تسود عالم اليوم حالة من القلق؛ إثر مخاوف تمّس الأمن الغذائي بسبب توابع الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، فيما تتضاعف هذه المخاوف في الدوّل العربية والأفريقية التي لم تتعاف بعد من الأزمة الاقتصادية التي أعقبت الإغلاق الشامل أو الجزئي بسبب وباء كورونا، تلفت دولة الإمارات العربية المتحدة أنظار المجتمع الدولي بسبب ما تننتهجه من سياسات خاصة بالأمن الغذائي، يجعلها في صدارة الدول الأفضل إدارة لتلك الأزمة.
وفيما تمثل الصادرات الغذائية من الخارج أكبر مصدر للإمدادات الغذائية، تحاول الإمارات خلق مستقبل آمن غذائيًا، وهي مهمة شاقة للغاية في ظل الظروف الجغرافيّة للدولة، لذا فإنّ الزراعة الذكية هي طريق الإمارات إلى الأمام لتحقيق أمنها الغذائي.
تنبع أهمية الأمن الغذائي لدولة الإمارات العربية المتحدة من النمو السريع للاقتصاد والسكان الذي أدى إلى زيادة الطلب على الغذاء. تعيق القيود البيئية والعوامل الفنية الأخرى إنتاج الغذاء الكافي عن طريق الزراعة المحلية في البلاد، ويعد تضاؤل المياه الجوفية بسبب السحب المفرط وتدهور جودتها المرتبطة بالملوحة من بين التهديدات الرئيسة للإنتاج المحلي.
في حين أن الإمارات العربية المتحدة قادرة على تحمل تكاليف استيراد المواد الغذائية والاعتماد على الواردات لأكثر من 85٪ من احتياجاتها، فإن أي صدمات إقليمية أو دولية لنظام تجارة الأغذية العالمي مماثلة لتلك التي حدثت في 2007/2008 يمكن أن تؤدي بسهولة إلى تعطيل الإمدادات والخدمات اللوجستية التجارية
استراتيجية الأمن الغذائي الإماراتي:
تضمنت رؤية الإمارات عام 2051، استراتيجية أطلقتها عام2017 ترتبط بالأمن الغذائي والمعنية بتحقيق التمكين للإنتاج الغذائي المستدام، عبر ثلاثة محاور رئيسة هي: تسهيل تجارة الأغذية على المستوى العالمي، وتنويع مصادر الاستيراد للمنتجات الغذائية، وأخيرًا تحديد العمل على خطوط توريد بديلة تشمل من ثلاثة إلى خمسة مصادر لكل صنف غذائي ضمن الـ 18 صنفًا أساسيًا للنظام الغذائي المحلي، وذلك تفاديًا للأزمات.
تتطلع دولة الإمارات عبر تلك الاستراتيجية إلى أن تصبح ضمن الدول الأفضل عالميًا في مؤشّر الأمن الغذائي عالميًا وذلك بحلول عام 2051. على المدى القصير، تستهدف الدولة وضع نفسها ضمن أفضل عشر دول في هذا المجال بحلول عام 2021، كما تستهدف تطوير إنتاج محلي مستدام عبر استخدام التكنولوجيا في إنتاج كامل السلاسل القيّمة غذائيًا.
يمكن النظر أيضًا إلى المبادارات المقدمّة من الدولة لتعزيز قدرات البحث العلمي والتطوير في مجال الزراعة وإنتاج الغذاء، ومشروعاتها الخاصة بتطوير برنامج معني باستزراع الأحياء المائية في إطار خطة متوسطة المدى وأكثر استدامة لتحقيق أهدافها على المدى القريب والمتوسط.
