نتج عن التغيرات المناخية، لاسيما الاحتباس الحراري، ذوبان كتل كبيرة من الجليد بالقطب الشمالي، الأمر الذي أدى إلى ظهور الثروات الطبيعية الراقدة في أعماقه. قدرت هذه الثروات وفقا للمسح الجيولوجي الأمريكي إلى أن القطب الشمالي يحتوي على أكثر من ٢٥٪ من الاحتياطات العالمية غير المكتشفة من النفط والغاز، وقدر النفط بحوالي ٩٠ مليار برميل والغاز بنحو ٥٠ تريليون متر مكعب، هذا إلى جانب احتياطي كبير من الماس والذهب والبلاتين والنيكل والقصدير والرصاص.
تشير هذه الأرقام إلى احتمالية صراع كبير على هذه الموارد لاسيما موارد الطاقة. وتتشارك خمس دول فقط في موارد القطب الشمالي هي روسيا والولايات المتحدة وكندا والدنمارك والنرويج. وينظم العلاقة بينهم الاتفاقية الدولية لتقسيم الجرف القاري الصادرة عام ١٩٨٢، وعلى الرغم أن الاتفاقية قد حددت الحدود الاقتصادية لكل دولة والمقدرة 200 ميل بحري، إلا أن الدول الخمسة قد قامت بمد حدودها شمالاً على أمل الاستفادة الأكبر من تلك الثروات. وتنظر دولة الإمارات أيضًا إلى المنطقة كنافذة لتحقيق استراتيجيتها في تعزيز دورها في سوق الطاقة والتجارة الدولية من خلال الشراكة مع روسيا.
طموحات روسيا في القطب الشمالي
تمتلك روسيا النصيب الأوفر من ثروات القطب الشمالي بحكم المساحة الهائلة المطلة عليه إذ تمتلك ٥٣٪ من الشواطئ المطلة عليه، كما تمتلك أكبر الحقول النفطية من الغاز والبترول. ويشمل هذا حقل “يامال” للغاز الطبيعي المسال في شمال غرب سيبيريا، والذي شكل 5٪ من صادرات الغاز الطبيعي المسال العالمية في عام 2020، كما قامت بتطوير مشروع الغاز الطبيعي “المسال-2 ” في القطب الشمالي الذي تبلغ كلفته 23 مليار دولار، والمقرر أن يصدّر أولى شحناته في عام 2023، ومشروع “سخالين-2” للتنقيب عن النفط والغاز في أقصى شرق روسيا.
وعلى الرغم من هذه الثروات الهائلة، إلا أن روسيا تفتقر إلى التكنولوجيا اللازمة للاستفادة من هذه الحقول إضافة إلى تكنولوجيا تشغيل خط الملاحة البحري بالقطب الشمالي. تعتمد روسيا في بناء كاسحات الجليد الحديثة على الشركات الأجنبية خاصة الشركات الكورية، كما تعتمد في تشغيلها على المهندسين البحريين الأمريكيين والفنلنديين، إلى جانب الشركات الفرنسية التي تحتكر تكنولوجيا نقل الغاز الطبيعي المسال.
ونتج عن الحرب الروسية في أوكرانيا فرض عدة عقوبات دولية تهدد الطموح الروسي عن استغلال تلك الثروات النفطية والطريق الملاحي الجديد؛ إذ نصت العقوبات المفروضة على روسيا تجميد عقود تسليم السفن اللازمة لشحن الوقود، كذلك أصبحت طلبات الشراء غير مضمونة نتيجة إدراج الشركاء والعملاء الروس لأحواض السفن الدولية على قوائم العقوبات، إضافة إلى إعلان الشركات الكورية امتثالها للعقوبات الدولية على روسيا وبالتالي إيقاف العمل بناء 35 سفينة نقل الغاز المسال لروسيا.
