عالم يتغيّر.. أم يستعيد توازنه؟!
تغيّرات جذرية في بنية الاقتصاد العالمي وتكوين النظام الدولي، ربما كانت هذه إحدى الفضائل القليلة للتوسع الحديث في العولمة، وما صاحبها من انفصام جزئي للعلاقة بين رأس المال وأصله القومي، والتي نتجت عن التطورات التكنولوجية والاجتماعية الحديثة في النظام الرأسمالي العالمي، فضلاً عما سبقه من موجات استقلال وسقوط للاستعمار على المستوى العالمي في الستينات؛ ما نتج عنه بالمُجمل ظهور توزيع جديد للقوى والثروات وصعود قوى اقتصادية جديدة خارج المجال الأورو-أميركي؛ ما أحدث تحولًا جذريًا في بنية الاقتصاد العالمي، شارته الأساسية تراجع الغرب إلى حجمه الطبيعي في الاقتصاد العالمي لصالح نمو الشرق واستعادته لمكانته، ما دفع ببعض الخبراء للتذكير بأن وضعية السيادة الاقتصادية المُطلقة التي تمتع بها الغرب في العصر الحديث، لم تكن سوى حدث عابر وواقع تاريخي مُستجد، فحتى أواخر القرن الثامن عشر كانت آسيا التي تمثل 66% من سكان العالم تنتج حوالي 80% من الناتج العالمي.
هذا التحول الكبير رتّب تناقضاتً في القيادة الدولية، بدأت تظهر معالمها في صراعات مكتومة أحيانًا وصريحة أحايينًا أخرى، وفي صعود تكتلات عديدة أهمها تكتل “البريكس” بقيادة الصين وروسيا، الذي بدأ يناطح الغرب جديًا، بمنافسته بشكل حقيقي جزئياً على الموارد والأسواق، مُمهدًا الطريق لنظام عالمي أكثر تعددية، ولعل هذا أكثر جوانب الصورة إضاءة، حيث ستضعف هذه المنافسة هيمنة المراكز الرأسمالية القديمة على الأطراف الرأسمالية الضعيفة -ما يسميه إستراتيجيو الغرب فوضى النظام الدولي!-؛ ما قد يوفّر مجالاً أوسع من حرية الحركة واستقلال الإرادة لتلك الدول التي عانت طويلاً ثقل المصالح الغربية؛ ما يمكّنها من موازنة علاقاتها بتلك المراكز، وتحقيق المزيد من الحرية في بناء سياساتها الوطنية وإستراتيجياتها التنموية.
يأتي صعود الصين، القطب الحضاري القديم، في قلب هذا التغيّر، والتي يكشف الصراع الحالي معها حقيقة النفاق الغربي، ومساوئ هيمنته، فضلاً عن اهتزاز ثقته بنفسه وشعوره بالتهديد بالطبع!
حرب الأفيون: المُفارقة الساخرة للنفاق الغربي!
لم تكن حرب الأفيون مجرد حرب عابرة كغيرها من الحروب، بل يمكن اعتبارها بكثير من الثقة اللحظة التاريخية التي أكّدت بها بريطانيا اكتمال الهيمنة الغربية عالميًا، بوصول جنودها لأراضي “إمبراطورية السماء”، وفرضها إرادتها على الإمبراطورية العريقة التي مثّلت دومًا قطب الشرق الأقصى، وأحد أبرز أعضاء نادي الحضارات البشرية الأولى!
ولعلّ المُفارقة الساخرة في هذه الحرب أنها كانت لسبب مشابه تقريبًا لسبب التذمّر الغربي الحالي من الصين، وهو حالة العجز التجاري المُزمنة معها -وعلى خلفية الطمع في أسواقها وثرواتها بالطبع-، والتي قامت بريطانيا بحلّها في ذلك الحين بالتخريب التآمري إلى آخر القصة المعروفة التي انتهت بتلك الحرب “الخسيسة”، على حد وصف المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي، حينما كان الإيمان المزعوم بـ”حرية التجارة” يصل بالغرب حد اللاهوتية ليفرضها بما يشبه الحروب الصليبية، تلك الحرية التجارية التي تحاول بعض القوى الغربية التنكّر لها اليوم، بعدما انعكست الأوضاع ووجدت نفسها تتدهور قليلاً لموقع الخاسر نسبيًا، ففقدت فجأة إيمانها “الرسالي” الذي كان يدّعي مسئولية حضارية للرجل الأبيض، ليتكشّف عن مجرد إيمان مصلحي مُزدوج المعايير!
