تشهد العديد من البلدان العربية تعثرًا اقتصاديًّا منذ انطلاق ما سمي ثورات الربيع العربي 2011. وزاد من الأمر سوء وتردي الأوضاع الاقتصادية بعد أزمة كورونا منذ 2019 وحتى الآن؛ وهو ما انعكس على تفاوت وتباين المستوى الاقتصادي ومعدلات النمو. يتطلب هذا تعزيز التعاون الإقليمي بين الدول العربية ذات الفوائض المالية وبين الدول التي تحتاج إلى تدفق الاستثمار المباشر.
من هنا تأتي أهمية إطلاق عدة مشروعات إقليمية تكاملية تهدف إلى تعزيز الاستثمارات العربية البينية وتسهيل الإجراءات الجمركية بين البلدان العربية، ومن بين هذه المشروعات: تطوير البنية التحتية في مجالات النقل متعدد الأنماط، مشروعات الربط الكهربائي والطاقة. يمكن لهذه المشروعات أن تمهد لنوع من التكامل العربي الذي لم يتعد خلال العقود الماضية حدود اللغة نظرًا إلى افتقاره أدوات التنفيذ وغياب دور القطاع الخاص في شكل فعلي عن التنفيذ. والأهم من ذلك كله الرؤية السياسية الواضحة.
مشروعات النقل الإقليمي
تتعدد مشروعات التواصل والربط الإقليمي ما بين مشروعات النقل المتعدد الأنماط، والربط الكهربائي ومشروعات الطاقة، وفيما يلي الأهمية الاقتصادية والسياسية لكل منهم:
يعد النقل بحد ذاته قطاعًا منتجًا اقتصاديًّا من خلال القيمة المضافة التي تحققها عملياته المختلفة، سواء منها القيمة المضافة المكانية، والتي تتحقق بنقل البضائع والسلع من أماكن إنتاجها إلى أماكن الطلب عليها بالتكلفة المنافسة، أو القيمة المضافة الزمانية المتأتية من تأمين بعض السلع في أسواق استهلاكها وفي الزمن المطلوب بدقّة. ومن ناحية أخرى، لا يمكن الاستغناء عن النقل في تحقيق القيمة المضافة في بقية القطاعات الاقتصادية؛ إذ لابد من إيصال المنتجات الزراعية أو نصف المصنّعة أو المعدات والآلات من مكان إنتاجها إلى مكان استهلاكها أو استخدامها لإغلاق الدائرة التي تسمح بتحقيق القيمة المضافة في أي قطاع من القطاعات.
من هنا، تأتي أهمية النقل إلى البلدان العربية إذ يشكل الموقع الجغرافي للمنطقة العربية ميزة جغرافية هامة، كممر عبور إجباري لتبادل السلع والمنتجات والترانزيت الجوي؛ إذ يتم نقل البضائع بحرًا عبر محور رئيسي للنقل البحري يمتد بين الصين شرقًا وشمال أوروبا وأمريكا غربًا. ويخدم هذا المحور عددًا كبيرًا من الموانئ البحرية العربية الرئيسة التي تقع على امتداد مساره عبر الخليج العربي “البصرة والكويت ودبي والشارقة”، وبحر العرب “صلالة وعدن”، والبحر الأحمر “جدة والعقبة وسفاجا”، والبحر الأبيض المتوسط “الإسكندرية، وبورسعيد، ودمياط، وبيروت، واللاذقية،” وصولا إلى ميناء طنجة على البوابة الأطلسية للبحر الأبيض المتوسط،
بالتكامل مع النقل البحري الدولي للبضائع، تتبدى أهمية الموقع الجغرافي للبلاد العربية في مجال النقل الجويّ، من خلال الموقع المتوسط للمنطقة العربية بين شمال غرب أوروبا من ناحية وجنوب شرق آسيا من ناحية ثانية، حيث شهدت العديد من شركات الطيران العربية، وعلى الأخص الخليجية، ازدهارًا كبيرًا في نقل الركاب بالترانزيت بين شمال غرب أوروبا وجنوب شرق آسيا مرورًا بعدد من المطارات الرئيسة التي تم تطويرها لهذه الغاية في منطقة الخليج العربي، مثل مطارات دبي وأبوظبي والدوحة.