الاستراتيجية الإماراتية في مجالي النقل والطاقة العالمية
كدولة بحرية ومركز شحن عالمي، تعد مشاركة الإمارات العربية المتحدة في المجال البحري في القطب الشمالي جزء من استراتيجيتها الأوسع لتعزيز مكانتها كلاعب رئيسي في قطاعي الشحن والخدمات اللوجستية.
تسعى شركة موانئ دبي العالمية لتأكيد مصلحتها الحيوية في تطوير طرق القطب الشمالي؛ لأنها تقصر إلى حد كبير وقت العبور بين آسيا وأوروبا. كما إن دخولها في منطقة القطب الشمالي للشحن سيمكن الإمارات من الحصول على موطئ قدم في منطقة بحرية ناشئة سريعة، ومهمة من الناحية الاستراتيجية، وترسيخ مكانتها كمركز تجاري ولوجستي عالمي، وتقوية علاقاتها مع روسيا.
ساهمت هذه الظروف في تحفيز مسار العلاقات الإماراتية الروسي. ولا يتضح التقارب بين الجانبين في سلوك أبو ظبي التصويتي حيال الأزمة الروسية الأوكرانية فقط، بل أيضًا في تداخل المصالح بين البلدين في مجالي الطاقة والنقل الدولي. اتضح ذلك خلال اجتماع أوبك + الأخير عندما عارضت الإمارات خطة تمديد حصص إنتاج النفط إلى العام المقبل. وذلك من أجل تمكين موسكو من تكثيف إنتاج وتوزيع طاقتها في القطب الشمالي.
تستهدف الإمارات تنويع شراكاتها الاستراتيجية وتوسيع قدراتها المحلية لتقليل اعتمادها على استيراد الغاز وتحاول الإمارات الاكتفاء ذاتيا بحلول عام 2025، إضافة إلى أنها تسعى إلى أن تتحول من المركز السادس إلى الدولة الأولى عالميًا من حيث احتياطيات النفط والغاز. وتنتهج الإمارات سياسة خارجية أكثر نشاطًا لتحقيق ذلك، وتواصلها مع الصين وروسيا مستخدمة في ذلك قدرتها الهائلة في الاستثمار في الخارج، وجهودها لزيادة الأمن عبر الاعتماد على الذات.
الاستثمارات الإماراتية في الحقول والشركات الروسية
بالنسبة للإمارات، فإن الاستثمار الأجنبي وتحويل اقتصادها من صفة الاقتصاد الإقليمي إلى صفة الاقتصاد العالمي هو أولاً وقبل كل شيء مسعًى جيوسياسيًّا يهدف إلى تعزيز أمنها القومي. تحقيقًا لهذه الغاية، فإن الشركات المدعومة من الدولة يتم توجيه استثماراتها في البنية التحتية الحيوية والمشاريع المهمة سياسيًّا في الخارج لتحقيق هدفين : تحقيق الأرباح؛ وتعزيز الشراكات الاستراتيجية وربط المصالح السياسية والاقتصادية مع العديد من القوى الدولية.
ومثال ذلك، توقيع “موانئ دبي” اتفاقية مع شركة روساتوم الروسية المملوكة للدولة للتعاون في تطوير وتشغيل خدمات الشحن على طول الطريق بين آسيا وأوروبا. وبناءً على ذلك، ستشارك روساتوم ، التي تم تعيينها لإدارة طريق القطب الشمالي ، وموانئ دبي العالمية في تصميم أسطول من سفن الحاويات من الدرجة الجليدية التي سيتم نشرها بعد ذلك على طول الطريق المذكور في عام 2025. ما هو أكثر من ذلك، تسعى الشركتان للمشاركة في تطوير الموانئ على طرفي الطريق في مورمانسك وفلاديفوستوك؛ حيث يمكن نقل الحاويات من السفن ذات الطبقة الجليدية إلى السفن العادية.
يمكن التأكيد على أهمية هذه الصفقة، وذلك للأسباب التالية:
- أصبح الشحن في القطب الشمالي “عملًا جديدًا على نطاق عالمي”.
