المشهد الاجتماعي وتزداد قوة تفاعلاته مع المجال السياسي، ليصبح أحد أهم نطاقات الصراع بين الأمم، ما تجلّى بشكل خاص في بروز تخصصات نظرية وتطبيقية جديدة، ضمن الطيف الواسع من علوم السياسة الدولية والجيوسترتيجية، يتركّز اهتمامها على البُعد الاقتصادي الإستراتيجي لوجود وعمل الدولة، وعلاقاتها بغيرها من الدول، مثل الاقتصاد السياسي الدولي Global Political Economy والجيوكونوميكس Geoeconomics والتي تمثّل القاعدة النظرية لعمل الاستخبارات الاقتصادية كممارسة تطبيقية.
ما هو السياق التاريخي لنشأة الاستخبارات الاقتصادية؟
رغم أن الاقتصاد العالمي كظاهرة عامة ليست جديدة كليًا، إلا أنها لم تستقر وتنجح في الاستمرار إلا مع نشأة النظام الرأسمالي، فكما يشير إيمانويل واليرشتاين مؤسس نظرية الأنظمة العالمية، انهارت كافة الاقتصادات العالمية أو تحوّلت لإمبراطوريات عالمية، ووحدة الاقتصاد العالمي الحديث الذي بقي واستمر لفترة طويلة؛ بسبب استقرار النظام الرأسمالي فيه، في مرحلتيّ المركزية البريطانية والأمريكية.
ويمكن القول أن سبب هذا النجاح الاستثنائي هو الحاجة المتبادلة بين الاقتصاد العالمي والنظام الرأسمالي، فمن جهة يحتاج الاقتصاد العالمي لنظام “تقسيم عمل” تدعمه منظومة سياسية متعددة الدول، ومن جهة أخرى يحتاج مُنتجو النظام الرأسمالي لـ”أسواق كبيرة”، لكن ليس لدرجة تكوّن وحدات سياسية “إمبراطورية” تؤدي لتجاوز قوة السياسيين لقوتهم وغلبة أولويات السياسة على أولويات الاقتصاد.
يرتبط بذلك كذلك، التقاء المصالح بين مؤسستي الدولة والسوق على إدامة الهيمنة على فوائض القوة والقيمة؛ فلا تريد الدولة سوقًا خارجة بالكامل عن سيطرتها، ولا يريد رأس المال سوقًا حرة بالكامل فعليًا؛ إذ لو وُجدت تلك السوق الحرة حقًا؛ لامتنع التراكم غير المتناهي لرأس المال؛ وهكذا تريد الدولة تأثيرًا في السوق داخليًا، فضلاً عن مصلحتها ومصلحة رأسمالها القومي خارجيًا، كما يريد رأس المال قدرًا من الاحتكار بدعم الدولة داخليًا وخارجيًا لحفظ مستويات الربح من التدهور الطبيعي حال غلبة المنافسة حقًا.
مع اتساع نطاق العولمة وتعمّق مفاعيلها في النظام الدولي، من الوجهة الاقتصادية بالأخص، أن زادت أهمية هذا الالتقاء في المصالح بين الدولة والسوق؛ فزادت الأهمية النسبية للعامل الاقتصادي في توليفة الأمن القومي بعامة، أي تعاظمت أهمية الأمن الاقتصادي، سواءً في شقه البنيوي المتعلق بموقع الدولة ضمن النظام العالمي (نمط نموها ومبادلاتها الحالي)، أو الحركي المُتصل بمحاولاتها تحسينه (شكل سياساتها الإستراتيجية).
هذا التصاعد في أهمية الأمن الاقتصادي هو ما بلّور الاهتمام المتزايد بالاستخبارات الاقتصادية كنوع مختلف من الأعمال الاستخبارتية، ويبرز هذا الاهتمام الاستخباراتي بشكل خاص في الدول المركزية الأكثر تقدمًا، فيُذكر مثلاً أن ثلث مُحلّلي المخابرات المركزية الأمريكية تقريبًا كانوا من المتخصصين بالقضايا الاقتصادية، حتى تجاوز تركّزهم بها مثيله بأي جهة حكومية أخرى على المستوى الفيدرالي، كما يُذكر طلب الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش من مستشاره للأمن القومي ومستشاره الاقتصادي “تشارك المكاتب”؛ لتنسيق السياسات الخارجية الأمريكية مع إستراتيجيتها الاقتصادية.