لكنّ الميزة التقليدية للموقع الجغرافي للمنطقة العربية معرضة للتهديد في المستقبل، بتأثير عوامل ومشروعات مختلفة، مما قد يقلّص الموارد المتاحة من خدمات النقل بالترانزيت عبر المنطقة العربية بشكل كبير. ومن أهم هذه العوامل: مبادرة الحزام والطريق الصينية؛ وفتح الملاحة البحرية التجارية بين آسيا وشمال أوروبا عبر المحيط المتجمد الشمالي؛ واحتمال تراجع دور النفط والغاز كمصدر رئيسي للطاقة في العالم بضغط الهواجس البيئية.
إن مثل هذا التحول، في حال ثباته، يطرح تحديات جدية أمام قطاع النقل البحري العربي، الذي سيفقد المزايا التي يستفيد منها حاليًا من حركة النقل البحري عبر المحور الرئيس شرق/غرب العابر لقناة السويس. وسيكون من الضروري بذل الكثير من الجهد على مستوى التكامل التجاري بين البلدان العربية، وبينها وبين أوروبا وآسيا من أجل تحقيق حركة كافية في موانئ الارتكاز البحرية الرئيسة تعوض الخسائر المحتملة من تغيُّر المحور الرئيس للنقل البحري وانتقاله إلى المحيط المتجمد الشمالي.
كما أن تراجع الطلب الإجمالي المحتمل على الوقود الأحفوري في العالم سيؤدي إلى تراجع حركة نقل النفط من المنطقة العربية إلى العالم، وكذلك إلى تراجع الإيرادات المتأتية عن استخراج وتصدير النفط، الأمر الذي قد يسبب نقصًا كبيرًا في الموارد اللازمة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان ذات الاعتماد الكبير على تصدير النفط. ويتضمن هذا تراجع إمكانية تطوير البنى التحتية لشبكات النقل الذي يستلزم تكاليف باهظة وتراجع إمكانية الحفاظ على المستوى المطلوب للخدمة والسالمة الذي يستلزم نفقات عالية للصيانة.
مشروعات الربط الكهربائي والطاقة
تكمن أهمية مشروعات الربط الكهربائي بين البلدان العربية في النواحي الاقتصادية إلى جانب النواحي الفنية المتعلقة بالكهرباء، وتنقسم النواحي الاقتصادية المتعلقة بالربط الي منافع اقتصادية رأسمالية ومنافع اقتصادية تشغيلية، تتعلق بالمنافع الرأسمالية في الوفرة في تكاليف بناء وتشييد محطات الكهرباء الجديدة، وذلك لإمكانية الاستفادة من المحطات الموجودة بالفعل في دول الربط الكهربائي لتلبية القدرات المطلوبة في أوقات الذروة.
تتعلق المنافع التشغيلية لمشروعات النقل بالوفر في تكاليف التشغيل والصيانة لوحدات محطات التشغيل، إضافة الي تقليل الخسائر الناتجة عن انقطاع التيار الكهربائي في قطاع الصناعات التشغيلية. هذا بالإضافة الي زيادة معدلات التبادل التجاري البيني بين الدول العربية نتيجة الربط. كذلك إتاحة المجال أمام استخدام خط الألياف الضوئية المصاحب لخط الربط الكهربائي في تعزيز شبكات الاتصالات ونقل المعلومات بين البلدين والدول العربية والدول المجاورة لها مما سيزيد المردود الاقتصادي للمشروع.
يعد مشروع الربط الكهربائي بين مصر والسعودية الذي تم توقيعه عام 2021 بتكلفة 1.8 مليار دولار، خطوة لعمل عربي مشترك ينتقل للتعاون مع دول العالم لاحقا وبلا شك سيسهم في تعزيز مكانة كل من السعودية ومصر بصفتهما محورين رئيسيين للربط العربي الشامل. وسيكمل المشروع عند إنجازه منظومة الربط الكهربائي بين دول مجلس التعاون الخليجي، ودول ربط المغرب العربي، كما يعد المشروع نواة للسوق العربية المشتركة.