على الصعيد الاقتصادي والقانوني، هناك تسهيلات كبيرة تقدمها دولة الإمارات في إجراءات ممارسة الأعمال الخاصة بقطاع الإنتاج الزراعي، مثل تسهيل إجراءات التعاقد الزراعي ودعم نظم التمويل الخاصة بالنشاطات الزراعية وقطاع الأغذية بشكل عام، وتحاول أن توائم الرسوم الزراعية المحلية مع نظيرتها الدولية للعمل على تحسين الإنتاج المحلي.
تشتمل إجراءات الدولة الجانب الاجتماعي لتحقيق أفضل كفاءة، حيث تقوم بحملات تشجيع عامة على استهلاك المنتجات المحلية الطازحة بدلًا من المنتجات المستوردة، كما تعمل على الحد من فقد وهدر الغذاء من خلال تطوير منظومة متكاملة لخفض نفايات الطعام ضمن سلاسل التوريد، وتسهيل إنشاء بنوك الطعام المتعددة على امتداد الدولة.
ومن خلال تطوير البحث العلمي، تسعى الإمارات ليس لإنتاج الغذاء فحسب، بل العمل على ضمانات السلامة للأغذية وتحسين نظم التغذية عبر أنحاء البلاد، كما ابتكرت الدولة برامج تدريبية تعنى بالسلامة الغذائية الوطنية، وتعزز إجراءات السلامة والوقاية في مجال الإنشطة التجارية الخاصة بالغذاء.
بين الواقع والمأمول:
تقوم دولة الإمارات، التي تستورد 85٪ من غذائها، بتدخلات استراتيجية لتحسين كفاءة مزارعها لتحقيق الاكتفاء الذاتي. كجزء من استراتيجيتها، تريد الدولة رفع متوسط دخل المزرعة والقوى العاملة الزراعية بنسبة من 5 إلى 10 % على التوالي إلى جانب تقليل كمية المياه المستهلكة للري. يعزز مشروع وادي تكنولوجيا الغذاء الذي أطلقته دبي مؤخرًا التزام الدولة بأن تصبح رائدة عالميًا في إنتاج الغذاء المستدام.
في تصريحات سابقة، أوضحت وزيرة الأمن الغذائي الإماراتي مريّم المهيري في حديثها عن الزراعة الدقيقة: “نريد استخدام الطائرات بدون طيار وأجهزة استشعار دقيقة لفهم ما يحتاجه كل فدان من الأرض وما لا يحتاج إليه بشكل تفصيلي”.
من المفترض أن تقلل هذه التقنيات المدخلات البترولية وآثارها الكربونية، وبناءً على ذلك، ضاعفت الإمارات استثماراتها في البحث والتطوير لضمان ممارسات زراعية مستدامة ومبتكرة. كما كشفت الوزيرة أنّ الكثير من الشركات التي تم إنشاؤها في الإمارات العربية المتحدة تستخدم الأموال للابتكار إلى جانب توفير التكنولوجيا للدول المجاورة.
تُظهر بيانات وزارة التغير المناخي والبيئة أنّ الإمارات العربية المتحدة لديها أكثر من 177 مزرعة متطورة تستخدم التقنيات الزراعية الحديثة والزراعة المائية وأكثر من 100 كيان في الزراعة العضوية. وأشاد الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لشركة “أجريتكتشور” Agritecture، هنري جوردون سميث، وهي شركة استشارية عالمية للزراعة الحضرية بالإمارات لإعادة تصميم المشهد الزراعي، قائلاً إن الدولة تتمتع بالظروف المناسبة لتكون رائدة عالميًا في مجال الزراعة الحضرية التجارية.