- أن عددًا متزايدًا من البلدان والشركات تشارك وجهة نظر الدولة الروسية بشأن جدوى الطريق كبديل لطرق التجارة القائمة بالفعل بين آسيا وأوروبا.
- من الناحية السياسية، يعد هذا بمثابة علامة أخرى على العلاقات المزدهرة بين الاتحاد الروسي والإمارات.
- من الناحية الاستراتيجية، يعد بمثابة تذكير مهم بأن هناك حاجة متزايدة لإعادة صياغة مفاهيم الحكم في القطب الشمالي كونه أصبح قطباً معولماً.
كذلك وقعت شركة أدونك اتفاقية شراكة استراتيجية مع شركة غازبروم نفط الروسية عام 2019. وتسهم الاتفاقية في تعزيز علاقات الصداقة الوثيقة بين دولة الإمارات وروسيا من خلال الجمع بين اثنين من كبار منتجي الطاقة في العالم لبحث فرص التعاون في مجالات الاستكشاف والتطوير والإنتاج والتكرير والبتروكيماويات، إضافة إلى الذكاء الاصطناعي لتطبيقات التكنولوجيا الحديثة والمبتكرة. كما وافقت شركة مبادلة للاستثمار المملوكة لحكومة أبو ظبي على دفع 271 مليون دولار مقابل حصة 44 بالمئة في شركة نفطية تابعة لعملاق الغاز الروسي غازبروم. وتعد للمرة الأولى التي استثمر أحد أكبر صناديق الاستثمار في الإمارات في الأصول الروسية لشركة غازبروم
وتتضمن الصفقة إنتاج النفط الخام من عدة حقول تديرها شركة غازبروم والتي تغذي خط أنابيب إسبو الذي يزود عددًا من المصافي الصينية وعددًا قليلاً في اليابان. نظرًا لجودة إسبو الروسي الذي يشبه الخام الرئيسي للخام البري الذي تنتجه دولة الإمارات ، فمن الممكن أن تحاول مبادلة الاحتفاظ أو زيادة حصتها في السوق في آسيا.
وتسيطر شركة غازبروم على سبعة تراخيص تحت التربة في تومسك ومنطقة أومسك المجاورة؛ تحتوي هذه الحقول على حقول نفط ناضجة وغير مطورة. وتبلغ احتياطياتها المؤكدة والمحتملة 296 مليون برميل نفط مكافئ، منها أكثر من 80 في المائة من النفط الخام. وفقًا لوزارة الطاقة الروسية، أنتجت الشركة 1.64 مليون طن (33 ألف برميل يوميًا) من النفط في عام 2017، بانخفاض 3٪ على أساس سنوي.
دواعي الشراكة الروسية الإماراتية
إن تعاون روسيا مع الإمارات العربية المتحدة له فوائد اقتصادية، على أساس استراتيجي . ولا يقتصر العمل مع الإمارات على تعزيز نفوذ روسيا في منطقة الخليج وأسواق الطاقة العالمية فحسب، بل يسمح أيضًا لموسكو تقليل اعتمادها على دول مثل الصين لتنمية أقصى شمالها.
تعتمد روسيا بشكل كبير على الطلب الصيني لتصدير غازها الطبيعي المسال من القطب الشمالي، ولكن خارج المشاريع القائمة على شبه جزيرة يامال،رغم ذلك فإن العديد من المبادرات المدعومة من الصين لم تتحقق بعد. على سبيل المثال، تعثرت خطط تطوير طريق الحرير القطبي (امتداد الصين لمبادرة الحزام والطريق في القطب الشمالي) لأن مجموعة “بولي” الصينية لم تنفذ بعد استثماراتها التي تعهدت بها في ميناء أرخانجيلسك للمياه العميقة وطريق بيلكومور السريع الذي سيوحد أربعة مناطق شمال روسيا.