كذلك يعيد المشروع إحياء مشروعات سابقة مثل مشروع الربط الثُماني الذي يضم ليبيا، ومصر، والأردن، وفلسطين، وسوريا، والعراق، ولبنان، وتركيا، تربط شبكتها الكهربائية الوطنية مع بعضها البعض خلال فترات زمنية متفاوتة، ومن ثم تستثمرها في دعم احتياجات بعضها من الطاقة أصبح هذا المشروع يعرف باسم الربط الثماني (EIJLLPST)، وهو يمثل الحرف الأول من اسم كلّ من الدّول الثمانية.
إلا أن هذا المشروع توقف مع ما سمي بأحداث الربيع العربي، وانخراط تركيا في بعض الصراعات العربية سوريا وليبيا والعراق. واليوم ومع قرب نجاح ربط ثلاث دول هي سوريا والأردن ولبنان فإنه يمكن إعادة طرح تشغيل مشروع الربط الكهربائي بين دوله العربية إلى جانب مشروعات أخرى للطاقة، تكون نواة للوصول إلى مشروع السوق العربية المشتركة للكهرباء والذي يفترض أن تنفذ مرحلته الأولى خلال الفترة بين العامين 2019-2024.
كيف يمكن تعزيز مشروعات الوصل الإقليمي العربي؟
يمكن تعزيز مشروعات التواصل من خلال عدة أطر تتراوح بين القانوني والتقني والمؤسسي. يتمثل الإطار القانوني والتشريعي في حث أغلب الدول العربية من خلال جامعة الدول الي الانضمام الي الاتفاقيات الدولية والإقليمية اللازمة لتفعيل منظومة النقل متعدد الوسائط والأنماط ومنها:
- الاتفاقية الأوروبية المتعلقة بالنقل الدولي على الطرق للبضائع الخطرة؛
- الاتفاقية الدولية لمواءمة الضوابط الحدودية لمراقبة البضائع؛
- اتفاقية عقد النقل الدولي للبضائع على الطرق؛
- الاتفاقية الجمركية للحاويات؛
- اتفاقية لافتات وإشارات الطرق؛
- الاتفاقية الدولية لسلامة الحاويات؛
- اتفاقية السير على الطرق.
هذا بالإضافة إلى ضرورة وضع تشريع موحد عربي ملائم للنقل متعدد الوسائط، ويمكن في ذلك الاعتماد على أحد بيوت الخبرة الأجنبية بإعداد مسودة القانون، بالإضافة الي العمل على تبسيط إجراءات التجارة الخارجية والنقل الدولي للبضائع، وخاصة الإجراءات الحدودية، وهذا المطلب يستوجب التركيز عليه وضرورة الاستفادة من التجارب الدولية في تبسيط الإجراءات.
تقنيًّا، من الضروري توسيع التعاون العربي في إعداد وتطوير البنية التحتية لمطابقة المواصفات الدولية لدى أغلب البلدان العربية؛ إذ تحتل البنية التحتية في قطاع النقل أهمية كبيرة وتعتبر ركيزة أساسية لتنفيذ منظومة النقل متعدد الوسائط، كما أن تجارب التنمية الناجحة أوضحت أن إنشاء طاقة كبيرة من البنية التحتية من طرق وموانٍىء ومطارات وسكك حديدية يعد مطلبًا رئيسًا للتنمية. كذلك يتطلب الأمر إعادة تفعيل مشاريع الربط السككي بين الدول العربية وبعضها وكذلك بين الدول العربية ودول الجوار المحيطة.