يُنظر إلى النمو المطرد لصادرات الإمارات العربية المتحدة من الأطعمة والمشروبات، على أنّه علامة على نضوج قطاع تصنيع المواد الغذائية في الدولة. وتؤكد الهاشمي أن هذا يتماشى مع أجندة الأمن الغذائي الوطني لدى الإمارات، وتلتزم غرفة دبي بتوفير الفرص العالمية لشركات المأكولات والمشروبات من خلال تعزيز مكانة الإمارة الصغيرة كمركز مفضل لإعادة تصدير المنتجات الغذائية، في الشحن التوربيني للقطاع الزراعي في البلاد. تزرع البذور في “أجريتكتشور” وتأمل الدولة أن توفر الاستراتيجية فرص عمل جديدة وتجمع 6 مليارات دولار لاقتصاد البلاد. جدير بالذكر أنّ قطاع الأغذية والمشروبات في البلاد ينمو بشكل مطرد ليصل إلى 20 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من عام 2021، وفقًا لبيانات غرفة دبي.
خطوات نحو أمن غذائي مستدام:
في مطلع شهر مايو من عام 2021، أطلقت دبي المرحلة الأولى من “وادي تكنولوجيا الغذاء” وهي مدينة حديثة، على آمل أن تصبح بمثابة وجهة عالمية للشركات الناشئة وخبراء الصناعة في النظام البيئي الغذائي ومحرك رئيسي لاقتصاد الإمارة.
وفي تصريحات له خلال افتتاح المدينة، كشف الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس الدولة وحاكم دبي، عن “المدينة” التي تستهدف المساعدة في تطوير الزراعة العمودية وتقنيات الزراعة المتقدمة الأخرى وتعزيز الأمن الغذائي لدولة الإمارات. يهدف المركز المتطور إلى مضاعفة إنتاج الغذاء في الإمارات ثلاث مرات وجعل الدولة أكثر استدامة، إذ تمّ تطويره من خلال شراكة بين وزارة الغذاء والأمن المائي وشركة “وصل” العقارية. تضم المدينة عدّة مرافق أهمها، مرافق البحث والتطوير، ومركزًا للابتكار، ومركزًا لوجستيًا ذكيًا للأغذية، ومناطق للزراعة الرأسية.
تتجاوز تجارة المواد الغذائية في دولة الإمارات 100 مليار درهم (27.2 دولار) سنويًا. ما يجعلها مركز عالمي للخدمات اللوجستية الغذائية، من خلال خلق بيئة مواتية للأعمال التجارية الزراعية لتطوير تقنيات زراعية جديدة وتعزيز أمن الإمارات الغذائي في المستقبل.
فضلاً عن “وادي تكنولوجيا الغذاء” ستكون هناك أيضًا منطقة اقتصادية؛ حيث من المتوقع أن ينمو حجم سوق التكنولوجيا الزراعية من 13.5 مليار دولار إلى 22 مليار دولار على مدى السنوات الأربع منذ تأسيس المدينة.
أدرجت وزارة التغير المناخي والبيئة ضمن هيكلها التنظيمي 2017 هدفاً خاصاً بالأبحاث تحت عنوان: “تطوير وتطبيق استراتيجية لإدارة الأبحاث الزراعية ووضع خطة عمل مرحلية للتجارب والأبحاث التي ستجرى بالوزارة”، وضمنت الخطة الخمسية للوزارة 2017-2021 خطة تشغيلية للأبحاث الزراعية ضمن مبادرة تسمى دعم الممارسات المبتكرة بالمجالات الزراعية والحيوانية والخضراوات والفواكه والتمور والمحاصيل الحقلية والمنتجات الحيوانية.
ووفق بيانات الوزارة لعام 2020، استطاعت الدولة أن تحقق نسباً عالية من الاكتفاء الذاتي في العديد من المنتجات الزراعية مثل التمور بنسبة 100%، أما اللحوم الحمراء والدواجن بلغت نسبة الاكتفاء الذاتي فيها %33 وبلغت في الخضروات نحو 50% هذا الى جانب زيادة المساحات الخضراء في بيئة شحيحة المياه وجغرافيا قاسية، ما صار يصب في صالح حماية البيئة والتغيّر المناخي الذي تعمل الدولة لأجل مكافحته على التوازي.