وبعيدًا عن المصالح المباشرة الضيقة، ترجع حالة العناد الغربي هذه جزئًيا لاعتقاد راسخ، على وهميته، لدى بعض قطاعات الغرب بأزلية وأبدية قيادته العالمية، فيما يؤكد الواقع التاريخي العكس بالضبط، فكما ذكرنا آنفًا، لم يكن وضع الهيمنة الغربية عبر الثلاثة قرون الماضية الأصل في الأشياء كما تحاول الدعاية الغربية إيهامنا، بتصويرها الإنسان الأبيض وحده صانع الحضارة وحاملها لباقي أجناس الأرض، الأمر الذي تنكره أية مراجعة تاريخية نزيهة للمُنجزات التاريخية المشهودة ولأرقام وإحصاءات الإنتاج والاستهلاك في المجتمعات الشرقية، مما يظهر كيف كان الشرق مُتصدرًا واجهة المشهد وُمحتلاً مساحته الطبيعية، فالحق أنه خلافًا للصورة الشائعة حديثًا، لم تكن القوى الغربية منذ ما يزيد قليلاً عن قرنين ذات شأن اقتصادي بارز، بل ربما يعرف البعض لأول مرة أنه بخلاف القائمة الطويلة من الاكتشافات والاختراعات القديمة التي عُرفت لأول مرة في الشرق عمومًا والصين خصوصًا، كانت الصين أكبر اقتصاد في العالم حتى أوائل العصر الصناعي الحديث؛ ما دفع المفكّر الاستراتيجي الأمريكي “جوزيف ناي” في كتابه “هل انتهى القرن الأمريكي؟” للاعتراض على مقولة “صعود الصين”، مؤكدًا على “تعافي الصين” كوصف أكثر دقة؛ باعتبار ما حدث ليس بالشيء الاستثنائي أو الغريب، بل مجرد استعادة لمكانتها الطبيعية على النطاق العالمي، مع فارق واحد فرضته الرأسمالية الحديثة بطبيعتها العالمية، وهو استحالة العودة لعُزلتها القديمة
بوادر دورة حضارية جديدة: الحكمة الصينية مقابل الطيش الأمريكي!
إذا نظرنا اليوم للحضارة الغربية، في قلبها الأمريكي على وجه الخصوص؛ فسنرى -رغم ما يبدو على السطح من عظمة مادية وفخامة حضارية– تراجعًا ماديًا واضحًا وآفاقًا اقتصادية واجتماعية أقل بريقًا، فضلاً عن أزمات مُتعاظمةً باستمرار، وهشاشة منظومية ظهرت بوضوح مع تهديد وبائي محدود نسبيًا مثل الكورونا!
أما على الجانب الآخر المُتعلق بالقيم الحضارية نفسها، فنرى أزمةً أشد ما تكون وضوحاً في كثير من مراجعات الغرب الفكرية والسياسية التى تلقى رواجاً إعلامياً كبيراً، ومفهومًا! تلك المراجعات -المزعوم علميتها- التي تقودها بعض أجنحة اليمين الغربي على وجه الخصوص، بما تتضمنه من إدعاءات مليئة بالغطرسة العرقية والثقافية والطبقية، تعكس حجم الأزمة التي تعيشها المراكز المهيمنة، التي بدأت تستشعر اهتزاز ريادتها وتراجع مشروعية قيادتها.
يعكس هذا التراجع الدورة الحضارية التقليدية، من صعود فهبوط وتقدم فتراجع، مع ما يصحبه من انتقال لمقاعد القيادة من أمة إلى أخرى، مما تحدّث عنه أفلاطون وابن خلدون وفيكو وتوينبي وغيرهم، وهو التحوّل الذي قد يأخذ مسارًا صداميًا يضير بعالم هشَ أساسًا يعاني أزماتً وإشكالات تبدو مُستعصية، أو مسارًا تعاونيًا في صالح عموم الإنسانية، والذي نرى إمكانيته في ضوء ما يبدو من حكمة كبيرة في تعاطي الصين مع مسألة القيادة الدولية، رغم تراجع القوة “الصلبة” الأمريكية موضوعيًا ونسبيًا، وهى الحكمة التي تدفعنا للتفاؤل ببدء دورة حضارية جديدة بشكل سلمي، بدلاً من الانتكاس إلى جبّة صراعات قد تستطيل لعقود!
هذا التعقّل الصيني في مواجهة العدائية الأمريكية، يقرّ به حتى بعض خصوم الصين، فيذكر الإستراتيجي الأمريكي الأشهر، زبيجينو بريجنسكي، أن لدى الصين التي يتوقعها الجميع وريثًا لأميركا، إرثً إمبراطوري عظيم وتقاليد إستراتيجية صبورة، كان لهما دورًا حاسمًا في نجاحها واستقرارها عبر تاريخها الطويل الممتد لآلاف السنين؛ ما يجعلها تقبل بحكمة بالنظام الدولي الحالي، حتى ولو لم تعتقد في التراتبية السائدة كوضع دائم، فهى لا ترى خيرًا في الانهيار الدراماتيكي للنظام، بل تؤمن بتطوره التدريجي باتجاه إعادة توزيع هادئة وسلسة للقوة والسلطة، كذا تدرك بشكل ما أنها عدم جاهزيتها بعد للعب دور أميركا في العالم بشكل كامل، ما أكده قادة بكين أنفسهم مرارًا، بقناعتهم بحاجة الصين لعدة عقود أخرى من التحديث والتطوير، لتلحق بكامل المستوى التنموي للولايات المتحدة وأوربا واليابان، خاصًة من منظور المؤشرات التنموية على مستوى الفرد.