يعد دعم المؤسسات العربية الخاصة ضرورة لتسهيل عمليات الوصل العربي. ويمكن لمؤسسات مثل الاتحاد العربي للنقل البري، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي القيام بدور فعال. ويمكنها أيضًا تقديم الدعم للدراسات التي تعزز قدرة البلدان العربية على التواصل البيني والوصول إلى شكل من أشكال الربط السككي العربي، وإعادة طرح مشروعات ربط سكك الحديد بين دول المشرق العربي ودول المغرب العربي. مع التأكيد على أهمية توحيد أسس التشغيل المشترك والاتفاق على الإجراءات على الحدود المشتركة بين البلدان العربية والتعديلات التشريعية والإدارية التي ستُتخذ في كل بلد عربي لتحديد خط الربط من خلال برنامج زمني على ثلاث مراحل قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى.
هناك أيضًا إطار يتعلق بتعديل وتطوير الاتفاقيات الجمركية بين الدول العربية خاصة إشكالية قواعد المنشأ التي تعد من معوقات زيادة التبادل التجاري؛ حيث تنص الاتفاقيات على إعفاء السلع ذات المنشأ العربي من الرسوم الجمركية. نجد بعض السلع والمواد غير ذات المنشأ العربي تستفيد من هذه الإعفاءات، كذلك يتطلب الأمر التغلب علي بعض القيود الخاصة بالإجراءات الإدارية والبيروقراطية واشتراط الحصول على العديد من التراخيص والإجراءات والوقت الذي يتطلبه الإفراج عن البضائع يُحمّل المصدّرين تكاليف إضافة المغالاة في التعريفات الجمركية بالدول العربية خاصة غير النفطية والتي تعتبر من أعلى المعدلات في العام وتتراوح نسبة ضريبة الجمارك إلى الواردات ما بين 34-49% مما يجعلها من أعلى المعدّلات في العالم، ومما يؤدي إلى ارتفاع التكلفة ومن ثمّ تحويل التجارة في حين أن خفض التعريفة الجمركية وإزالة العقبات الكمية والنوعية يؤدي إلى زيادة التجارة وهو الهدف من الانضمام إلى التكتل الاقتصادي.
تبقى ضرورة إيجاد سياسة عربية متكاملة للنقل بتقسيم المنطقة إلى مناطق فرعية متعددة ترتبط كل منطقة منها بخطة واحدة تكون أكثر تماشيًا مع واقع ظروف كل منطقة وذلك فى إطار سياسة عربية شاملة للمنطقة العربية كلها لتعمل على تنسيق الأهداف بين المجموعات الفرعية تبعًا لاستراتيجية موحدة في سبيل الوصول تدريجيًّا إلى الوحدة الاقتصادية، وخاصة فى ظل المتغيرات العالمية. لذلك فإن إيجاد سياسة عربية متكاملة هو هدف أساسي للدول العربية. ومن صعوبات تطبيق هذا الفكر هي النزاعات الحدودية المنتشرة بين كل دولة وجيرانها، ولذلك فإن المنطق يقتضي أن تسير الدول العربية في طريق المصالحات السياسية، وعليه فإن تكوين حلقات من النقل ما بين الدول العربية مطلب أساسي لخلق سلسلة واحدة قومية فى ظل استراتيجية واحدة، وهذه الحلقات يقترح أن تكون كما يلي:
- الحلقة الأولى وتشمل: دول الجزيرة العربية بالإضافة إلى انضمام مصر كحلقة ربط؛
- الحلقة الثانية وتشمل: سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق بالإضافة إلى مصر كحلقة ربط؛
- الحلقة الثالثة وتشمل: ليبيا ومصر والسودان والصومال.
- الحلقة الرابعة وتشمل: دول المغرب العربي، موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس بالإضافة إلى انضمام مصر كحلقة ربط.
لا يتعارض هذا مع اتجاه الدول العربية نحو إيجاد منطقة اتحاد جمركي للدول العربية، حيث أن نظرة وضع خطة استراتيجية للنقل مكونة من حلقات جغرافية متماسكة ستسهل من إزالة العوائق الجمركية والضريبية والإدارية في وجه انتقال عناصر الإنتاج بسهولة وفى وجه تدفقات التجارة داخل منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، مما سينعكس بالتالي في المستقبل على تقوية دعائم التجارة البينية العربية.