فيم تعمل الاستخبارات الاقتصادية؟
حيث يعني الأمن الاقتصادي، بتعريف صمويل بورتيوس، بـ “تأمين الظروف المواتية داخليًا وخارجيًا لدعم النمو المُستدام للاقتصاد والتحسّن النسبي طويل الأجل في إنتاجية العمالة ورأس المال، مع تأمين بيئة أعمال آمنة وعادلة وديناميكية تحفز التجديد والاستثمار المحلي والأجنبي؛ بما يصبّ في النهاية في التحسّن المستمر في مستويات معيشة المواطنين”، وحيث يعتمد بقوة على الاستقرار السياسي والموقف الاقتصادي الكلي؛ فإن الاستخبارات الاقتصادية هى الأداة المعلوماتية المعنية بتوفير الحماية لكل ذلك من أيّة تهديدات مُحتملة، أيًا كان طابعها الأوّلي، اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، وذلك من خلال ثلاثة أنواع أساسية من الممارسات الاستخباراتية:
الأولى: التحليل الاقتصادي الإستراتيجي، وهو المُتماس مع الممارسة العلمية التقليدية لهذا التحليل، لكن من منظور طويل الأجل من جهة، وجيوستراتيجي من جهة أخرى، وهكذا يركّز اهتمامه على استشراف التحوّلات البنيوية بما لها من آثار مُحتملة على الأمن الاقتصادي وكيفية الاستعداد لها، ومن أهمها:
- اتجاهات التغيّر الهيكلي محليًا، والتي ترتبط بمرحلة تطوّر الاقتصاد القومي، وما يُتوقع أن يجري عليه من تطورات جذرية، من جهة تكوينه القطاعي وتشكيلة موارده الأساسية وجسمه الديموغرافي، بما لها جميعًا من آثار على كفاءة وكفاية رأس المال الاجتماعي واستدامة النمو الاقتصادي والقدرة التنافسية للدولة ومستوى المعيشة ..إلخ،
- اتجاهات التغيّر الهيكلي إقليميًا وعالميًا، وتمثل بحث ذات المتغيرات السابقة على المستويين المذكورين، لكن بالأساس من منظور تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد الوطني بخاصة والوضع الاستراتيجي للدولة بعامة، بما له من آثار على موقع الدولة من تراتبية النظام العالمي ومنظومة تقسيم عمله وسلاسل القيمة العالمية ووتيرة واتجاهات المنافسة،
- الدورات الاقتصادية الكبيرة، وتحديدًا متوسطة وطويلة الأجل ذات التأثيرات الجذرية على مُجمل عمل الاقتصاد وقطاعاته الأساسية، وحدود آثارها وإمكانات تقليصها أو تحويلها في اتجاهات أقل تكلفًة،
- التحوّلات السياسية والبيئية والتكنولوجية الجذرية، وتحديدًا ما يتماسّ منها مع المصالح الاقتصادية الإستراتيجية للدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، بما يُحتمل عنها من فرص وتهديدات يجب الاستعداد لها، مثل أشكال التكامل الاقتصادي والتجاري الإقليمية والدولية بما ترتبه من آثار على حرية الوصول للأسواق والموارد، وما تحمّله التغيّرات البيئية والمناخية من مخاطر اقتصادية واجتماعية، وما تخلقه التطورات التكنولوجية من تهديدات للمزايا النسبية للاقتصاد الوطني ..إلخ.
الثانية: التجسّس النوعي (المالي والسوقي)، ويتعلّق بجمع المعلومات والتنبيه للمخاطر المُحتملة من تحرّكات المنافسين الدوليين والجريمة الاقتصادية والمنظمة بأشكالها المختلفة، مثل الممارسات السوقية والتجارية غير المُنصفة كالإغراق والاحتكار والدعم الحكومي الخفي للشركات المنافسة وما شابه، وتحرّكات رؤوس الأموال الساخنة وغير المشروعة، وعمليات المضاربة على العملة والسلع الإستراتيجية، وممارسات غسيل الأموال والسوق السوداء والتهرّب الضريبي العابرة للحدود، ومصادر وقنوات تمويل التنظيمات المُعادية المشروعة منها وغير المشروعة، وما إلى ذلك.
الثالثة: التجسّس العمّلياتي (السياسي والعسكري)، وهو المتقاطع مع الأشكال التقليدية من الاستخبارات السياسية والعسكرية، في نطاق ما يمكن وصفه بالإرهاب الاقتصادي، حيث يتعلّق برصد واستباق الأعمال التخريبية التي قد تنفّذها مخابرات أجنبية أو تنظيمات إرهابية استهدافًا للمصالح الاقتصادية للدولة، خاصًة ما يتصل منها بالأمن القومي أو ما يتسم بالانكشاف والهشاشة النسبيين، مثل الأمن الزراعي والغذائي والبيولوجي، والمؤسسات الحيوية كالسدود المائية ومحطات الطاقة، والقطاعات سريعة التأثر بالأحداث السياسية والأمنية كالسياحة وما شابه.
وكما نرى، تعمل تلك الممارسات الثلاثة على المستويات الثلاثة للواقع الاجتماعي والسياسي، بكافة وجوهه المحلية والإقليمية والعالمية، أي مستويات البنية العامة (من تغيّرات ودورات هيكلية وتحوّلات جذرية)، والديناميات الكلية (من تحرّكات مصلحية طبيعية غير تآمرية من اللاعبين الاقتصاديين)، والعملياتية الخاصة (من أعمال الإرهاب الاقتصادي بخاصة)، ليتفق جميعها في الجانب المعلوماتي والتحليلي، ويختلف في الجانب العملي والتنفيذي من جهة أدواته ومدى دفاعيتها أو هجوميتها، وعلنيتها أو سريتها، وقانونيتها أو عدم قانونيتها ..إلخ، والأهم يختلف في حدود قدرته على التأثير في معطيات تلك المستويات ومواجهة مخاطرها المحتملة.