ماذا تحتاج الصين لإصلاح النظام العالمي؟
على صعيد الصراع نفسه، يتحدث كذلك الإستراتيجي الأمريكي سالف الذكر جوزيف ناي عما يراه لا يزال تفوقًا للولايات المتحدة على الصين، وهو “القوة الناعمة”، ذلك المفهوم الذي ابتكره كأحد العناصر الهامة في العلاقات الدولية، حيث ترتكز تلك القوة على ثلاثة موارد: مدى جاذبية ثقافة البلد للآخرين، مدى قبول واستحسان قيمها السياسية داخل البلد وخارجه، وقدرة سياستها الخارجية على إعطائها مشروعية دولية وسلطة أخلاقية، وكلما قلّ اعتماد البلد على الحكومة وزادت روافدها من ممارسات الأفراد والمجتمع المدني والقطاع الخاص؛ كلما كانت أنجح في صناعة قوتها الناعمة؛ وهو ما يعطي أميركا تفوقًا واضحًا -حتى الآن- على الصين، التي تواجه مصاعبًا في علاقاتها السياسية بجيرانها بسبب نزاعات المكانة واحتكاكات المناطق، كما تعتمد أساسًا على الحكومة ببرامج معونة تلقي ترحيبًا أكثر من مثيلتها الغربية، وتحاول نشر ثقافتها من خلال معاهد كوفوشيوس ووكالات الأنباء الحكومية.
وينتهي ناي إلى موافقة السياسي الصيني يان شيوتنغ على “حاجة بكين لتطوير علاقاتها السياسية والعسكرية بصورة أرقى من واشنطن، إذا أرادت ضمان بيئة دولية مواتية لصعودها، ..، فجوهر التنافس بين الصين والولايات المتحدة سيكون من منهما لديه أصدقاء حقيقيين”، وهو ما يبدو أنه يحدث حاليًا بوتيرة متسارعة في ظل الأداء السيئ والعدائي لإدارة ترامب، التي يعتبرها بعض المحللين قد أخلت الساحة الاقتصادية والدبلوماسية والبيئية للصين لتوطّد مواقعها وتعزّز علاقاتها وتلعب أدوارًا عالمية أكبر، ما أبرزته بشكل خاص أزمة كورونا التي أظهرت تباينًا شديدًا بين كفاءة المواجهة الصينية للمرض واحتواء الحالة الوبائية بسرعة نسبية، وبأقل تكلفة اقتصادية واجتماعية ممكنة، مع تقديم مساعدات كثيرة لكثير من الدول المنكوبة، وحالة تخبط أمريكي وانهيار متسارع في الأداء الاقتصادي مترافقًا مع صعود مخيف في أعداد الإصابات!
ويترافق هذا كله مع ضعف وتخبط في الإدارة الأمريكية لعلاقاتها في محيط الصين؛ ما يعزّز موقفها العسكري في الإقليم، ويقضي على أية فائدة من المساعي الترامبية لإعادة تعزيز التفوق العسكري الأمريكي في بحر الصين وشرق آسيا؛ حيث سيكون الأوان قد فات على الاستفادة من هذا التفوق “المُحتمل” في منطقة غرب المحيط الهادي.
ولعل في كافة هذه التراكمات الأخيرة لصالح الصين، ما قد يدعم قدرتها على تعبئة المزيد من الحلفاء لإنجاز التحوّل الأهم في علاقتها بالغرب خصوصًا، وفي صالح الاقتصاد والنظام العالميين عمومًا، وهو إعادة بناء نظام نقدي ومالي عالمي أكثر حيادًا وعدالة واستقرارًا، لا يعتمد على عملة وطنية واحدة تهيمن عليها حكومة تسيء استخدامها باستمرار لأجل مصالحها القومية الضيقة، وعلى حساب مهامها الدولية المُفترضة، كما فعلت حكومة الولايات المتحدة مؤخرًا –وسابقًا ودائمًا- بضخها أكثر من تريليونيّ دولار لدعم الاقتصاد الأمريكي في مواجهة أزمة كورونا، دون مراعاة للآثار التضخمية الهائلة لهذا السلوك على العملة الدولية، وما يستتبعه من مضار وخسائر اقتصادية على غيرها من بلدان العالم، وبما يخالف دورها كمسئولة عملة السيولة الدولية!
سيكون هذا التحوّل الأخير بالذات –على كل مصاعبه وبسببها بالذات- هدية الصين الكبرى للعالم، والتأكيد النهائي لمكانتها الجديدة، التي ستنهي الهيمنة الأمريكية وتستعيد التوازن الصحي للنظام العالمي.