علاوة على هذا، تختلف المصالح الروسية والصينية في القطب الشمالي. في حين أن المنطقة مركزية بالنسبة لمستقبل روسيا الاقتصادي، فإن السياسة الخارجية الصينية وخطط بكين لتنويع الطاقة تركز بشكل أكبر على الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وأفريقيا. لا ترى الصين الطاقة الروسية من القطب الشمالي كمفتاح استراتيجية التنويع الخاصة بها. في الوقت نفسه، ما زالت روسيا تنظر إلى الصين ببعض الشكوك. في عام 2020، ألقي القبض على عالم القطب الشمالي الروسي “فاليري ميتكو” لمزاعم مشاركته أسرار الدولة فيما يتعلق بـ الغواصات الروسية مع الصين.
كانت روسيا من بين دول القطب الشمالي مترددة في البداية في قبول الصين كدولة مراقبة في مجلس القطب الشمالي الحكومي عام 2007 ، وبالتالي، فإن الشراكة الاقتصادية الصينية الروسية لا تمنع الشكوك المتبادلة. في محاولة لتقليل اعتمادها على الصين في تحقيق طموحاتها في القطب الشمالي، تحولت روسيا إلى دول مثل اليابان والهند وكذلك نحو الدول الغنية الأصغر مثل الإمارات لجذب الاستثمار.
كما دخلت روسيا سابقًا في شراكة مع الإمارات للمشاركة في تطوير طائرات مقاتلة من الجيل الخامس والطائرات دون طيار. علاوة على ذلك، تعمل روسيا على تعزيز بنية أمن جماعي جديد في الخليج العربي لحل التوترات الإقليمية من خلال مفاوضات متعددة الصيغ.
مستقبل القطب الشمالي في الاستراتيجية العالمية
لقد حولت البنية التحتية غير الكافية للنقل والاتصالات في القطب الشمالي بناء القدرات إلى أولوية استراتيجية للدول الإقليمية وقناة مفيدة للجهات الفاعلة الخارجية لاكتساب وتعزيز وجودها وتأثيرها في القطب الشمالي. توضح مراجعة أحدث وثائق استراتيجية لدول القطب الشمالي أنها تحدد جميعًا الحاجة إلى التعاون التكنولوجي والاستثمارات المشتركة لبناء بنية تحتية ذكية وخضراء في المنطقة. يتم الرد على هذه الرغبة من قبل الدول غير القطبية الشمالية التي يبدو أنها تنظر إلى بناء القدرات من خلال الاستثمار المشترك كطريقة ذكية لتعزيز موطئ قدمها في المنطقة وتأمين مصالحها التجارية الحيوية.
ستكون الإمارات فاعلاً مهماً في تطوير وبناء قدارت البنى التحتية والخدمات في القطب الشمالي، وهي الاستراتيجية التي تتبعها دولة الإمارات دائماً من خلال تعزيز شراكاتها وتواجدها من خلال أن تكون طرفاً فاعلاً في تطوير أو إعادة تأهيل منطقة ما في العالم، أي تعزيز استخدام الشراكات الاقتصادية لدعم جهود التحول لدولة عالمية.
ختامًا.. يعد دخول الشركات الإماراتية كموانئ دبي العالمية وأدنوك إلى القطب الشمالي علامة أخرى على أنه مع تحول القطب الشمالي إلى العولمة، فإن المزيد من البلدان ستسعى لا محالة إلى تأسيس وجود تجاري فيها.
على الجانب الأخر هناك احتمالات لتحول منطقة القطب الشمالي لمنطقة صراع مستقبلي على الموارد، ما قد يهدد مستقبل الاستثمارات هناك. على هذا النحو، قد يكون من المناسب بدء مناقشات دولية حول إطار حوكمة جديد وأكثر مشاركة في القطب الشمالي والتنظيم المستقبلي للاستثمار الأجنبي في المنطقة.