إدماج التكنولوجيا لتحقيق الأمن الغذائي:
قبل الوباء، كان يمكن اعتبار الإمارات العربية المتحدة آمنة غذائيًا بسبب قوتها الشرائية المرتفعة، والتي مكنتها من استيراد 90٪ من احتياجاتها الغذائية بنجاح، على الرغم من الاضطرابات التي وقعت في سلاسل التوريد، ومع ذلك، اكتسب “الأمن الغذائي” دلالات جديدة، بما في ذلك سلاسل التوريد القريبة من الشاطئ وإنتاج الغذاء المحلي.
في الوقت نفسه، تعد الإمارات العربية المتحدة أيضًا مركزًا تجاريًا، حيث تعيد الإمارات تصدير ما يقرب من 70 % من وارداتها الغذائية إلى اقتصادات أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهذا يعني أن الأمن الغذائي الإماراتي له أبعاد إقليمية.
بالنسبة للبلدان ذات القابلية المنخفضة للزراعة، مثل الإمارات، يتطلب الأمر استراتيجية شاملة لإعادة هيكلة المنظومة الخاصة بالأمن الغذائي، وهو ما تقوم به الإمارات بالفعل. تعتبر 0.5٪ فقط من إجمالي مساحة اليابسة صالحة للزراعة في دولة الإمارات. ومع ذلك، فإن الجزء الصغير من الأراضي الزراعية يمثل 60 %من إجمالي استخدام المياه في البلاد، بينما يضيف 1 % فقط إلى الناتج المحلي الإجمالي.
للتعويض عن الإنتاجية المهدرة، يُشدد صانعو السياسات على تقنيات ذات تكنولوجيا متطورة مثل الزراعة المائية، حاويات الشحن، الزراعة الدقيقة باستخدام غرف الضغط العالي، والزراعة المعيارية الساحلية والداخلية. أدى هذا التحول إلى نمو المزارع المائية من 50 مزرعة في عام 2009 إلى أكثر من 1000 مزرعة عام 2021.
أتاح هذا الابتكار والحلول المرتبطة به، إنتاجية عالية في الزراعة الصحراوية، وأثبت أنّ الوسط الرملي القابل للتنفس يقلل من المياه المطلوبة في الري بنسبة كبيرة تصل إلى 80 % مقارنة بالزراعة التقليدية، كما يمكنه إنتاج محاصيل متنوعة بكفاءة عالية ومستدامة.
وفقًا لبيانات هيئة الإمارات للمواصفات والمقاييس ESMA، نما عدد المنتجات العضوية بنسبة 89 % إلى 2356 % في عام 2019. زاد هذا الاهتمام في أعقاب الوباء، مع رغبة المستهلكين في زيادة الإنفاق على المنتجات العضوية المعتمدة.
كان لهذه الاستراتيجية متعددة الجوانب تأثير فوري بعد إطلاقها في عام 2017؛ حيث انتقلت دولة الإمارات العربية المتحدة من المركز 31 في عام 2018 إلى المركز الحادي والعشرين في عام 2019 على مؤشر الأمن الغذائي العالمي، فيما تستمر جهود الدولة للمضي قدمًا لتحقيق ما تصبو إليه من أن تصبح ضمن أفضل عشر دول في مجال الأمن الغذائي.
ختامًا.. قد تمتلك الإمارات جوانب فريدة في تحقيق أمنها الغذائي، وأهمها الموارد المالية والاستثمارية الهائلة التي قد لا تتوفر لكل دول المنطقة العربية. ومع ذلك، تظل هذه التجربة رائدة في شمولية وتعقد العوامل التي تساعد على تحقيق الأمن الغذائي، كما يتضح في استراتيجية 2051. لا يتعلق تحقيق الأمن الغذائي فقط بتوفير الغذاء للعدد الأكبر من السكان، بل بمنع أن يكون نقص إمدادات الغذاء عامل تهديد للمستقبل ولخطط التنمية.