كيف تعمل الاستخبارات الاقتصادية؟
لا تعدو الاستخبارات الاقتصادية كونها أداة مساعدة، فهي معنية بتوفير الأمن للاقتصاد لا غير، ما يعني أنها لا تعالج المشكلات الاقتصادية والاجتماعية نفسها، فهى لا تتعامل بشكل مباشر مع مشكلات العجز الهيكلي في الاقتصاد ونمط نموه، ولا الانحراف المُزمن في الديناميات الاقتصادية الكلية، ولا الفشل التكّويني والانحيازات الاجتماعية في السياسات الاقتصادية الحكومية، فهذه كلها مما يدخل في مستويات أعمق من البُنى الاجتماعية والسياسية، تعني بها مجالات علمية وتطبيقية أخرى، كما تخرج عن نطاق العمل الدقيق والمشروع للأجهزة والجهات المعنية بالاستخبارات عمومًا.
جُلّ ما يمكن أن تقدمه الاستخبارات الاقتصادية، وهو مهم بما يكفي، هو التنبيه والإنذار المُبكرين بالفرص والمخاطر المُحتملة؛ بغرض حماية الأمن الاقتصادي القومي، وتأمين المسارات الإستراتيجية لخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية طويلة الأجل، ودعم موقف الدولة التنافسي ضمن النظام الاقتصادي والسياسي العالمي.
وهو ما يعني التركيز على استباق الأزمات على المستويات الثلاثة المذكورة، بالتحليل المُستمر للمعلومات التي يتم جمعها، والتنبيه المُبكر للجهات المعنية باتخاذ ما يلزم، من خلال ما يُقدم من توصيات علاجية ودفاعية وإستراتيجية، بعد استشارة الجهات البحثية الأكثر تخصصًا في مجالات ونطاقات المشكلات المعنية والتهديدات المُحتملة.
وهو ما يتأتى بتطوير وإدماج نظم للإنذار المبكر في مجال الاستخبارات الاقتصادية، تعمل على توظيف مراحلها الأربعة في التفعيل العملي لهذا الاستباق الضروري للأزمات، وهى:
- الاستشراف المُستمر للمخاطر: من خلال عمليات تحليل الاتجاهات طويلة الأجل، والمعلومات الناتجة عن عمليّات التجسّس النوعية والعملياتية، وفهم الآثار المباشرة وغير المباشرة للتغيّرات والتحرّكات المُستجدة باستمرار في المحيطين المحلي والإقليمي خاصًة للدولة،
- المراقبة والإنذار المُبكرين: بتطوير مؤشرات ومجسّات استقبال وتقييم للمخاطر؛ بما يكفل المتابعة المستمرة لحدودها الآمنة، والتقاط النقاط الحرجة والانتقالات التدريجية والمفاجئة لمستويات الخطر والتهديد،
- النشر والاتصال السريع: بإيجاد قنوات اتصال مستمرة في الاتجاهين بين أجهزة الاستخبارات والبحث العلمي والتقني من جهة لتطوير التحليلات والتوصيات من جهة، وبينها وبين الأجهزة التنفيذية الحكومية واللاعبين الإستراتيجيين في الأجهزة التنفيذية والاقتصاد القومي لتنفيذ التوصيات والاستجابات الضرورية لمنع التهديدات المُتوقعة أو تقليل آثارها السلبية حال حدوثها،
تطوير قدرات الاستجابة الفعّالة: بإعداد خطط استجابة جاهزة وخطط بديلة حال تحقّق المخاطر المُتوقعة، مع التدريب المستمر على تنفيذها وإعداد الكوادر الضرورية للتنفيذ في الجهات المعنية.
مع التأكيد على اختلاف شكل تطبيق مراحل هذه النظم وأوزانها النسبية واللاعبين المُنخرطين في تنفيذها بحسب المستوى الذي يجري التعامل معه ونوعية التهديد المعني.
المراجع
1- روبرت غيبلين، الاقتصاد السياسي للعلاقات الدولية، مركز الخليج للأبحاث، دبي، 2004م.
2- نظم الإنذار المبكر بالأخطار المتعددة.. قائمة مرجعية، المؤتمر الأول للإنذار المبكر بالأخطار المتعددة، 22/23 مايو 2017م، كانكون، المكسيك.
Evan H. Potter (Ed.), 3-Economic intelligence and national security, Carleton University Press & The Centre for Trade Policy and Law, 1998.
Valentyn Levytskyi, Economic intelligence of the modern state, Master’s Thesis, NAVAL POSTGRADUATE SCHOOL, Monterey, California, March 2001.